متاهة البحث عن الجاني من 11 سبتمبر إلى مي شدياق:
هل الإسلاميون مجرد وقود في معركة بين أمريكا والمحور الفرنسي الألماني؟

عقب حادثة الاعتداء البشع على الصحفية اللبنانية مي شدياق أطلق وزير الداخلية اللبناني حسن السبع تصريحا توقفت أمامه طويلا لدلالاته الخطيرة إذ قال – وهو مسئول أمني رفيع – إن السلطات المعنية بالوضع الأمني تواجه "شبحاً ارهابياً" (الشرق الأوسط اللندنية 27 /9 /2005)، وهذا الشبح الذي يروع لبنان هو نفسه الذي يروع العالم منذ جريمة الحادي عشر من سبتمبر.
وما زال 11 سبتمبر نفسه يشعل سجالات ساخنة شرقا وغربا، ومع ذكراه الرابعة ألقى الدكتور جلال أمين حجرا كبيرا في بحيرة النقاش المستمر بمقاله "ستة عشر سبباً للشك في نظرية الإرهاب" (الحياة 27/ 8/ 2005) وفي الحقيقة فإن ما طرحه في المقال المشار إليه سبقه "تمهيد نيراني" في مقاله "عن تفجيرات لندن... لا أحد يريد قول الحقيقة" (الحياة 10/ 8/ 2005). في مقاله الأول ألمح الكاتب إلى أن "البعض لا يريد أن يقولها لأن معرفة الحقيقة تضرّ به ضرراً بليغاً، إذ تحول دون تحقيق أهدافه. والبعض الآخر لا يريد أن يقولها لأنه يعمل في خدمة الفريق الأول ومن ثم فإعلان الحقيقة سيصيبه في مصدر رزقه. وفريق ثالث لا يريد أن يقول الحقيقة لأنهم يخشون بطش المستفيد من إنكار الحقيقة ويطمعون في النهاية في أن يحققوا بعض النفع من وراء مساندته". مرجحا بذلك وجود "تواطؤ" واسع على تضليل العالم بشأن ما حدث في 11 سبتمبر وهو افتراض مثير لكنه على الأرجح صحيح!
ويرى الدكتور جلال أن هؤلاء جميعاً – المستفيدين من إخفاء الحقيقة – فئة ضئيلة جداً من الناس والغالبية العظمى لا يقولون الحقيقة لأنهم لا يعرفونها فكل وسائل الإعلام لا تكاد تفسح أي مجال للكلام لغير هذه الأصناف الثلاثة من الناس، وتردد كلامهم من دون انقطاع، حتى كادت تتعطل ملكة التفكير لدى من يتلقون الرسالة الإعلامية، ومحتواها يؤكد كل دقيقة أن من قام بتفجيرات لندن الأخيرة جماعة من اتباع تنظيم "القاعدة". ولا بد أن نكون قد تعلمنا من وسائل الحرب الباردة أن كسب الملايين من الناس إلى جانب قضية باطلة يمكن تحقيقه بترديد الأكاذيب بدرجة كافية من التكرار واستخدام مختلف وسائل التأثير في وعي الناس ولا وعيهم، وبالتالي لا يجب أن يكون هذا الإلحاح والنجاح في إقناع الملايين بهذا التفسير، أمراً مدهشاً على الإطلاق، لكنه أمر محزن جداً على أية حال. فهو يدل على مدى استعداد بعض الناس لخداع هذا العدد الغفير من الناس وعلى السهولة التي يمكن بها خداعهم بالفعل.
ويتساءل الدكتور جلال كيف يمكن أن تغيب على المخدوعين الحقيقة الصارخة الآتية: أنه ليس هناك أي نفع يمكن أن يرجى تحقيقه من التفجيرات لأي تنظيم إسلامي؟ إلا إذا كان يتخذ لنفسه واجهة إسلامية لمجرد التضليل بينما أهدافه الحقيقية لا علاقة لها بخدمة الإسلام، بل بعكس هذا بالضبط؟ وحتى الكتّاب المحترمون الأكثر استقلالاً في الرأي أقصى ما وصل إليه معظمهم هو أن يحاولوا أن ينبهوا إلى أن غالبية المسلمين غير مسؤولين عما حدث، وان هناك ملايين من المسلمين الأبرياء يكرهون مثل هذه الأعمال ويشجبونها مثلما يكرهها ويشجبها سائر الناس، أو ينبهوا إلى أن الذين قاموا بهذه التفجيرات إنما قاموا بها كرد فعل لما قام به توني بلير والحكومة البريطانية من عدوان على العراق أو لمسايرته للسياسة الأميركية.
