يشير مصطلح quot; الواقع الافتراضي quot; ( V R ) آلي تلك الأجواء التي يصنعها الحاسب الإلكتروني، والتي كما لو كانت حقيقية. أي ما ينتاب الإنسان، حين يدخل آلي شبكة الإنترنت من تحولات ذهنية ونفسية واجتماعية وحتى ثقافية، حين quot; يكون quot; في الشبكة العنكبوتية. خاصة وهو يدخل في حوارات وعلاقات quot; اجتماعية quot; مع آخرين، مفتوحة وحرة.
وهذا يعني بان هذا العالم الذي يتشكل في راس الإنسان، ذهنه ومخيلته. بقدر ما هو مرتبط بالتقانة، وتحديدا تقانة الشبكة العالمية، فانه مرتبط بشكل اعمق بما ينتج عنها من علاقات على كافة المستويات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والثقافية.
وبقدر ما يوصف هذا العالم بالمفترض، وذلك لتمييزه عن الواقع الحقيقي المعاش، بقدر ما يتحول مع مرور الوقت آلي جزء فاعل ومؤثر، بل ومتداخل مه هذا الواقع، لدرجة أن بعض quot; المسحورين quot; بعالم الإنترنت يقدرون أن هذا العالم الافتراضي سيتحول بعد وقت قصير آلي عالم شامل، بكون بديلا عن الواقع الحقيقي بكل تفاصيله، حين يتحول الإنسان نفسه آلي إنسان افتراضي، شبه آلي. وبغض النظر عن المستوى أو الدرجة التي يمكن أن يكون عليها العالم والإنسان فيه، خلال العقود المقبلة، فان التحولات الناجمة الآن عن وجود الشبكة العنكبوتية، تشير آلي انقلابات على درجة عالية من الأهمية في العلاقات بين البشر، وفي البنية النفسية والثقافية للناس في كافة أرجاء المعمورة.
والواقع الافتراضي، وان كان في بعض جوانبه يشبه آلي حدود ما، الخيال العلمي، الذي كان يشكل قصصا وروايات وحتى أفلاما سينمائية، في السابق، استنادا آلي السير على مستوى التوقع آلي آخره، الذي يحدثه التطور العملي، إلا انه يختلف عنه، في كونه يمثل حالة عامة، تحيط بملايين البشر، ولا يتم تقديمه من باب الإثارة أم بهدف إحداث الدهشة الفانتازية، التي تقوم عليها الأعمال الأدبية والفنية.
كذلك فان الصور والاخيله التي تتشكل عند الدخول آلي الشبكة العالمية، بقدر ما هي ساحرة وعلى درجة من عدم quot; الواقعية quot; التامة، إلا أنها غير مستخرجة من جراب الحاوي أو من عالم الميتافيزيق أو الأسطورة. ففي الحياة السابقة، تشكل المتخيل الميتافيزيقي كأحد تفسيرات العجز الإنساني عن الإحاطة بكل قوانين الطبيعة وقواها الخفية. كذلك تشكلت الأخيلة تعبيرا عن المشتهى والمرغوب والمأمول، كذلك تنفيسا عن المكبوت في الحياة الإنسانية، وارتباطا بالثنائية الموروثة منذ مرحلة السذاجة الفكرية، الخير والشر، المادة والروح.
فكانت تتم عملية المقابلة على أساس الفصل بين عالمين، مرئي وغير مرئي، حقيقي ووهمي، طبيعي وما وراء طبيعي. هنا الأمر مختلف، والفارق بين العالمين الحقيقي والافتراضي، مرتبط بتحقق الحرية والتجاوز، اللذين يحققان للإنسان، حين يدخل في إطار الشبكة العالمية، وحين ينتفي عاملا الزمان والمكان، اللذين ظلا يحددان طبيعة العلاقة بين الإنسان والإنسان، ويحدا من درجة التداخل بينهما آلي حدود التفاعل المتقدمة كما يحدث الآن.
وما كان يعده الإنسان في السابق من قدرة خارقة، لا يقوى على امتلاكها غير المخلوق من نار، من الجن والعفاريت، أو من لديهم المعجزات من رسل أو أصحاب الكرامات، الذي بإمكانهم وحدهم الانتقال في لمح البصر من مكان لاخر والحضور الدائم في الزمن، أو الاختفاء أو الإحاطة بالمعرفة. بات ممكنا الآن لأي إنسان، مجرد دخوله الشبكة العنكبوتية.
