شهد السابع من الشهر الجاري الانتخابات الجزئية ( التجديدية ) للكونغرس الامريكي، حيث يتنافس على شغل مقاعد مجلسي البرلمان الحزبان الرئيسيان الجمهوري والديمقراطي. ويرجع الكثير من علماء السياسة والقانون والاجتماع اسباب الاستقرار السياسي والاقتصادي ومتانة اجهزة الدولة وفاعلية ادائها الى ثنائية المنظومة الحزبية، ذلك ان تناوب الحزبين الرئيسيين على ادارة الدولة من شأنه تأمين الحد المناسب من الاستقرار لتنفيذ برامج الادارة السياسية، وخصوصا الستراتيجية منها.


ان اختزال اسباب وعوامل فوز او فشل اي من الحزببن في الانتخابات البرلمانية الى العامل الخارجي (بما في ذلك حروب الولايات المتحدة خلف المحيطات) يعبرعن اشكالية واضحة في فهم وترتيب اولويات السياسة في دولة كبرى مثل الولايات المتحدة الامريكية. فدولة بهذه الكثافة السكانية لابد وان تشكل اجندتها الداخلية العامل الحاسم في تحديد موقف مواطنيها من مؤسسات دولتهم المنتخبة، سيما وان موضوعات ذات علاقة مباشرة بحياة السكان اليومية، مثل الضرائب والضمان الاجتماعي والصحي ومستوى دخل الفرد ومقدار تفعيل الحريات الشخصية....الخ تشكل الاجندة الاكثرة اهمية بالنسبة للناخب الامريكي. وفي جميع الاحوال، ومع عدم التقليل من دور العامل الخارجي (المساعد) يبدو التعرف على الخارطة الحزبية في الولايات المتحدة الامريكية ضروريا للخروج باستنتاجات اكثر واقعية.


فقد شهد القرن التاسع عشر نشوء الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري، حيث تم تأسيس الاول في العام 1828 فيما شهد العام 1854 ولادة الثاني. واذا كان الحزب الديمقراطي قد تأسس في الولايات الجنوبية من انصار الحفاظ على الاقطاعيات الزراعية مع الاستغلال المفرط لقوة عمل العبيد. انتشر الحزب الجمهوري في الولايات الشمالية بين مؤيدي تحريم استغلال العبيد والغاء العبودية كنظام والذي تم بالفعل في عام 1865. وربما كان لقرار الالغاء الفضل في تقليص الهوة بين برنامجي الحزبين وحصر الفوارق بينهما في المسائل الاقل اهمية. حتى انه ليس من الصعوبة ملاحظة تبادل الادوار بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري قبل اجراء العملية الانتخابية وبعدها. ففي الوقت الذي وقف فيه الرئيس السابق للولايات المتحدة الامريكية الديمقراطي بيل كلينتون، على سبيل المثال، الى جانب احداث تغييرات جوهرية في البرامج الاجتماعية الداخلية وزيادة حجم المساعدات للبدان النامية. وجد الجمهوريون ان تلك المساعدات ستضاعف الاعباء الملقاة على كاهل دافع الضرائب الامريكي بالاضافة الى موقفهم الداعي لتقليص الضرائب عن رجال الاعمال والمستثمرين. وربما كان ذلك السبب الرئيسي في ايصالهم (الجمهوريين) الى البرلمان في العام 1994 لأول مرة خلال اربعين عاما من تأريخ الولايات المتحدة الامريكية، حيث فازوا باغلب المقاعد في مجلسي الكونغرس الامريكي.


ان تمتع الحزبين الديمقراطي والجمهوري بمساندة واسعة من جمهور الناخبين جعلهما يتناوبان قيادة السلطة في الولايات المتحدة. فعندما يكون احداهما في موقع صنع القرار يتخذ الثاني موقف المعارض. ألأ ان الأليات الدستورية (التشريعية) وضعت بالطريقة التي تجعل صندوق الاقتراع هو الفيصل الحاسم في تحديد الجهة السياسية الجديرة بقيادة الدولة والمجتمع والحيلولة دون حدوث الهزات السياسية والاجتماعية والتي نشهد،منذ سنوات، تجلياتها في بلدان الديمقراطيات الناشئة (قرغيزيا، اوكرايينا، جورجيا،....الخ). كل ذلك يمنحنا الحق بالحديث عن ثنائية المنظومة الحزبية في الولايات المتحدة، تلك المنظومة التي تؤمن، كما يعتقد الكثيرون، الحد المعقول من الاستقرار السياسي للبلاد، ذلك ان تعدد التنظيمات الحزبية وما ينتج عنها من تعددية ايديولوجية ستجعل من برلمان الدولة حلبة واسعة للعراك والجدل السياسي، ما يؤدي الى اضعاف واجباته الاهم، الأ وهي المهمات التشريعية والرقابية.


