خلال العقود الخمسة الاخيرة من القرن العشرين، شهد العالم بشکل عام، و المنطقة بشکل خاص، العديد من الاحداث المهمة و الحساسة والتي کانت لها دلالات و تداعيات خطيرة و عواقب وخيمة تمتد تأثيرات البعض منها الى يومنا هذا. وقد کانت مسألة التصدي للنفوذ الغربي في العديد من نقاط العالم والتي وظفتها القيادة السوفياتية الشيوعية لأغراض آيديولوجية محددة، من أبرز السمات التي تميزت بها تلک العقود. ومن المهم جدا الاشارة الى أن إستلام العديد من النظم السياسية زمام الامور في بلدانهاquot;بغض النظر عن الطريقة و الاسلوبquot;، قد دخل ذلک الامر ضمن سياق صراع النفوذ بين القطبين الرئيسيين آنذاک في العالم. وقد کانت بلدان العالم الثالث على وجه التحديد، أشبه برقعة الشطرنج التي يغير القطبين فيها البيادقquot;الحکامquot;بحسب لعبة النفوذ بين الجانبين و تطوراتها. وليس من المنطقي التصور أنquot;رقعة الشطرنجquot;، قد إختفت من العالم و إن الامور باتت تسير وفق معطيات جديدة تتفق وسياق عصر العولمة، بقدر ما يجب التأکيد على حقيقة إستمرار روح ذلک المبدأ في التعاطي مع غالبية بلدان العالم الثالث. کما إنه ليس من المعقول أن نعتقد بأن مسألة الصراع ضد النفوذ الغربي في العالم الثالث، قد إنتهت بإنتهاء أسبابها الموجبة ولا سيما بعد إنهيار القطب الإشتراکي الذي کان يغذي ذلک الصراع عبر بوابات و منافذ متباينة، ذلک أن الصراع ضد النفوذ الغربي والذي إتخذ عناوين مختلفة منها الصراع ضد الامبريالية، أو مقاومة المد الصليبي، قد وظفته النظم السياسية المختلفة في المنطقة و العالم لأغراض و أهداف سياسية خاصة قد لا تتعلق بمضمون ذلک الصراع. لکن هناک مفارقة مهمة يجب الوقوف عندها و التأمل في معانيها، ذلک أن مسألة الصراع ضد النفوذ الغربي قد بقيت بين شعوب بلدان العالم کمبدأ أساسي مهم يکاد يکون رکنا عقائديا من أرکان عقيدة راسخة تضرب بجذورها في أعماق الافراد و الجماعات، إلا أنهاquot;أي مسألة الصراع الآنفةquot; قد إتخذت أشکالا تتسم بروح الإنتهازية و النفاق من قبل الانظمة السياسية التي کانت في سابق عهدها تطبل ليل نهار ضد الغرب، لکنها وفي حالات عديدة، قد إستسلمت بالکامل للنفوذ الغربي و قبلت بأن تکون من ضمن البيادق الشطرنجية الغربية. وهنا، قد تکون التجربة الليبية نموذجا يعکس مثل تلک النظرة. أما ما حدث في سودان quot;حسن عمر البشيرquot;، وفي يمنquot;علي عبدالله صالحquot;، فهوquot;بنظر المطلعين و المراقبين السياسيينquot;، بداية ضمنية للتراجع عن بقايا فتات شعارات الصراع ضد النفوذ الغربي. إلا أننا يجب أيضا أن نشير الى حالة أخرى في هذا السياق، وهي الحالة السورية التي يبدو أنها قد تکون درسا تنبيهيا اخرا لدول المنطقة کي تعرف المساحة الفعلية المسموح لها بالتحرک فيها، وفي کل الاحوال، فإن الحکم السوري لو سمح له الغرب بالتنفس بملء رئتيه مرة أخرى، فإنه سوف يکون جاهزا ليضع quot;حد اللهquot; بينه و بين مسألة الصراع ضد النفوذ الغربي. غير أن تلک الحالاتquot;التراجعيةquot; التي أشرنا إليها آنفا، لم تأت إعتباطا وإنما بعد تلک السيناريوهات العسکرية ـ السياسية التي جرت في منطقة البلقان و أفغانستان و العراق، بل وأن لعبة quot;lrm;شد الحبلquot;، التي يقوم بها الغرب مع کل من طهران و دمشق، هو الاخر يشکل جزءا من