المخرج ليث عبدالامير (بطولة الانجاز، تقهقر المحال)
ان فكرة النفي السومرية او الغياب ككلمة مرادفة للنفي لا تتعلّق بالمكان وانما لها صلة بفقدان الزمان او العيش خارج الازمنة،حيث يستاصل الانسان من بقائه داخل حدود ازمنته ولذلك تقول الاغنية السومرية(لقد نفتنا الاله كاجساد دون قيثارات نجوب ازمنة الماضي، حكايتنا حكاية بحارة يعشقون النبيذ).
اذن المنفي هو الذي يعيش في فراغ داخل زمن فيزياوي محدد ولكنه لا يمتلك هذا الزمن.
عنوان الفلم( العراق اغاني الغائبين)، من هم الغائبون في الفيلم لكي تغيب اغانيهم ايضا؟ وهل هناك معنى
في ايحائي وراء العنوان؟ الفلم لم يحاول استقصاء الاخر ابدا بل سعى جاهدا بالامساك بالواقع العراقي من خلال منح الاخرين فرصة التعبير عن افكارهم وطقوسه حتى الجغرافية المعذّبة داخل حدود بلد اسمه العراق عبّرت عن نفسها ايضا، بدأ الفلم على شكل رحلة من الجنوب الى الشمال،الجميع امتلك كل هذا الحضور كل هذا البوح،اذن لماذا هذا العنوان(العراق اغاني الغائبين).اعتقد ان المعنى الخفي وراء التسمية يقول ان العراق كوطن هو الغائب.العراق اغنية غائبةومغيبة معا.الغياب والنفي للعراق كوطن نراه يتعايشان بأخوة نادرة في الفلم.العراق ُنفي وباصرار حتى من قبل جيرانه،جغرافية الوطن منفية ايضا،بل هُددت على مراحل تكوين الدولة العراقية،اما من قبل حكومات مستبدة او حروب.هذا ما اراده المخرج وبلقطة شاعرية تأكيده،لقد بدأ الفلم بمشهد خوذة فوق اسلاك شائكة.خوذة هي الحرب.ان الحرب مرادف للموت الذي هو غياب ايضا.ونتيجة الحروب اصبح النفي عراقيا شمل اقاصي الارض وخلف تلك الاسوار تعذّب جغرافية العراق المحاذي لايران(الحرب العراقية الايرانية) ودول اخرى. المخرج ليث عبد الامير
نحن المقهورين بالمنفى والحاح المسافات المتجردين كالربيع دون غمد ودون ريّ لازهاره،نحن راينا البستان ضامرا باشجاره وسواقيه وحين كشفنا خيانةمائه احتشد الجند حولنا وبدلا من فض العساكر وخوذهم هممنا بالفرار كما لو كنا في هشاشة ندى، وعندها عمّ ليل دون التصدي لازاحته والاحزاب السياسية ساهمت بهذا التفكك.الاسلاك الشائكة صاغت نفسها وبمهارة داخل الفردالعراقي الذي بدوره غيّب بلده ايضا ولم ينتم بصدق للعراق كوطن وامة.
هذه مشكلة في تأريخ العراق عبر عنها المخرج وبوعي ومن خلال لقطة قصيرة، واعتقد ان المخرج يتبنى مسؤليته التاريخية كفنان وانسان حول هذا الرأي في فلمه.الفلم بدا على شكل رحلة تاريخية نهرية في الاهوار هي مهد الحضارة وتارة في سيارة ومرة اخرى في باص.ليست مصادفة او اعتباطا ان بدأ الفلم بالاهوار،اعتقد لسببين:ان الاهوار عبارة عن قيامة حضارة وقيامة ثقافة لها مغامرة التجربة الاولى لتشيّد معنى الابجدية وثانية عرب الاهوار الذين هم احفاد تلك الحضارة هُجّروا وُجففت اهوارهم ثم تم حرقها،لاحظ هنا موضوعة الغياب تتكرر ثانية (الهجرة هي غياب عن الاصل والتجفيف هو استئصال).
يقول الباحث ويلفرد ثيسجر في كتابه عرب الاهوار منشورات(دار الجمل )،ان عرب الاهوار ويقصد المعدان هم عرب اصلاء عاشوا منذ القدم في هذه المنطقة، وقنوات الاهوار مرصوفة بالآجر السومري،هؤلاء هم سكان شيعة اثني عشرية يقدسون اولياء صالحين،يعتقدون ان لهم كرامات ويدفنون موتاهم في مدينة النجف تقربا الى الامام علي.
