كان الغزو الامريكي للعراق وسقوط النظام السابق فيه مناسبة جدية لكل الاطراف السياسية العراقية لاعادة قراءة وتعيير اجندتها وفقا للوضع الجديد وكان من الطبيعي ان يفعل هذا السياسيون الاكراد، حالهم حال الاخرين، اضافة الى كونهم،واقعا وليس مدحا، من افضل السياسيين العراقيين حنكة وقدرة على تحريك قطع اللعبة السياسية بذكاء واحتراف واضح. وعلى هذا الاساس وجدت القيادة الكردية في كركوك حقا حانت الفرصة لاسترداده كما وجدت في سهل نينوى عمقا استراتيجيا لاقليم كردستان انطلاقا من التركيبة السكانية الخاصة التي يتمتع بها سهل نينوى حيث تنتشر فيه القرى التي تسكنها اغلبية واضحة من ابناء شعبنا الكلداني الاشوري السرياني بالاضافة الى اقليات اخرى من الاخوة اليزيديين والشبك الى جانب وجود كردي وعربي.

ليس بخسا باهمية سهل نينوى بالنسبة لاقليم كردستان كمنطقة نفوذ جديدة فيها من الفوائد اكثر من نقيضها حيث على الاقل من المتوقع ان لاتسبب هذه المنطقة لقيادة الاقليم الكثير من الصداع، إلا ان الاهمية الكبرى لهذه المنطقة تكمن في انها تقع على اطراف مركز محافظة نينوى أي مدينة الموصل ذات الوجود الكردي الفاعل، حيث وكما هو واضح للعيان ان الصراع في هذه المدينة منذ سقوط النظام كما هو الحال في مدينة كركوك هو صراع قومي في سمته الغالبة على النقيض من الصراع في بغداد وباقي المدن العراقية الذي تغلب عليه الصبغة المذهبية الطائفية. ولذلك و في اجواء من الضبابية وعدم وضوح الرؤية لمستقبل العراق كدولة واحدة او مجموعة دويلات او على الاقل مجموعة اقاليم على شكل اشباه دول، وفي مناخ شهدته المرحلة الاخيرة من ارتفاع اصوات واصوات مضادة في مدينة الموصل كما في مجلس النواب تنذر بتبلور مرحلة جديدة من الصراع على النفوذ في هذه المدينة، كل ذلك يترك القيادة الكردية مجبرة على التفكير من اجل الوصول الى اليات صحيحة تكفل التصدي ومعالجة تحديات المستقبل القريب والبعيد إن لم يكن جني ثماره.

لقد كان التغلغل الكردي الى منطقة سهل نينوى بعد سقوط النظام موفقا في اختيار الية التنفيذ حيث اعتمد ولازال في سمته الغالبة برنامجا يقوم على نسج افضل العلاقات متجنبا قدر الامكان العنف واثارة مشاعر اهل المنطقة بل مدغدغا تلك المشاعر من اجل الحصول على قبول جماهيري، لقد جاء الاخوة الاكراد الى المنطقة يطلبون الود وتعميق العلاقات باسلوب حضاري و في زمن عصيب على سكان سهل نينوى، وكان اختيارهم للسيد سركيس اغاجان موفقا ليقوم بدور ( العريس ) لما يتمتع به الرجل من صفات شخصية تلقى قبولا لدى المتلقى كونها تنسجم مع التركيبة الشخصية لسكان المنطقة. فالرجل يتمتع بذكاء واضح ويحب العمل بجد ومثابرة وتبدو على سيمائه ملامح الخجل الصادق التي تجد حرجا واضحا من سماع عبارات الاطراء والمدح المفرط كونها حالها حال نقيضها النقد الحاد تقود الى التأثير سلبا في دوره فتؤدي الى انكماش مساحة دائرة حركته، ولذلك فقد يرى في كليهما، الاطراء والنقد، لحظات حرجة تدعوه في سره الى مناجاة ربه من خلال الاية الرائعة التي تقول ( وأدعني في يوم الضيق، أنقذك فتمجدني ). قد يحاول البعض تفسير هذا كونه اتهام للسيد سركيس اغاجان في انه ينفذ اجندة كردية وفي هذا يكون هذا البعض احد اثنين، فهو إما صاحب قراءة سطحية لما يُكتب او مَن حسب نفسه ماهرا في الاصطياد في المياة العكرة فالسيد سركيس اغاجان يشغل منصبا مرموقا في حكومة اقليم كردستان فهو نائب رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد فيها كما يعلن رسميا وليس مسؤولا عن دائرة وهمية سرية ( للعلاقات العامة ).