عملية الضغط السياسي و النفسي على دول المنطقة. لکن الملاحظة المهمة التي تستوقفنا و تدعونا لمتابعتها، هي تلک المتعلقة بالتجربة الايرانية التي يبدو أنها قد دخلت منعطفا حساسا و حاسما في نفس الوقت، خصوصا عندما رفضت خيار الإصلاح السياسي و الحوار الذي يکون آخرهquot;wellcomequot;کما کان الامر مع العقيد معمر القذافي، وإختارت عوضا عنه خيار الندية في التعامل والذي بالامکان تسميته بخيار quot;المجابهة التصعيديةquot;، والذي تجلى بوضوح بعد وصول السيد محمود أحمدي نجاد الى سدة الرئاسة في إيران. وقد تکون التجربة الإيرانية من أهم الاجندة السياسية ـ الفکرية التي لاتجابه الغرب لوحده فقط، وإنما عموم دول المنطقة بما تحمله في داخلها من إمتدادات و خيوط تواصل و تآلف و تحالف مع أکثر من تيار و تجمع سياسي مؤثر في المنطقة وما يعني ذلک من معاني و دلالات ذات مغزى عميق على أرضية الواقع السياسي. إلا أن هذه القوة و الدفع المعنوي الإستثنائي الذي تتميز به التجربة الايرانية، لاتعني بالمرة إنها بعيدة عن منغصاتها و مشاکلها الخاصة التي تزداد تعقيدا مع مرور عامل الزمن الذي يظهر إنه ليس في صالح النظام السياسي في إيران. ومن خلال مطالعة الآراء السياسية الإيرانية لغالبية المحللين و المراقبين السياسيين من مختلف التيارات و الاجنحة السياسية المختلفة، يظهر جليا أن هناک تيار عريض آخذ في الإتساع أفقيا يحمل لواء إعادة قراءة أبجديات أهم الاحداث السياسية المؤثرة في ساحة الفعل السياسي بإيران، والتي تأتي في مقدمتها ثلاثة أحداث إستراتيجية من حيث تلک التأثيرات التي خلفتها من بعدها، وهذه الاحداث هي تباعا:
1ـ إحتلال السفارة الامريکية في طهران و ماتبعته من حجز الامريکيين العاملين فيها کرهائن.
2 ـ الحرب العراقية ـ الإيرانية.
3 ـ الملف النووي الإيراني.
وقد وجدت أن هناک إجماعا غير عاديا بين غالبية المحللين السياسيين و حتى المثقفين الايرانيين على إدانة تلک عملية إحتلال السفارة الامريکية في طهران، ووصفوها بعملية طفولية إستطاعت أن تخدع قطاعا عريضا من اليسار الايراني و تيار المجاهدين، لإنبهارهم بطروحات أولئک النفر من طلاب الجامعةquot;السائرين على خط الامام الخمينيquot;في معادات الامبريالية الامريکية، لکن هذا الامر کان فيما بعد سببا مباشرا لدفع الرئيس العراقي صدام حسين للمجابهة العسکرية الشاملة مع إيران. هذه المجابهة التي تصفها تلک الشريحة الواسعة من المحللين الايرانيين، بإنه هناک العديد من الادلة التي تثبت بأن دور النظام الثوري الايراني في التمهيد لإشعال نار الحرب العراقية ـ الايرانية، کان لايقل شأنا عن دور صدام ذاته. وهؤلاء المحللين الذين ينتمي العديد منهم الى تيارات سياسية إيرانية متباينة، تحذر من إشعال نار حرب ضروس أخرى على خلفية الملف النووي الايراني المثير للقلق في المنطقة و العالم. وهم يسخرون من أن تصبح الحربquot;نعمةquot;کما کان الاعلام الايراني في زمن الخميني يصف الحرب مع العراق، فيما لو إندلعت مع الغرب. هؤلاء المحللين الذين يشيرون بغبطة الى تنامي تيار سياسي إيراني يدعو الى أخذ زمام المبادرة و بيان من أن إستمرار طهران في اللعبة النووية الخطرة لا يمثل إطلاقا رأي غالبية الشعب الايراني و إنما هو يمثل رأي أقلية راديکالية مغامرة تريد توظيف تداعيات الفعل الخارجي لتمتين