الأنتخاب في فنلندا مسألة شخصية للغاية وعامة بنفس الوقت، ولن تجد الا فيما ندر أي فنلندي سيقول لك صراحة من سينتخب، هذا أمر خاص وشخصي جدا، سيقرر وبنفسه حين ينتخب، وخلف ستار، سيستمع الى الدعايات الأنتخابية للمرشحين، سيقرر من سينتخب لكنه لن يصرح لأحد بقراره، يعتقد الفنلندي بأنه هو من سيختار رئيس فنلندا المقبل، وأن صوته ذو أهمية قصوى لكل المرشحين، لقد وصل الى هذا اليوم بعد أن أنصت وشاهد وقرأ كل الحملات في الراديو والتلفزيون والصحف والأنترنت بعد أن صارت مجالا حيويا لا يستطيع أي مرشح الأستغناء عنه، ويستطيع عبره المتصفح أن يناقش المرشح وأن يسأله ما يريد وما يرغب، وبمنتهى الأدب سيرد المرشح على كل هذه التساؤلات مهما كانت جارحة ومهما كانت تمس حياته العامة أو الشخصية، فمناسبة الانتخاب هي المناسبة الوحيدة التي يحق لك هنا أن تبحث في حياة المرشح الشخصية ما يمنعه من اداء مهماته، وخصوصا فيما يتعلق بالفساد ( فنلندا جاءت في المرتبة الثانية لجهة خلوها من الفساد في اللائحة التي نشرتها الأمم المتحدة)، وطبعا الصحف والتلفزيون لا توفر أحدا في تناول حياته الشخصية والعامة. بعد أن استمع وناقش وحاور وشاهد حملات المرشحين للرئاسة فالفنلندي سيخلد الى الراحة، سيكون الانتخاب في يوم أحد كما هي العادة، ليتسنى للجميع الانتخاب، فقد اتخذ قراره ولكنه لن يبلغه لأحد، سيذهب الى مركز الاقتراع مهما كانت الأحوال الجوية ومهما كانت مشاغله ليؤدي حقه في انتخاب من يراه مناسبا لقيادة فنلندا في السنوات الستة القادمة ( الانتخابات الرئاسية الفنلندية تجري كل ستة سنوات).

لازال هناك رئيسين سابقين لفنلندا على قيد الحياة، يحتفل الفنلنديين بعيد الأستقلال كل عام (استقلت فنلندا 6 كانون الأول 1917)، هذا العيد الذي يشكل أهمية كبيرة للفنلنديين، حينها يقيم الرئيس الفنلندي حفلة استقبال في القصر الرئاسي، يدعى اليها ما يزيد على ألفين شخص سنويا، يختارون بعناية، حسب الخدمات التى أداها للمجتمع، وحسب اسهاماته في تطوير المجتمع بالاضافة الى كل ممثلي الشعب وممثلي الأديان والثقافات المختلفة، ويجري نقل هذه الحفلة التي ينتظرها الفنلنديين بفارغ الصبر على الهواء مباشرة، حينها يجتمع الرؤساء السابقين والرئيس الحالي لفنلندا في صورة تذكارية، تجسد معنى الديمقراطية، التي نفتقدها في بلداننا العربية، وحيث الرؤساء لا يتركون السلطة الا بانقلابات عسكرية أو بالموت، أو بمساعدة قوى كبرى مثل الذي حصل بالعراق. ومن المشاهد المألوفة أن ترى الرؤوساء السابقين على الدراجات أو بين الناس دون حراسة كأي فرد عادي في المجتمع، فالرئاسة كما تفهم هنا هي وظيفة يكلف بها الشخص من قبل الشعب، وبعد أن يؤدي مهمته يشكره الشعب بكل بساطة ويفسح المجال للذي يليه، في تبادل سلمي للسلطة، والرئيس السابق لا يحتاج الى الحراسة فهو لم يقتل ولم يعتقل احدا، لم يضع العشرات في السجون، لم يرتكب مجازر جماعية، ولا نهب المليارات من المال العام ولم يورث الحكم لأبنائه، ولم يخض حروبا يدمر فيها البلاد، كما يفعل الرؤزساء في بلداننا، لذلك فهو يؤدي دوره ومن ثم يتحول بالتالي الى مواطن عادي مثله مثل كل المواطنين الآخرين.

الانتخابات الرئاسية في فنلندا هذا العام ضمت ثمانية مرشحين، بينهم امرأتين، الرئيسة الحالية لفنلندا تاريا هالونين التي تترشح عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي و المرشحة الثانية هي هايدي هاوتالا عن حزب الخضر، المرشحين الاخرين هم كالتالي ساولي نينستو عن حزب المحافظين، ماتي فانهانين عن حزب الوسط وهو رئيس الوزراء الحالي، تيمو سويني عن حزب الفنلنديين الحقيقيين، هنريك لاكس عن الحزب السويدي، بيرنى كاليس عن الحزب الديمقراطي المسيحي، و آارتو لاهتي عن تجمع النخبة.

