في حقيقية الأمر، لم أكن أخطط لأكتب عن أيّ شيء خلال عطلة هذا العيد المبارك، بل كنت أجترّ آلامي لوقع أخبار النائبات الجاريات في عراق اليوم والتي لا تنقطع في شبكات التلفزة والإعلام والصحف، ذلك لأني كنت قد عزمت على إعادة قراءة التأريخ، ( العراقي بوجه خاص )، من مصادر جديدة، لعلّيّ أجد فيها بعض التفسير لما يجري اليوم في عراق الدماء والدموع والألم. ولم أهتد، لغرض هذه القراءة الجديدة، الى كتاب أفضل من كتاب الأستاذ المؤرخ عبدالأمير الرفيعي بأجزائه الثلاثة المفصّلة، وبمراجعه العديدة والمرشدة الى منابع معرفية أخرى. وعنوان الكتاب هو quot; العراق بين سقوط الدولة العباسية وسقوط الدولة العثمانية quot;. ولست هنا بطبيعة الحال، بصدد إستعراض الكتاب أو تقويمه ولا حتى للدعاية له. قطعا لا؛ كما أني لم أقرأ الجزء الثالث بعد، لعدم توفر خادم لتحميله من موقعه الألكتروني. بيد أني وجدت نفسي معجبا تماما بذلك العرض المتماسك والمتداخل والمفسر أحيانا للأحداث. ولإستيعاب دروسه لابد من إستكمال القراءة، ومن ثم إعادتها، بحثا عن العوامل الطاغية الحقيقية وليس السطحية أو الثانوية للأحداث؛ من غزوات وفتوحات وإنتهاكات وصراعات ومظالم تتكرر في كل مرّة بصورة أبشع مما سبقها.


إن تلاحق أو تتابع قصص الفضائع والمكابدات والحرمان التي تصيب أهلنا وأطفالنا في العراق اليوم يستوقف، بل وينغّص كل شيء في نفسي وبنفس عائلتي، وبالتأكيد في نفوس كل العراقيين في المهاجر، ممن تشدهم روابط الوفاء وإنسانية الإنتماء، قبل قوميته أو وطنيته أو مذهبيته.


هنا في هذه البقعة من الأرض، أرض الرافدين، ولد العقل الإنساني المفكر الأول، وتواترت الحضارات، لكنها كانت حضارات نازفة بالدماء وحافلة بالموت الزؤام والعذاب في كل منعطفاتها التأريخية. لعلها فعلا كانت واحدة من أكبر الدرامات في التأريخ البشري تلك التي شهدتها أرض الرافدين. لقد كانت مسرحا ممتدا على مدى العصور للحروب والغزوات والنحر والسلب، وكأن قلوب الرجال قد قدّت من صخور، ولا مكان فبها إطلاقا للضمير.


ولو إستبعدنا مؤقتا العصور التي تبدو للقارئ المعاصر زاهية، كعصر دولة الخلفاء الراشدين، ثم الدولة الأموية، ثم العباسية؛ فهذه عصور تعتبر زاهية فقط بالمقارنة مع ما حصل اعتبارا من الثلث الأخير من العصر العباسي؛ أي منذ بداية ما يسمى بعصر الإنحطاط وهيمنة المماليك، وصولا الى العصر السلجوقي، ثم المغولي ثم التركماني، ثم العثماني. وهذا التتابع لا يعني تعاقبا تأريخيا، كلا، فقد تعاصرت الدولة العباسية أسميا مع دولة السلاجقة، كما تعاصر العهد المغولي مع بقايا العهد السلجوقي، وهذا الأخير أخرج من معطفه العهد التركماني الذي أولد بدوره العهد الصفوي الذي تعاصر مع العهد العثماني وهكذا؛ فهذا التعاصر الجزئي أو الكلي كان مبعثا للصراعات العنيفة والفتوحات والغزوات المتقابلة التي كان يدفع أثمانها الفلكية العراقيون، عربا وكردا وطوائف أخرى. و تشير ظواهر الأحداث الى إن الدافع أو العامل الطاغي لتلك الحروب والغزوات الممتدة على مدى تسعة قرون هو الرغبة في الإستحواذ على السلطة؛ أي إن الصراع على السلطة كان يبدو وكأنه شخصي، يقوده رأس أو زعيم قبيلة. تتوفر له الظروف ليقودهم في غزوات تفتح لهم البلدان وتجلب لهم الكنوز والنساء والخصيان والجاه والعظمة! !


