يبدو أن الكثير من المفاهيم والمصطلحات قد تم تجييرها في خدمة السياسة الحزبية الضيقة، وأصبحت تستخدم في غير محلها وبعيداً عن مدلولها الحقيقي وسياقها الموضوعي والتاريخي. فالوطنية التي تشتق من الوطن بمعنى حب الوطن أصبحت تختزل في إطار فئوي نتيجة الاستقطاب الحاد الذي يسود الشارع الفلسطيني. إذ تجاوز الاستقطاب الخطاب السياسي وأصبح يفرض نفسه على كل شيء. وبات من الممارس أن من يخالف سياسية الفصيل يطرد من رحمة الوطن، وينفى إلى جزيرة اللاوطنية. فالكل مطالب أن ينتمي إلى الفصيل وخطابه السياسي، وسياسته أصابت أو أخطأت. فلا انتماء للوطن في ظل الفصيل. فالوطن في خدمة الفصيل، وأرضه ملاعب لقادة الفصيل، يلعبون بكوره، وحاضره، ومستقبله. وكل وطني بالتالي مطالب أن يجلس في عداد المصفقين والمهللين لقادة الفصيل بكرة وأصيلا. وعليه التسبيح بحمد الله أن الله قد سير له مثل هؤلاء القادة ليتولوا أمره، ويتبنوا قضيته، ويقودوا مشروعه الوطني، ويسروا حياته. وعليه أن يهتف لهم ليلاً ونهاراً بأن يطيل الله أعمارهم، ويسدد رأيهم، ويصوب رميهم، ويجنبهم عثرات الطريق ما ظهر منه وما بطن. فهم أهل الوطنية، وحماة الوطن، بيدهم صكوك الغفران وعلى أبوابهم ومكاتبهم تمنح شهادات الوطنية. فأنت وطني ابن وطني من جد وطني وعائلة وطنية، وعشيرة موغلة في الوطنية منذ الخلق إلى قيام الساعة طالما أنت تمنح الولاء، وتسارع إلى الانتماء، وتعلن من الغير البراء. فأنت المبايع، وأنت للأمير طايع، وللجماعة تابع. عليهم إدارة الأمور، وتسيير الشؤون وليس عليك إلا السمع والطاعة. وألا فإنك ستطرد من رحم الوطن، ومن سماء الوطنية. وتلصق بك كافة أشكال الاتهامات والافتراءات فأنت المتآمر، وأنت المتمرد، وأنت العاصي، وأنت الزنديق، وأنت المنافق، وأنت الانقلابي، وأنت الإرهابي. عليك لعنة الله، وغضب أولي الأمر ومن لف لفهم وسهر على تنفيذ أوامرهم. فانتظر افتتاح أبواب جهنم، وبئس المصير، وإلى أسافل الجحيم. وتوقع أن تصدر بحقك فتوى بين الحين والحين. فأنت معرض للقتل، أو قل الإصابة، أو الضرب المبرح، أو ما شاء لك من بيده الأمر، وهو في ظل الانفلات الأمني على كل شيء قدير.

أما الجانب الثاني فهو الإسلام الذي هو ديننا الحنيف الذي أرسله الله عز وجل من خلال رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) هداية للعالمين. فهو شامل لكل زمان ومكان ينظم علاقة الفرد بربه، ويخرجه من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وهو هنا ليس حكراً على أحد، ولا يمكن اختزاله في حزب واحد وحيد. فهو هداية للبشر كبيرهم وصغريهم، ذكرهم وأنثاهم، قويهم وضعيفهم، أسودهم وأبيضهم، أدناهم وأقصاهم. وكان من عظمة الإسلام كما قلنا أنه دين البشر أجمعين بعد أن جاء نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) مبشراً ونذيراً ورسولاً، رءوفاً رحيماً بشوشاً في وجه أتباعه مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم إلى يوم الدين. وجاء القرآن نصاً واضحاً يشتمل على العبادات، والحدود وقصص الأولين للعبرة والعظة. وخضع النص للتفسير والتأويل من المسلمين على مدار أربعة عشر قرناً. وجاء الفكر والخطاب الديني ليشير إلى كيفية قراءة وفهم البشر للنص. فتعددت التفاسير، وتباعدت التأويلات. ونشأت المذاهب وقامت الفرق كل يدعي صحة تفسيره وصواب قراءته. ولم يخلو التاريخ في فترة من فتراته من حركات إسلامية تدعي صواب نهجها، وصحة سيرها. وها نحن نشهد اليوم حركات الإسلام السياسي تنتشر من أقصى الأرض إلى أدناها. وكل حركة تحاول اختزال الإسلام في خطابها، وتقنع الأتباع والمناصرين باحتكارها للإسلام فهي التي تمثله، وهي التي تسهر من أجله، وهي التي تصنع القادة لخدمته، وتجند الأتباع والأشياع من أجل نصرته. كل ذلك يتم مع أن الدين الإسلامي أكبر من الجميع، ويصعب اختزاله في فئة أو مجموعة فهو وكما قلنا دين البشر أجمعين. فديننا لا يحتمل الكهنوت، ولا تمارس شعائره فقط داخل بنيان موصدة، وأبواب مغلقة، بل علاقة مباشرة بين العبد وربه دون حاجة إلى أولياء أو أوصياء. وإنما الدين المعاملة أسوة برسولنا الكريم.

