اكتب كلمات مقالي هذا والساعة تقترب من منتصف ليلة الانتخابات التشريعية الفلسطينية في الخامس والعشرين من يناير 2006م. ويبدو أن التصريحات المتناقضة التي حملتها الدعاية الانتخابية لحركة حماس قد أثارت الكثير من اللغط والتساؤل في الشارع الفلسطيني. حيث تباينت التصريحات بين إمكانية التفاوض مع العدو الإسرائيلي، أو رفض التفاوض، فيما صرح المرشح الدكتور محمود الرمحي عن إمكانية التفاوض حول الأمور الحياتية لتسيير أمور المواطنين نافياً إمكانية إجراء تفاوض على أمر سياسي بين الطرفين (صحيفة الحياة الجديدة، 19/1/2005). ثم حاولت حركة حماس لملمة خطابها الإعلامي في الأيام الأخيرة من خلال القول: إن مبدأ التفاوض غير مطروح على أجندة الحركة في الوقت الراهن. وهذا ما صرح به المرشح و القيادي البارز في حركة حماس إسماعيل هنية في لقاءه مع تلفزيون الجزيرة بتاريخ 18/1، وذلك في سياق برنامج بلا حدود الذي يعده ويقدمه الإعلامي الشهير أحمد منصور. ثم تكرر ذلك التصريح من قبل الناطق باسم حركة حماس _سامي أو زهري_ في برنامج حواري مباشر على الهواء quot;عبر الفيديو كونفرسquot; بتاريخ 23/1/2005م في محطة المنار الفضائية. وجاء تبرير قادة الحركة لذلك بأن عشر سنوات من المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي لم تسفر عن شئ. وكرروا أن أوسلو قد ماتت وكذلك خارطة الطريق، وأنهم يدخلون الانتخابات الفلسطينية ضمن واقع سياسي جديد وعلى أساس اتفاق القاهرة بين الفصائل. وهنا فإن حركة حماس تعبر عن موقف أحادي برفض المفاوضات والتأكيد على خط المقاومة. وتعود إلى خطابها السياسي الذي طرحه الشيخ أحمد ياسين منذ سنة 1988م وهو إمكانية عقد هدنة مع الجانب الإسرائيلي دون تفاوض أو اعتراف وذلك على حدود 1967م. وهذا ما ردده إسماعيل هنية في صحيفة الحياة بتاريخ 22/1/ عندما صرح quot;بأن حماس تؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على الأراضي التي احتلت عام 1967م كحل مرحلي على أن تحتفظ رؤيتها في حدود فلسطين التاريخية وعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال... وعندما تقام دولة فلسطينية كاملة السيادة عاصمتها القدس الشريف لن يكون من مبرر للسلاحquot;. وهو بذلك يربط نهاية المقاومة وإقامة الهدنة مع إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م. وهذا بالطبع خطاب أحادي الجانب قائم على عدم الاعتراف بالأخر بل فرض رؤية من جانب واحد وعلى الأخر أن يقبل بذلك أو لا يقبل. وبالطبع تعول حماس بشكل كبير على المقاومة لإجبار إسرائيل على ذلك وهي تسترشد هنا بتجربة حزب الله في لبنان، حيث أجبر إسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني دون تفاوض أو اعتراف بين الطرفين.

