لا يحتاج المرء لدقة الملاحظة، ولا تجشم عناء الاستقراء، ليقرر مراحل الميكانيزم السلطوي، أي المراحل التي تخطوها كل سلطة ناشئة، تنزع للهيمنة، ووراثة المجتمع والدولة، شموليا حتى الاستهلاك (للمجتمع والدولة). هذا الميكانيزم شبه الثابت، لا يتغير(عادة)، مهما أختلفت الظروف والاستحقاقات، ربما لأن جوهر السلطة، هو الاحتكار أو النزوع إليه، وبالتالي فإن مفاهيم مشاعية السلطة هي البديل الناقض لشمولية الدولة، فشيوع ثقافة الحق السياسي للفرد (الاجتماعي)، يجعل من الشمولية شأن غير مطروح، طالما أن التشظي هو الممكن الوحيد للإرادات السياسية المتقابلة.

نعود لميكانيزم التسلط لنحددها في أربعة مستويات:
القوانين.
الأدوات.
الممارسات.
التجليات.

فكل السلطويات تهتم أول ما تهتم، بتوفير الإطار القانوني، والمستند التشريعي لا لتبرير ما تفعل، بل لكبح نشاط الفاعلين، إن هم الاحتكار، يضفي على النخبة الحاكمة (الوليدة)، سمة الترصد، للممكنات البديلة، إن على مستوى الواقع أو التوقع، وبالتالي يكون الإطار القانوني هو السبيل الأولي بالنسبة لها لمنع الأطراف المجتمعية الأخرى من التشكل (مبدئيا)، أو التأثير إذا وجدت، أو التوسع والتجذر!!!
ربما يصح أن المنظومة القانونية للسلطويات (النخب الحاكمة)، لا تكتمل دفعة واحدة، بل تظل في حالة تطور وجدل مع ما يقابلها من تحديات، وما تصنفه هي بالشواغب، لكن هذه الجدلية تتدعم أساسا بتفعيل الخطوة أو المرحلة الثانية من الميكانيزم السلطوي وهي:
(بناء أوهيكلة الأدوات): فلا يمكن للسلطة أن تترك أمر القوانين، للتفسير المجاني وغير المؤطر، كما إنها ستحرص ndash;بداهة- توفير الشق التطبيقي والعملي لهذه القوانين، وهذا هو الشق الأمني، الدولة الشمولية هي دولة الأمن وأجهزته، والطابع الأمني لمؤسسات الدولة يتناسب طرديا مع طبيعته الشمولية، المؤدي للعرب من البديل أو الشريك مطلقا، ومن جهة أخرى يتحول إعتماد السلطويات على أدواتها، إلى تغير نوعي في العلاقة البينية بينهما، ليصير كل منهما شرط بقاء للآخر، وهذا هو المبرر الدائم لتغوّل الأنظمة الأمنية، لدرجة قيام دول داخل دول، كما نلحظ في غير مكان من هذا العالم...!!!
والممارسات هي اللاحقة الضرورية للدولة الأمنية: فثلما استخدمت الدولة الأمنية أجهزتها لممارسة القمع والكبت، تصير تلك الممارسات القمعية، وسيلة هذه الأدوات لا لتحقيق أغراض النخبة فقط، بل للتمكن من حيازة شرف خدمة النخبة (الحاكمة)، فكلما أمعن أحدهم في القمع، كلما كان أقرب وأوفر حظا في إحتياز مقومات الأداة السلطوية والتمثل بها، وبالتالي يمكن الاستنتاج أن السلطويات لا توظف الأدوات فقط، بل تجعل من هامش حرية الممارسات السلطوية، سبيلا لتمتين القبضة المنية، وبالتالي إحدى مراحل الميكانيزم السلطوي وروافده.
أما ما أسميناه بالتجليات: فهم الضحايا المباشرين للسلطة وأدواتها وممارسات تلك الأدوات، الضحايا يتحولون في الشبكة القمعية، إلى وسائل ورموز وشفرات دلالية مهمة، على عاقبة المخالفة أو التحدي للسلطة، يمكننا ببساطة ملاحظة، كيف يمكن أن يؤدي إفراج عن سجين سياسي، إلى واقعه ترهيب من هكذا مصائر، فالسلطة لا تهدف فقط إلى معاقبة خصومها، بل وفي أحيان كثيرة، يتحول خصومها (أو ضحاياها) إلى رسائل مؤثرة، وبالتالي مرحلة أخرى من هذا الميكانيزم، وإن بدت آخر مراحله منطقيا...


والآن يبقى لدينا الاستفهام الرئيس وهو كيف نواجه هذه السلطة؟؟، أو ماهو الميكانيزم المقابل للميكانيزم السلطوي؟؟ كيف ننقض مراحل السلطويات، فإذا كان منطق السلطة منطق تنازلي هابط (يهبط من أعلى لأسفل) فكيف تكون مراحل التحرر؟؟
لاشك أن هذا السؤال سيكون مثار لنقاش غير محدود!! لكنني أقول أن النقض الطبيعي للمنطق السلطوي، يكمن أساسا في قلب مسار المنطق القمعي (الهابط) بمنطق صاعد، يبدأ من إنهاء التجليات، ومن ثم الممارسات وصولا إلى القوانين.
ومبرر ذلك، أن العمل والضغط لإنقاذ الضحايا فضلا عن كونه الأولى إنسانيا، فهو يؤدي ضمنيا إلى خلخلة في النظام الأمني كله، ونحن نتحدث عن تحرير وليس إطلاق سراح، أعني إجبار السلطة على فك قبضتها عن خصومها، فالسلطة المتمسكة بقوانينها وأدواتها، تحاول دائما المناورة على مستوى الممارسات ( فتخفف أو تظهر تخفيف القبضة الأمنية والملاحقات والمصادرات (= الممارسات)، مع بقاء الأجهزة الأمنية كما هي، والقوانين كذلك... وبالتالي وإذا كان الضغط والنضال من أجل تحرير السجناء (مثلا) يؤدي جانبه الإنساني، فإنه وفي مرحلة التخفيف المني، سيشكل حاجزا آخر أمام السلطة من العودة لسوابقها.
الملاحظة دائما تفيدنا إن أكثر من تخافه السلطويات هم ضحاياها، وخصومها السابقين الذين نالت منهم، ولم يستكينوا لها، وظلوا على واجب مصادمتها وإن خفت الحدة، أو تغيرت الوسائل والأنماط النضالية ضدها.
ومثلما كان الضحية رمزا على التحكم، يصير بعد تحريره رمزا على الضعف، ومحفزا على انتهاك حرمة السلطويات، وخدش قدسيتها المصطنعة.

من هنا فإن إهمال أو التواني عن دعم حرية المساجين لصالح أجندات أطول عمرا، هو استغراق غير مجدي من جهة، طالما لم تتوفر له الإمكانات اللازمة وتفويت لفرص حقيقية، لإفراز نقائض ومبطلات للسلطة ورمزيتها.

كلما أمكن مشاهدات ضحايا أكثر للسلطة يقاومونها، كلما كان ذلك أبلغ في الدلالة على انهيارها وتراجعها، وهذا ما يؤدي بدوره للتشجيع على الإجهاز عليها، وصياغة بديل أكثر إنسانية، وربما أكثر استعصاء، أمام السماح أمام ميكانيزم سلطوي بديل، طالما أن السلطة هم إنساني دائم، والاحتكار جوهر السلطة الأبدي.... ليكون قدر الإنسانية النضال حتى النهاية من أجل ذاتها واستحقاقاتها التاريخية.

طارق القزيري
كاتب ليبي

[email protected]