أما مقاله الثاني "ستة عشر سبباً للشك في نظرية الإرهاب" (الحياة 27/ 8/ 2005) ففتح الباب لرد عنيف – وكعادة كاتبته دلال البرزي يفتقر لأبسط قواعد أدب الحوار – وفي مقاله طرح جلال أمين 16 سببا "وجيها" بالفعل للشك في نظرية الإرهاب لافتا الأنظار إلى تناقض يلخصه بقوله "التصديق رسمي وعام، ويقال على الملأ بثقة وحسم، وعدم التصديق خاص وشخصي، ويقال بحذر وتردد، بل بيأس من أن يقبله الآخرون"، وقد صادفت أنا شخصيا ما يصفه الدكتور جلال أمين من ضيوف لقاء تلفزيوني كنت أحد المشاركين فيه مؤخرا وكان موضوعه ذكرى 11 سبتمبر.
وأهم ما ساقه الدكتور جلال أمين من مبررات للشك في نظرية الإرهاب في تقديري هو قوله: "من يدري قد يؤدي إلى توجيه الأذهان في اتجاهات أخرى للبحث عن تفسيرات أخرى لما حدث، مختلفة تماماً عن التفسيرات السائدة وهو يؤدي إلى توجيه إصبع الاتهام إلى متهمين من نوع مختلف تماماً"، وهو ما أؤيده تماما فالفاعل الحقيقي في جرائم 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد ولندن الذي يختبئ خلف تنظيم القاعدة ويستخدمه لمصالحه ما زال مجهولا ولا صلة له بالإسلام على الإطلاق.
وبين الأسباب التي أوردها الدكتور جلال أمين يأتي السبب الثاني مفتاحا لبحث جاد يبدأ من المبدأ الجنائي الشهير "ابحث عن المستفيد من الجريمة"، والإسلام يضار بهذه الأعمال ولا يستفيد شيئاً منها، والمسلمون والعرب يدفعون ثمناً عالياً لهذه الأعمال، من دون أن يجنوا من ورائها شيئاً. بل إن المجرمين في معظم الأحوال لا يتركون لنا حتى ورقة صغيرة يقولون لنا فيها الذي يريدونه، وما الثمن الذي إذا دفعناه توقفوا عن جرائمهم. الجريمة إذا، طبقاً لهذه النظرية، ترتكب من دون أن يكسب المجرم المزعوم شيئاً من ورائها، وهو أيضا أمر يثير الشك والارتياب.
وفي السبب الرابع لرفض نظرية الإرهاب يقول فلنفرض جدلاً أن هذا الانتشار الواسع لنظرية الإرهاب الإسلامي سببه أنها أكثر النظريات معقولية، ألا تستدعي خطورة الجرائم أن يتسع الصدر للاستماع لآراء القلة التي تقول نظريات أخرى؟...على العكس، نجد ضيق صدر مدهشا أمام أي تعبير عن رأي مختلف...والإسراع باتهام كل رأي مغاير بأنه مجرد عودة إلى "نظرية المؤامرة" مع أن نظرية الإرهاب السائدة أقرب إلى استحقاق اسم "نظرية المؤامرة" من بعض التفسيرات الأخرى التي تعطى هذا الاسم.
ومن ناحية التوقيت يلفت جلال النظر إلى أن حوادث "الإرهاب" تسارعت بشدة بعد انتهاء الحرب الباردة ولا يحتاج المرء إلى الكثير من التأمل ليرى أن كل الأسباب التي تقدم لتفسير الإرهاب، طبقاً للنظرية السائدة لم يطرأ عليها أي تغير مهم خلال مدة طويلة تزيد بكثير على خمسة عشر عاماً، وقد تصل إلى قرون عدة. فإذا كان سبب الإرهاب ما يفعله الإسرائيليون بالفلسطينيين، فهذا سبب قديم يعود لأكثر من نصف قرن، وإذا كانت الكراهية للغرب فما الجديد الذي أشعل نيران هذه الكراهية؟ وبمنطق المستفيد يحوم الدكتور جلال حول احتمال أن تكون أمريكا الطامعة في نفط العرب "المستفيد المحتمل" وهو تفسير أعارضه تماما لأسباب موضوعية لكنه يظل فرضا واردا.
وفي مقاله (نظرية الإرهاب بين كاتبين) (الحياة 12/ 9/ 2005) يمدنا الكاتب العراقي بفيض وافر من الاجتهادات المغايرة لما هو سائد وفق نظرية الإرهاب التي تدافع دلال البرزي عن صحتها عبر تهكم غير مقبول "وأول هذه الشكوك... إثارة كتاب "الخديعة المرعبة" للفرنسي تيري ميسان،... كما شاهدنا الفيلم الوثائقي الآخر (The power of Nightmares) للمخرج البريطاني آدم كيرتس....وفي فيلمه هذا يقول إن أسامة بن لادن ستار دخاني أكثر منه حقيقة لا سبيل إلى إنكارها".