إن موقف حركة حماس يتلاقى هنا مع الجانب الإسرائيلي الذي اتجه بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد سنة 2000م مع الجانب الفلسطيني، واندلاع انتفاضة الأقصى تدريجياً إلى الخطاب الأحادي الجانب. حيث اعتبر الجانب الإسرائيلي إن ما قدم في كامب ديفيد كان أقصى ما يمكن التنازل عنه إسرائيلياً، بل أن حزب الليكود المعارض اعتبر أن ما قدم من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك_ يهودا براك_ يعد تنازلاً كبيراً لا يمكن القبول به. وبدأ يتعزز الخطاب الأحادي الإسرائيلي مع فشل كل المشاريع التي قدمت لاحقاً من قبل المبعوثين الأمريكيين والأوروبيين. وبدأت خطوات ترجمته على أرض الواقع من إقامة الجدار الفاصل الذي يقوض أي أمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في قطاع غزة والضفة الغربية. ثم تلا ذلك خطة فك الارتباط التي أعلنها شارون في نوفمبر 2003م لقطع الطريق على خارطة الطريق التي قبلها شارون بتحفظات تقتلها في مهدها. وبدأ شارون يفرض رؤيته الأحادية على الأرض دون تردد أو اعتبار للتحفظات الأمريكية والأوروبية التي لم تستطع سوى التناغم حتى التماهي مع حزم وعزم وإصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي. ولم تتوان أوروبا وأمريكا سوى تسويق ذلك للجانب الفلسطيني الأضعف في المعادلة الدولية بعد تراجع الغطاء العربي والإقليمي والدولي للموقف الفلسطيني. وجاءت خطوات اغتيال الشيخ ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي ثم اغتيال الرئيس ياسر عرفات باسم إلا تعزيزاً للموقف الإسرائيلي الأحادي، وتقوية للخطوات الإسرائيلية لفرض الرؤية الأحادية والأمر الواقع على الأرض.

ومجمل القول إن حركة حماس تتلاقى هنا مع الجانب الإسرائيلي في حمل كل منهما خطاباً أحادياً، ورؤية أحادية يحاول كل طرف فرضها على الطرف الآخر. فشارون ومن بعده حزبه كاديما الذي يسير على نهجه يسعى إلى رفض الآخر، ورفض التفاوض وفرض الأمر الواقع عليه. وقد صرح بذلك شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي بأن إسرائيل ستقدم على خطوات من جانب واحد في الضفة الغربية. وهذا بالطبع على غرار ما تم في قطاع غزة أي بخروج إسرائيل من المناطق السكانية الفلسطينية، وجعل الجدار العنصري حدوداً سياسية بين الطرفين. وبذلك يتحقق الانفصال الإسرائيلي عن الضفة الغربية دون تفاوض وطبقاً للرؤية الإسرائيلية في فرض سياسية الأمر الواقع. وهو بحد ذاته ليس حلاً للصراع بل إدارته من طرف واحد. وهو يتقاطع هنا مع الخطاب السياسي لحركة حماس التي يعتبر الهدنة ليس اعترافاً بالاحتلال أو بشرعيته بل هو تأجيل الصراع للجيل القادم. فهو بذلك يشكل إدارة للصراع حتى تأتي الأجيال القادمة لحسمه في ضوء عدم قدرة الجيل الحالي وضمن المعطيات المحلية والإقليمية والدولية لإنهائه. وأمام هذا الخطاب الأحادي الذي يحمله حزب كاديما الذي يتوقع حصوله على النسبة الأكبر من مقاعد الكنيست الإسرائيلي، وتحمله حركة حماس الذي يتوقع حصولها على عدد لا بأس به من مقاعد المجلس التشريعي القادم تتحد سيناريوهات المرحلة القادمة في الساحة السياسية الفلسطينية والإسرائيلية. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هل تنجح حركة حماس في فرض خطابها أحادي الجانب أم الطرف الإسرائيلي الذي تجاوز خطابه من الأقوال إلى الأفعال التي تتجسد على الأرض يومياً. وهل تجربة حزب الله في لبنان تنطبق على الجانب الفلسطيني أم تشكل سياقاً جيوسياسياً آخر؟ وهل القضية الفلسطينية بحاجة إلى تجارب ومغامرات سياسية جديدة؟ وهل تنجح حركة حماس فيما فشل فيه آخرون؟ وهل يشكل خطابها خطاباً واقعياً براغماتياً أم ديماغوجياً ماضوياً؟ وهل يعني أن زمن المفاوضات قد ولى؟

د. خالد محمد صافي

كاتب واكاديمي مقيم في غزة