ان الواقع يشير الى ان طلب ( الخطوبة ) قد باركته الارض والسماء معا، فالكثير من ابناء شعبنا يشيدون بالدور الايجابي والبناء الذي يقوم به السيد سركيس اغاجان حيث انه استطاع وفي ظروف صعبة ان ينظم حياة اهل المنطقة او يمنعها من الانفلات في مجالي الامن و الخدمات في وقت كانت المنطقة ولازالت بامس الحاجة الى ذلك لانها كما يبدو وبسبب الظرف الذي يعيشه العراق ربما ليست على قائمة الاهتمامات الثانوية للحكومة المركزية، ولهذا وانطلاقا في ان الكيسسة تعكس مشاعر رعيتها في الوقت الذي تنثر بركات السماء، جاء قرارها في ان تهب بركتها لجهود السيد اغاجان حيث منحته الكنائس الكلدانية والسريانية والاشورية اوسمة التقدير التي من المؤكد جاءت بعد قراءة وتمحيص دقيق كونها تمثل اعلانا وانحيازا رسميا ومعنويا للجهد والخط الذي يمثله السيد اغاجان، وربما كان هذا من المناسبات القليلة التي يجتمع فيها الاحبار الاجلاء في كنائس شعبنا في الاتفاق على تقييم قضية معينة.

ان الانجاز الحقيقي للسيد سركيس اغاجان يكمن في انه يمثل برنامجا نوعيا يمكن ان ينتشلنا من مستنقع التسمية وبالتالي حالة التشتت و التشرذم التي غرقنا فيها خلال الفترة الماضية، من خلال تحشيد قوى الكنائس لتكون عاملا ايجابيا في وحدة شعبنا. ان الصراع الخفي او المعلن ( إن كان موجودا ) بين السيد اغاجان واطراف سياسية اخرى في شعبنا ومنها على سبيل المثال الحركة الاشورية لايخدم اطلاقا قضية شعبنا في هذه المرحلة،خاصة وان المرء يكاد يصل الى قناعة في اتفاق هذه الاطراف على امور جوهرية ياتي الموقف من وحدة شعبنا وتسميته في المقدمة منها ولذلك فان الواجب يتطلب من جميع هذه الاطراف للنهوض بمسؤولياتها بعيدا عن الانانية السياسية في هذه المرحلة الحساسة بما يتيح لهامش كبير من التعاون يسمح لكافة الاطراف بالمشاركة البناءة في قضية شعبنا للوصول الى افضل النتائج. ان الدعوة الشجاعة للسيد اغاجان الى الاشارة الى شعبنا في دستور اقليم كردستان بتسمية تشير الى كونه شعبا واحدا بعيدا عن الواوات والتركيبات قد ألقت الى سلة المهملات باطنان من الكتابات والانشاءات التي هطلت علينا كمطر تيزاب خلال السنوات الماضية.