أما الجانب الثالث هنا فهي الحقيقة التي هي أيضاً ليست حكراً على أحد. ولا يمكن اختزالها في مجموعة أو فئة أو حزب مهما علا شأنه، وارتفعت شعبيته. فالإنسان غير معصوم من الخطأ والكل يعرف أنه كائن ناقص والكمال لله وحده. وهنا يكمن بيت القصيد حيث أن إدراك الإنسان وإحساسه ووعيه وتفكيره لا بد أن يتسم بالنقص. ولذلك فإن بلوغ الحقيقة كاملة، وإدراكها بشكل تام وشامل هو أمر بعيد المنال. ولذلك فإن إدعاء طرف بأنه يمتلك الحقيقة وأن غيره على خطأ هو اتهام يفتقر إلى الإدراك والفهم السليم، وصفات الإنسان الحليم. وهو محض كذب وافتراء. فالإمام الشافعي رحمه الله قال: رائي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. فالإمام هنا لم يدع امتلاك الحقيقة كل الحقيقة، ولم يختزلها في مذهبه، ولم يفكر أن يختزلها أحد في حزب أو فئة أو جماعة. فالكل يسعى إلى إدراك ما يستطيع من الحقيقة دون الإدعاء بقرب بلوغ الأرب، وقرب الوصول إلى المنتهى. والكل يجتهد ولكل مجتهد نصيب فإن أصاب فله حسنتان وإن أخطأ فله حسنة.

ومن هنا نعيش واقعاً يعاني انقساماً في خطابه السياسي وتشرذماً في بناه الاجتماعية، وارتباكاً في أهدافه، وتشويشاً في تصريحات قادته الإعلامية، وانفلاتاً في أمنه، وتدهوراً في مسيرته التعليمية، وتراجعاً في اقتصاده ومقاومات صموده، وصراعاً بين أبناءه، وانحرافاً في مشروعه الوطني، وووو... الخ. ولكن الأعظم هو انشغال أهل الفكر والرأي فنحن لا نشهد تصنيفاً ولا تأليفاً في الفقه بل تصنيفاً للبشر بين كافر، وعاص، وزنديق... الخ. وعلى صعيد الكُتاب فهناك من لا يصنف الموسوعات، بل يشغل نفسه بتصنيف الكُتاب حسب درجة قربهم أو بعدهم عن التنظير للفصيل أو قادته أو حكومته. فهذا كاتب يمتلك الحقيقة ويدافع عنها، فهو الكاتب المهني والملتزم، وهو يصيب ولا يخطئ، فهو المرضي عنه من أولي الأمر. وهناك صنف يمتلك فقط نصف الحقيقة فيما يكتب بينما يعاني الجزء الأخر من كتابته من التشويش، فهو يخطئ ويصيب وإن كان خطأه أكثر من صوابه، فيدعا له بالهداية وتسديد الرأي وصواب البصر والبصيرة عسى أن يحوز رضى أولي الأمر في النهاية فيكون من التائبين الصالحين. وهناك صنف قد جانب الصواب وتاه عن الحقيقة فتاهت عنه، قد عمي بصره وبصيرته فأصبح لا يعقل أصحابه ولا يدركون. عليهم غضب أولي الأمر وبئس المصير.

د. خالد محمد صافي