التحول مرتبط إذا بالشبكة، وليس بالجهاز نفسه، الذي كان يمكنه لو لم يتم وصله بالشبكة أن يبقى حاسوبا يجمع ويحفظ الملفات والأرقام كما أراد له من اخترعه، أول مرة، ومحدد بما ينجم عن الدخول آلي الشبكة من قدرة على quot; السياحة quot; بين الأماكن quot; المواقع quot; الإلكترونية، حيث بات بإمكان quot; الإنسان الافتراضي quot; _ أي الإنسان الداخل في الشبكة _ أن يتجول في عوالم الاقتصاد والثقافة والمجتمعات المتعددة والمختلفة بين أرجاء المعمورة، وهو في مكانه. وفي اللحظة ذاتها، أي دون الحاجة آلي أن يسافر عبر الطائرة إن القطار أو ما شابه، ودون حتى الحاجة آلي الساعات والأيام التي تتطلبها عملية الانتقال من مكان لاخر.
ويمكن للإنسان مجرد حصوله على ( I D ) أن يصبح عضوا في أي quot; مجتمع افتراضي quot; يريد، بغض النظر عن جنسه أو انتمائه، وان يدخل في نسيج quot; اجتماعي quot; يتشكل. والاهم من ذلك هو ما يحدثه المجتمع الافتراضي من quot; تفاعل quot; بين أعضائه دفع البعض آلي اقتراح الحكومة الإلكترونية، والى إطلاق مصطلحات جديدة، تمثل أحد عوامل تشكل الثقافة الجديدة.
مع ذلك فان هذا الواقع الذي يحقق درجة متقدمة جدا من الحرية الإنسانية، المتمثلة في الاتصال والتفاعل والقدرة على البوح والتعبير عن النفس وعن الآراء والمعتقدات المختلفة، يبقى quot; افتراضيا quot; _ أي انه يشترط ما يسميه الباحثون بضرورة quot; الانغماس quot; في الشبكة. ذلك أن الإنسان الذي يصير افتراضيا مجرد دخوله الشبكة، يحتاج آلي quot; التحرر quot; من واقعه المعاش، بكل تفاصيله، وبكل ما فيه من قوانين وعلاقات اجتماعية واقعية مرتبطة بالعمل والأسرة والمجتمع المحلي. وهو يبقى كذلك طالما هو داخل الشبكة. ويكف عن كونه افتراضيا، أي أن يعود آلي الواقع الحقيقي بمجرد quot; قطع quot; الإرسال، أو بمجرد خروجه من الشبكة، وإغلاق جهازه الذي يدخل فيه، بعد ربطه بالشبكة الإلكترونية.
وحيث أن الواقع الافتراضي هو غير الواقع المتخيل، الذي كانت تحيل إليه الأعمال الأدبية، وحتى ألا خيله، من حيث وجود المستوى المحسوس، فان ذلك يتمثل ليس في حالة quot; التماثل quot; التي كانت تنتاب قارئ الرواية أو مشاهد المسرحية أو الفيلم السينمائي، الذي كان يجد نفسه متماثلا مع الشخصية الممثلة أو متعاطفا معها. فهنا يمكن للمرء أن يتجاوز الواقع، ليس في مستواه الاجتماعي على الصعيد الذهني وحسب، ولكن يمكنه تجاوزه على الصعيد الأخلاقي.
ومجرد أن يتحول الإنسان آلي ( I D ( أي آلي شخص افتراضي، ينسلخ بحدود معينه عن شخصيته الواقعية، ويتحلل من اشتراطاتها، بل يمكنه أن يرتدي قناعا يخفي شخصيته الحقيقة بالكامل، كما لو كان في حفلة تنكرية، ليقيم علاقة عاطفية مفترضة، مثلا، لا تدخل في باب الخيانة الزوجية، نظرا لانعدام الجانب الحسي أو الملموس من العلاقة، تبرر في باب التسلية، حيث سقط العيد من الممنوعات أو المحرمات. ولم يعد quot; الحوار quot; والحديث أن اكن في ( الروم ) اوعلى الخاص، بين رجل وامرأة، أو بين شاب وفتاة خلوة يكون فيها ثالثهما الشيطان، ما دام ذلك يبقى محصورا في إطار الخيال، أي في باب التمني والرغبة والتشهي المستحيل.
عالم الدردشة، أو غرف الدردشة، التي تمثل مجتمعات افتراضية، وكانت موضوع خطبة في المسجد الحرام، تشبه آلي حد بعيد خشبه المسرح أو عالم الرواية، من حيث تحرك الشخوص التي تبدو أنها تشبهنا ولا تشبهنا، أو أنها نحن وليست نحن في الوقت ذاته.