وإذا أردنا البحث أولا عن شواهد مماثلة لفكرة كون تنظيم القاعدة "قفازا" تستخدمه جهة ما لتحقيق أهداف مغايرة تماما لما هو معلن فلنقرأ هذه السطور للمؤرخ الدكتور ألما ويتلن: "كان الجنود الذين زحفوا تحت إمرة (شوكت) يظنون أنهم يؤدون رسالة عليا. كانوا يعتقدون أنهم زاحفون لحماية الكائن المقدس المقيم في يلدز (السلطان عبد الحميد)....وحتى يوم 21 من إبريل وجنوده على أقل من ثلاثين ميلا من العاصمة كان شوكت لا يزال يهتف بحياة السلطان". (نقلا عن: المستشار طارق البشري: في المسألة الإسلامية المعاصرة: ماهية المعاصرة صفحة 18). والعبرة هنا بمنطق التخفي الذي استخدم على نحو واسع لتغيير التاريخ، ومن يقرأ بعناية ما وراء سطور الوثائق التي كشف عنها النقاب في الأرشيفات الأوروبية عن المفتي أمين الحسيني يدهشه درجة الاختراق الأوروبي للتنظيمات السرية القومية والإسلامية منذ النصف الأول من القرن العشرين.
ومن الناحية المعرفية هناك ما يجب أخذه في الاعتبار، فالإرهاب في الوعي الحديث استعمل للمرة الأولى لوصف الطرق الدامية والقسرية التي استعملتها الحكومة الجمهورية الفرنسية بين 1793 1794 لفرض "عقيدتها" على بلد كان عنيدا. والإرهابيون الأوائل كانوا رجالا مثل روبسبير خططوا هذه السياسة المخيفة وطبقوها، فالإرهاب في التصور الأولي لم يكن سلاحا لمواجهة الحكومات الأداة النهائية في يدها، وهو في الشكل الثاني، سواء في 1790 في فرنسا، أو ثلاثينات القرن العشرين في روسيا أَو في سبعينات القرن نفسه في كمبوديا، كان دائما القاتل الأبشع. ومن يقرأ خطب روبسبيير وسان جوس، يدرك أنه بالنسبة لهم ولزملائهم، الأزمة الثورية لم تكن محنة يتغلبون عليها بل فرصة فريدة لخَلْق مجتمع جديد، مدينة سماوية مستندة على تصاميمِ جين جاك روسو. ودعامتاه الرئيستان ستكونان: الفضيلة والإرهاب- وبعبارة روبسبير الشريرة "الفضيلة بلا إرهاب قاتلة، الإرهاب بلا فضيلة عاجز".
وقبل تفجيرات لندن بأسابيع كانت الصحافة البريطانية مشغولة بكتاب يحمل وجهة النظر هذه هو "الإرهاب:حرب أهلية في الثورة الفرنسية" للمؤرخ البريطاني دافيد أندرس وفيه يحاول كاتبه لفت النظر للجذور الحقيقية للإرهاب ففي العقود القليلة الماضية، وخصوصاً منذ 11 سبتمبر، أصبحت كلمة "إرهاب" تستخدم بشكل مفرط. اليوم، غالبا عند استخدامه تقفز للذهن صور متعصبين متلحين يحضرون "الرايسين" في شمال لندن، ومن المفيد أن نذكر بأنه أصلا يعني شيئا مختلفا جدا، فهو يشير بأصابع الاتهام للفكر التنويري للثورة الفرنسية، مستعيدا ذكرى الهولوكوست الأول في العصر الحديث الذي قامت فيه قوات الثورة الفرنسية بإبادة ما يزيد على ربع مليون من المدنيين من أهل "فاندي"، وهي المرحلة التي كان فيها الإرهاب سلاحا في يد "الدولة المركزية الحديثة" قبل أن ينتقل إلى يد جماعات سرية يسارية أو دينية تستخدمه لمواجهة الدولة.
وكما أن النظرية السائدة عن الإرهاب متعسفة فإنها بالقدر نفسه عاجزة عن تفسير سبب استهداف مدريد إلا لإسقاط حكومة متحالفة مع واشنطون ومغزى استهداف الدار البيضاء بعد تحولها نحو الولايات المتحدة، ولماذا تعرض القاعدة على الأوربيين "هدنة" بينما تتخذ من أمريكا موقف العداء المبدئي؟
وهل يعني هذا النظر بمصداقية أكبر للقول بوجود علاقات تنظيمية بين تنظيم القاعدة ونظام صدام حسين؟
ومن ثم، هل يعني هذا أن التصلب الأمريكي في استهداف تغيير النظام العراقي بالقوة كان مبررا؟
ولماذا يتطابق أحيانا خطاب "القاعدة" مع الخطاب الرسمي العربي والخطاب الرسمي الأوروبي وبخاصة في الموقف من مشروع "الشرق الأوسط الكبير"؟
وما دلالة النكهة العروبية في بيان تبني المسئولية عن تفجيرات لندن وهي نكهة غريبة لفتت نظر المحللين؟
وفي النهاية: هل يكون "تنظيم القاعدة" قفازا في يد قوة أوروبية رسمية أو غير رسمية، أو عدة قوى دولية (أوروبية وعربية) متحالفة تريد عرقلة مخططات أمريكا دون مواجهتها بشكل سافر؟