قوة تواجدها الداخلي و ضمان بقائها الى إشعار آخر. هذا التحرک السياسي للمعارضة الايرانية قد يکون مهما و فاعلا في ضوء تلک العزلة و التراجعين الدولي و الاقليمي الذي يشهده النظام السياسي في إيران، وقد تتداخل عوامل عدة لتفعيله ودفعه في آفاق أرحب من تلک التي تنتظرها في المسقبل المنظور. ومهما يکن من أمر، فإن إستمرار اللهجة التصعيدية في الخطاب الرسمي الايراني مع تراجع ملحوظ للخط السياسي الوسطي المرن والذي يمثله الهاشمي الرفسنجاني، مع إتساع دائرة الضغط الغربي على إيران، ولاسيما مع تلک التصريحات المعادية لإسرائيل والتي هي الاخرى تلاقي شجبا من قبل التيار الليبرالي الايراني حيث يرون فيه أمرquot;يؤخرquot; ولا quot;يقدمquot;، ترسم في الآفاق ظلالا داکنة جدا في سماء طهران. والذي قد يعجل من دفع وتائر التصعيد قدما للأمام، هو ذلک القلق الامريکي من إتساع الدور الايراني في العراق بشکل يتجاوز الحدود المسموحة و المألوفة، کما إن الامر يکاد يکون ذاته في لبنانquot;من خلال حزب اللهquot;، وفي فلسطين من خلالquot;حماس و الجهادquot;. وفي المقابل، فإن خيار التصعيد الايراني مع الغرب، والذي يبدو إنه لا يکترث أو يأبه إطلاقا لما حدث في منطقة البلقان و على حدوده مع أفغانستان و العراق، کما إنه يتصرف وكأن مسألة محاکمة سلوبودان ميلوسوفيج في لاهاي، وصدام حسين في بغداد مسألة لاتعني السيد أحمدي نجاد والنظام السياسي في إيران بأي وجه من الوجوه، کل ذلک يقود الى تلبد الاجواء في مسارات الطرق التي إختارتها طهران للمضي قدما فيها. إن الصراع مع الغرب عسکريا قد ثبت عقمه الکامل بعد أکثر من تجربة في هذا المضمار، وهو أمر أدرکه النظام السياسي العربي بعد تجربتي کابل و بغداد المريرتين، ولذا فقد دلف الى الشارع الذي مشى فيه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لکن النظام السياسي الايراني الذي يصر على عدم تخوفه من المجابهة وحتى يعرب عن إستعداده لها، هو محاولة غير موفقة أخرى للسباحة ضد تيار عاتي، أدرک الخميني قوته و عظمته حين وافق وعلى مضض على قرار وقف إطلاق النار مع العراق. إلا أن طهران وبعد مضي أکثر17 عاما على رحيل الزعيم الديني الايراني، يبدو أنها تعود بعجلات الزمن الى نقطة البداية، وهو أمر ليس في صالحها أبدا، بل وإنها قد تدعو الى إثارة الخيارات السابقة التي کانت مطروحة على الساحة السياسية في إيران قبل و إبان و بعد عودة الخميني الى طهران، والتي کان الخيار الاهم المطروح في وقته هو ذلک الخيار الذي طرحه السيد شاهبور بختيار أمام الخميني لجعل مدينة quot;قمquot;، بمثابة فاتيکان إسلامية لعلماء الدين الشيعة، يومها کان من الواضح و الطبيعي جدا أن يرفض الخميني ذلک الخيار، غير أن طرح مثل هذا الخيار وفي مثل هذا الوقت بالذات، قد يکون أمر له أکثر من معنى. ولعل تفاقم الوضع الداخلي الايراني وبالاخص الجانب الاقتصادي الذي تئن تحت وطأته غالبية الشرائح الإجتماعية التي تعيش دون خط الوسط، يجعل من عودة خيارquot;الفاتيکان الاسلامي ـ الشيعي في قمquot;أمرا واردا ومفهوما، لکن المشکلة هي أن الصلاحيات التي سوف تمنح لرجال الدين فيها سوف لن تکون إطلاقا مثل تلک التي کان يقترحها آخر رئيس وزراء إيراني قبل أن يطوي التأريخ مرحلة الامبراطور محمد رضا بهلوي.

نزار جاف
[email protected]