يبدو العالم الافتراضي عالما موازيا للعالم الحقيقي الواقعي والمعاش، أو عالما قريبا من المتخيل التقليدي، القائم في النصوص، والذي يعمل بناء على شروط الخيال، لكن الافتراض الواقعي الجديد، يحول عالما موجودا وكائنا آلي عالم افتراضي.
أي أن الواقع الافتراضي يتشكل استنادا آلي واقع حقيقي، بعد أن يحيله آلي عالم متحرر من القيود. من هنا فلا يمكن وصفه بأنه عالم موازي أو منسلخ عن العالم الحقيقي، يهرب إليه الناس، ويصنعونه بهدف التخفيف من وطأة الواقع المعاش وسطوته، بل يبدو خيارا quot; ثوريا quot; من حيث قدرته على نقل الواقع الحقيقي آلي واقع آخر اكثر جمالا وارحب في اتساعه، وفي تقدمه باتجاه المستقبل.
وهذا يتأكد من خلال مستوى التفاعل والتأثير المتبادل، حيث لا يمكن القول بان العالمين الحقيقي والافتراضي باتا اليوم متوازين لا يلتقيان أو منفصلين أو متناقضين، فما يحدث في خيال وعقل ووعي quot; الإنسان الافتراضي quot; _ أي فترة دخول الإنسان الحقيقي آلي الشبكة _ لا ينتهي بمجرد خروجه من الشبكة وعودته آلي الواقع الجغرافي، المحلي، المعاش. بل إن كثيرا من العلاقات تنفتح وتنبني ارتباطا بنتائج المجتمع الافتراضي، وكثير من الصفقات التجارية والعلاقات الاجتماعية والثقافية، متجاوزة الحدود والفواصل، قد نجمت وتتابعت في الواقع الحقيقي، بعد أن بدأت أول فصولها عبر المفترض في الشبكة.
كثير من حالات التعارف بين الجنسين قد تطورت آلي اتصالات هاتفية والى مراسلات، ثم مقابلات شخصية، ثم آلي علاقات زواج بين أفراد ما كان يمكنهم أن يلتقوا بسهولة، نظرا للتباعد الجغرافي، وللحواجز اللغوية والثقافية بين أفرادها. لكنه في الوقت ذاته ما كان يمكنها أن تستمر افتراضية إلا في حدود شروط ومستوى الافتراضي ذاته، لو لم تتحول آلي الواقع الحقيقي.
ولعل ما يدعم ثبات الحالة الافتراضية، هو البعد الاقتصادي، حيث تتغذى الشبكة من الوعود اكثر من الإنجازات، أو ما يسميه المراقبون باقتصاد المشاعر. أي الاقتصاد الذي تولده الشائعة، ولامادية الاقتصاد التي تقوم على الثقة، عبر اقتصاد منفصل عن الواقع، وما بات يعرف برأسمالية الاعلاماتيه، أو إمبريالية الإنترنت.
هل ينتهي سحر quot; الدفقة quot; الأولى، بما يطلق عليه البعض بضجر الشبكة، استنادا آلي ما حدث من quot; انهيارات quot; سريعة بعد فورة اقتصادية مفاجئة لكثير من شركات الإنترنت؟ ليس الأمر بتقديرنا كذلك، فالعالم لا يعود آلي الوراء، لكن الأثر الذي تحدثه شبكة الإنترنت، مضافا إليها ثورة الاتصالات ( الهواتف النقالة والأقمار الصناعية )، كذلك تطور الرأسمال العالمي، باتجاه المركزة العالمية، في سياق العولمة، الاقتصداية والسياسية، سينشئ مجتمعا كونيا متداخلا ومتفاعلا، متجاوزا للحدود التي أرستها quot; الدولة القومية quot; الحديثة. وهكذا فان ما يبدو الآن عالما افتراضيا ( موازيا ) للعالم الحقيقي، قد لا يحل مكانه بالضرورة، أي أن يقوم بإقصائه في حركة انقلابية سريعة ومباغته، لكنه بالضرورة سيقوم بنقله، أو بتحويله آلي واقع آخر، سماته ستكون مختلفة، على المستويين الاجتماعي والفردي. فالعالم الجديد سيكون عالما آخر بكل معنى الكلمة. قد تبدو صورته، عند التفكير فيها الآن، خيالية أو افتراضية، وربما السبب يعود آلي أنها تتم في حقل التقنية العلمية، حيث الفرضية تحتاج إثباتا لتتحول آلي نظرية، لكن أحدا لن يتساءل بعد عقود عن مستوى quot; حقيقة quot; هذه الصورة، حين تتحول آلي واقع حقيقي وملموس.
رجب أبو سرية
[email protected]
التعليقات