ويبقى السؤال الاهم، هل نمضي في مشروع الزواج بعد كل هذا الحديث عن ايجابيات و فوائد مرحلة الخطوبة؟ ان المتحمسين للمشروع وخاصة اؤلئك الذين هم الان جزءا من الاقليم كون مدنهم تقع داخل حدود الاقليم يجب ان يوازنوا بين حماس المشاعر ورؤية الواقع لكي لايفسر حماسهم انه رغبة ذاتية لتقوية مواقعهم في الاقليم بالاستاد الى قاعدة جماهيرية اكثر عرضا. لقد اثبتت الوقائع ان الخطوات المصيرية الاستراتيجية لاتتطلب فقط ( فتية امنوا بربهم فزادهم الله هدى ) بل اضافة الى ذلك دراسة واقعية علمية لحسابات الحقل و البيدر وهنا يكمن التساؤل في نضج الظروف والمقومات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي تسمح بالقيام بالخطوة ناهيكم عن معايرة التاثيرات الخارجية للقوى المحلية و الخارجية لان اية انتكاسة ( لاسمح الله ) ستلقي بضلالها وعواقبها على شعبنا بالدرجة الاولى وعلى العلاقة المستقبلية مع الطرف الاخر وبالتالي على ذلك الطرف حتما بدرجة او باخرى بغض النظر عن حجم الخسائر. اننا نتفق جميعا في ان الوضع العراقي الاني هو وضع غير مستقر ويضع الجميع في حالة الموازنة القلقة وكما نعلم ان اية حركة غير محسوبة في ظروف الموازنة القلقة تؤدي الى نتائج وعواقب خطيرة ففي مرحلة التناحر والصراع يكون اي قرار حاسم في الاصطفاف ينطوي على مسؤولية عظيمة. بينما يكون قرار الاصطفاف في مرحلة تبلور الوضع ووضوح معالمه او حتى الاسقرار النسبي قرارا سلسا ليس فيه من هامش الخطورة الشئ الكثير. ربما يقول قائل، أهكذا نجازي الاخوة الاكراد وقد فعلوا ويفعلون الكثير لنا في هذه المرحلة؟ ألم يكن الارهاب قد وجه لنا ضربات موجعة لولا مساعدتهم؟ أليس من عدم الحكمة ان ننظر بحذر لطرف يعلن استعداده لكي يمنحنا حقوقا في الوقت الذي ينسى احيانا كثير من الاخرين اسمائنا؟ كل هذا و غيره قد يمثل جزءا مهما من الحقيقة ولكن هل من العدل ان يقول سهل نينوى المسالم كما يقال في الشطرنج ( كش) في وقت ترى مصير اللعبة ملبدا بالغيوم وامريكا ( بجلالة قدرها ) تفقد المزيد من قطع اللعبة والاتي سراب في سراب. ان تعريفا دقيقا للقيادة الكردية يتلخص في ان هذه القيادة قد اعطت انطباعا للاخرين في انها مجموعة من الاساتذة البارعين الذين وضعوا مصلحة شعبهم لافتة عريضة على كل الطرق التي قرروا الدخول فيها وفي هذا استحقوا تقدير واعجاب الكثيرين، والشخصية الكردية معروفة انها بالفطرة تحب الخير للاخرين كما لنفسها ولا تحلل لها ما تحرٍمه على غيرها، واستنادا الى هذا حيث من الفخر ان يتعلم الاسان من الاخرين ماينفعه كما ان الاستاذ يمتلئ زهوا وهو يرى تلميذه يتقن ما تعلمه منه، نرى انه انجاز كبير ان يتضمن قانون اقليم كردستان ما يشير الى حقوقنا في منطقة امنة قد تكون جزءا من الاقليم على ان يؤجل تنفيذ ذلك حتى يصار الى استفتاء فيه بعد اتضاح معالم العراق الجديد الذي سيلد بعد الخروج من الوضع الحالي ونواضب في الوقت نفسه على تطوير تجربة السنوات الثلاث الماضية لنسج افضل العلاقات بين سهل نينوى والاقليم.

ان العراق في وضعه الحالي حقل كبير للالغام وخروج الجميع بسلام من هذا الكابوس بحيث يصبح جزءا من الماضي هو التحدي الاكبر الذي يفتح الطريق للتفكير بهدوء في المسقبل.

الدكتور وديع بتي حنا

[email protected]