ويتمتع البناء الداخلي للحزبين الديمقراطي والجمهوري بخصوصية ايضا، فليس هنالك من برامج دائمة لدى الحزبين، بالاضافة الى غياب بطاقة العضوية والاشتراك المالي، وهما السمتان الرئيسيتان للحزب السياسي بمفهومه التقليدي. فقد قام الحزب الديمقراطي لأول مرة باقرار برنامجه في العام 1974. فيما يعتبر اعضاء في الحزب كل الناخبين المصوتين في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ويتم تنظيم الاجهزة الحزبية الدائمية وفقا للجغرافيّة الانتخابية حيث تؤلف لجنة المحطة الانتخابية هيئة الحزب الدنيا المعينّة من قبل الهيئة الحزبية الاعلى منها، تليها لجان المناطق في المدن الكبرى ومن ثم لجان الوحدات الادارية مثل النواحي والمدن، فيما يعتبر الكونفرنس الوطني، والذي يعقد مرة واحدة كل اربع سنوات، هرم البناء الحزبي.


واذا كان الحزبان الرئيسيان (الجمهوري والديمقراطي) يغطيان كافة المساحة الجغرافية للفيدرالية، فان ثمة احزاب سياسية صغيرة تنشط في بعض الولايات. وربما كان الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة الاقدم من بين تلك الاحزاب، حيث تم تشكيله في عام 1919 ولم ينتخب اي من اعضاءه الى عضوية مجلسي الشيوخ والنواب. شأنه في ذلك شأن الكثير من الاحزاب الامريكية الصغيرة مثل الحزب الامريكي المستقل، والحزب الدولي للخضر وحزب الاحراروحزب العمل الاشتراكي...وغيرها.


ويولي المنظرون الامريكيون اهمية كبيرة لدور الاحزاب السياسية حيث يعتبرونها المكوّن الرئيسي للارادة الشعبية والمعبر عن تلك الارادة من خلال تمثيلها في اجهزة الدولة المختلفة. ومن الجدير بالذكر الاشارة هنا الى ان الدستور الامريكي لا يعالج، في اي من مواده، مسألة التنظيم القانوني لنشاط الاحزاب السياسية. غير ان القانون الفيدرالي quot;حول تمويل الحملات الانتخابية quot; والصادر عام 1974 تناول بالتفصيل المسائل المتعلقة بتمويل الحملات الانتخابية لتلك الاحزاب. بالاضافة الى ذلك فأن الكثير من جوانب نشاط الاحزاب السياسية في الولايات المتحدة الامريكية مثل تكوين صناديق دعم الحملات الانتخابية للاحزاب وكيفية اجراء الانتخابات الاولية وحجم المساعدة المالية التي بامكان المواطن التبرع بها للحزب السياسي باتت تشكل الموضوع الاهم للتطبيق القضائي (قرارات المحاكم). فيما اصبحت المعالجة القانونية لنشاط الاحزاب السياسية بالاضافة الى كيفية تشكيل تلك الاحزاب وتفعيل نشاطها وبنيتها الداخلية من اختصاص دساتير الولايات وتشريعاتها الاخرى، ما يعزز دور سلطات الاقاليم في تأطير نشاط الاحزاب السياسية الفاعلة على اراضيها.


انني ارى ان الاستفادة من تجارب الشعوب في التأسيس لحياة سياسية مستقرة سيكون له اثر بالغ الاهمية ليس فقط في ايجاد بدائل مناسبة لانظمة الحكم، وانما لقطع الطريق على عودة التقاليد الشمولية في التنظيم السياسي للمجتمع ايضا.

د. فلاح اسماعيل حاجم