نظام الانتخابات الرئاسية الفنلندية يتضمن مرحلتين، المرحلة الأولى يخوضها كل المرشحين، اذا فاز أحدهم بالجولة الأولى بأكثر من 50 بالمائة من الأصوات فيعتبر الرئيس القادم لفنلندا، واذا لم يحصل أحد المرشحين على هذه النسبة، فيتم اختيار اثنين من أكثر المرشحين حصولا على الأصوات ليخوضا جولة انتخابات ثانية بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ الأقتراع الأول.وفي الجولة الثانية المرشح الذي يحصل على أكثر الأصوات هو الذي سيصير الرئيس القادم. الرئيس القادم يجب أن يتحدث الفنلندية والسويدية لغتا البلد الرسميتين.
نتائج الجولة الأولى أظهرت فوز تاريا هالونين بنسبة 46،3 وهي تترشح للمرة الثانية عن الحزب الأشتراكي الديمقراطي،، شخصية عامة محبوبة وناجحة، كانت وزيرة خارجية فنلندا قبل أن تترشح للرئاسة في الفترة الماضية وقد فازت بالدورة الثانية من الأنتخاب بفارق حوالي 4% عن منافسها القوي آنذاك اسكو اهو زعيم حزب الوسط. لها كتابات ومساهمات كبيرة في الحياة الساسية في فنلندا، من الساسيين الذين يتمتعون بمعرفة عميقة في الشؤون الدولية والسياسية، منافسها الرئيسي هذه السنة كان ساولي نينستو عن حزب المحافظين الذي حصل على نسبة 24 بالمائة من مجموع الأصوات فيما حصل مرشح حزب الوسط رئيس الوزراء الحالي على نسبة 18،7 ومرشحة حزب الخضر على 3،5 بالمائة.

اذن هناك جولة اقتراع ثانية ستجري بعد ثلاثة أسابيع من تاريخ اليوم، الفنلنديين غالبا في انتخابات الرئاسة لا ينتخبون الشخص حسب انتمائه الحزبي رغم ان ذلك يلعب دورا محدودا ولكنهم ينتخبون الشخص الأكثر قدرة على الاقناع في وسائل الاعلام وخصوصا البرامج التلفزيونية المتعددة التي تحرص القنوات الفنلندية الأربعة على عرضها والتي تخص الانتخابات، الحوارات التي تجري عندها تجذب النسبة العظمى من المشاهدين، وبما أن الرئيس مسؤول عن السياسة الخارجية لفنلندا بالتشاور مع لجنة من كبار المختصين، والرئيس هو قائد القوات المسلحة، الجانب السياسي الخارجي يأخذ حيزا كبيرا من المناقشات رغم ان الشأن الداخلي أيضا يؤثر بشكل ملحوظ على المناقشات، النقاشات الأخيرة أظهرت مطالبة تاريا هالونين الرئيسة الحالية باغلاق سجن غوانتانامو فورا، واخضاع المعتقلين فيه الى محاكمات عادلة، فيما اعتبر مرشح حزب الوسط ورئيس الوزراء الحالي بأنه ليس أمرا ملحا، من جهته دعا مرشح حزب المحافظين فنلندا الى الانضمام الى الناتو، هذا الأمر الذي يثير نقاشا واسعا في المجتمع الفنلندي ( فنلندا ليست عضوا في الناتو)، الغالبية تميل الى الاحتفاظ باستقلالية وحياد فنلندا.

في الجولة الثانية غالبا ما تصوت تيارات اليسار والخضر اضافة الى التيارات النسوية الى مرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وتيار الوسط و الفنلنديين الحقيقيين لمرشح اليمين، ولكن هذه ليست قاعدة، مجموع الناخبين يحتاج مرة أخرى لسماع المرشحين للجولة الثانية في حواراتهم عبر وسائل الاعلام، ستتم صفقات بين الأحزاب و مفاوضات معقدة، فيما الناخب سيجلس أمام التلفزيون أمام فائض البرامج التي ستعرض أمامه ليقرر أخيرا من الذي سيفوز بمنصب رئيس فنلندا القادم، المراقبون يرجحون فوز تاريا هالونين هذه الشخصية النسائية التي تتمتع باحترام حقيقي بين الفنلنديين، ويتذكرون دائما انها تقطن في حي شعبي، حتى طوال وجودها كوزيرة للخارجية قبل أن تصبح رئيسة، ولم تغادر هذا المسكن حتى فازت بالرئاسة، ويتذكرون مواقفها السياسية التي كانت دائما تقف مع حقوق الأنسان ومصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة، والفترة الرئاسية السابقة التي قضتها أظهرت انسانة قوية ومحترمة وقادرة دائما على اتخاذ مبادرات شجاعة ومتقدمة. على الجانب الآخر ومنافسها في الجولة الثانية مرشح حزب المحافظين نينستو الذي يمتلك شخصية جذابة، وسيم عازب، له شعبية واسعة بين الشباب، يتبنى اراء محافظة وخصوصأ في دعم الناتو والولايات المتحدة، والتغاضي عن انتهاكات حقوق الانسان والتي تشكل مسألة حيوية في ضمير الشعب الفنلندي. بانتظار النتائج بعد ثلاثة أسابيع سيخوض كلا المرشحين نقاشات مستفيضة في التلفزيون والصحف والانترنت حول كل الأمور الهامة والتافهة، حتى يقنع الناخب بنفسه، بعدها سينام رئيس الجمهورية القادم ملء عيونه، استعدادا ليوم العمل القادم والمقدس بالنسبة للفنلنديين.

حسين الشيخ

شاعر وصحافي سوري