هكذا يبدو مسرب الأحداث، ولكن ذلك العامل، على صحته، ليس هو العامل الحاسم، إنما هو الصراع من أجل الموارد والثروات، فبلاد الرافدين تفيء بالريع الزراعي الوفير، وهي تقع في واد خصيب غير محصّن، وتحيط به أقوام بدائية وبعضها بربري حتى النخاع؛ وحالما يضرب الفساد أطنابه وتبلغ الفرقة شاؤها بين العراقيين، وهي فرقة أساسها غياب العدل، كما حصل في أواخر العصر العباسي، تندفع الموجات الهمجية لتستثمر الإنقسام، فتولغ بالدماء ولتنهب كل فيء وريع، ولتظلم الناس وتستعبدهم لحينما يحلّ ضعفهم الناشيء، دوما، عن إقتتالهم وصراعهم الجشع على السلطة فيما بينهم، وخصوصا صراع الأشقاء الوارثين لها، فلكم كان هو عدد الحالات التي ذبح فيها الأخ أخوه، والأبن أبوه أو بالعكس، بل وخنق الأخ أخيه، وهو رضيع، لئلا ينافسه مستقبلا على الحكم! !


هكذا إذن تولّدت ثقافة للموت، وهي بالأصل ثقافة همجية، حملها برابرة من أجل النهب، ولكنهم حالما يستقرون يبدأون بتلقي بعض النور من هدايات الإسلام، ومن ثقافات الحضارات الأولى في العراق وما يجاورها من بلاد العرب والفرس، فالفرس،مثلا، كانوا يشكلون المصدر المعرفي الأول للسلاجقة الذين تحولوا، كما تحول التركمان، و كما فعل المغول بعد إحتلال بغداد في عام 1258؛ تحولوا جميعا الى الإسلام، فيعم بعض الهدوء ليواصل المزارعون العراقيون زرعهم الذي لا يحصلون منه إلا ما يسد الكفاف، حيث يذهب حصيلهم بمعظمه إلى الإقطاعيين العسكريين الغزاة وألى السلطان المستبد محاصصة. وتحت رايات الإسلام وبتوظيفه تستمر الحروب والفتوحات غربا نحو أوربا وشرقا نحو العالم العربي والإسلامي. وما كانت إنتفاضات عرب الوسط والجنوب وأهل بغداد إلا ضد الظلم والهوان، وهكذا قامت دولة بني أسد والمشعشعين والمنتفك، ضد العسف وإضطهاد الإقطاع العسكري الذي كان يقيمه الغزاة، وخصوصا العثمانيين منهم.


أمام هذه الخلفية المروعة للتأريخ، كيف يقرأ الإنسان العراقي تأريخه اليوم؟ هنا يتجسد درس بليغ، وهو إن موجات الناهبين والذباحين لم تكن تفلح لولا إنقسام العراقيين وتشظيهم وتهالك قادتهم، إلا ما ندر، على السلطة والجاه، لصالح هذا الداعية وذلك الأمير، أوهذا الخليفة أو ذاك السلطان.
لعلّه هو هذا التأريخ الدرامي الذي سيدلنا على مكامن العقم والعجز في ثقافة الكثير من القادة العراقيين وتصورهم لمستقبلهم؛ هاهم يتذابحون اليوم لصالح جهات غير عراقية، فهم بيدهم يفتحون بوابات بغداد للناهبين والقتلة والأشرار.

د. كامل العضاض
[email protected]