كان تنشيف الاهوار موجها الى هذه الطائفة والغرض عسكري له دوافع انتقامية، المراد منه القضاء على عصيانها وتاريخ بعدم الولاء لنظام الحكم و الغاء هيبتهة.واذا لم يكن هذا الامر صحيحا اذن لماذا هُجّروا الى بغداد وكركوك.وهنا يجب ان لا ننسى حركة الكفاح المسلّح في عام 1969ضد نظام البعث،فقد اتخذت من اهوار الجبايش مكانا لها،وبعد ذلك جاءت احزاب المعارضة لتنطلق من الاهوار في كفاحها ضد النظام البائد.
كان الشيعة حاضرين بطقوسهم وخاصة في عاشوراء تخليدا لاستشهاد الامام الحسين.هذه الطقوس اصبحت هوية سياسية ودينية لانهم وجدوا في مواكب العزاء الاعلان عن ذات مقهورة ُمغّيبة ومنفية واقصوا على الدوام عن مناصب الحكم.هنا تعيد عبارة الغياب نفسها،ولكن بعض الشيعة يعتبر ان الدين يجب ان ينفصل عن الدولة وان يكون الانتماء الانسان العراقي الى العراق وليس الى طائفة،لان الطائفة ضيّقة ومفهوم المواطنة اوسع كما قالت الباحثة آمال كاشف الغطاء،وهذا هو ما ينقص العراق حاليا: وهو الانتماء للوطن،والدليل لقد اجريت الانتخابات واعلنت النتائج ولكن الاحزاب الفائزة ولحد هذه اللحظةغير قادرة على تشكيل حكومة وطنية،لانها تؤثر منافع طوائفها على حساب مصلحة العراق،وهذا الموضوع اراه منسجما مع رسالة الفلم التي هي (العراق هو الغائب).
الفلم لم يُنظّر لهذاه الفكرة، بل بالعكس تحاشى الدخول في ترهلات الكلام،لذا ترك الناس يتكلمون ويزاولون افكارهم،فلم يتعلم العراقي لحد الان ان يزاول احلامه بنفسه وان ينطق برأسه لا برأس حاكم او شيخ عشيرة.
الجنوب في الفلم تراه متشحا بالسواد ومناظر العزاء وعليه يتساءل الانسان كيف يستطيع العراقي من تنويع مساحة نظره،واستنطاق حاضره ومستقبله؟.نرى اللطم والطفل نائم او طفل آخر يضرب الزنجيل وفتيات يلطمن على العيون والخدود. اذن كيف سيتعلم الانسان معاشرة الحياة
بالفرح والالوان والاحلام؟.في بغداد ترى وطأة الاحتلال يا للهول!! العراق بلد محتل،جيوش ودبابات وطائرات،ولكن العراقيين يبنون التحدي للاحتلال والارهاب من خلال الاصرار على مزاولة حياتهم اليومية،والثقافة لها حصة اضاءة هذا الظلام،وخير دليل على ذلك شارع المتنبي واقتناء الناس للكتب ومعاقرة القراءة.ولكن هناك بالتاكيد تاهيلا لافقار العقول واقصاء لتنوير الافكار.هناك غياب ولكن من نوع آخر.لكن الفلم لم يعط بغداد اكثر اهتماما والسبب الظروف الامنية واستحالة التصوير،وقد حدثني المخرج ليث عبدالامير شخصيا كيف انه لم يبت ليلة واحدة في بغداد في مكان معلوم،وغيّر مظهره ولبس الدشداشة السوداء واطلق لحيته وكان يحاذر من كل شخص حتى من الشرطة وقد صودرت كاميرته من قبل الاميركان ونجى من الموت باعجوبة حينما حاول استرجاعها.وكان كل يوم يغير برنامج التصوير،واخفى ذلك حتى على فريق عمله،والمرء حين يسمع هذه العبارات يفكّر ان الفلم قد حقق بطولة الانجاز الثقافي وجعل المحال يتقهقر.
الوضع في كوردستان كان ايضا من هموم الفلم لان الكورد يشكّلون معادلة سياسية وجغرافية في النسيج العراقي ونالهم من الحكومات من الدمار والقتل مالم تنله امة غيرهم.كركوك لها خصوصية quot;تركمانية كوردية عربيةquot;وكذلك اقتصادية (بلد النفط الاول)،المسيحية والاشورية والطرق الصوفيةوالاديان الاخرى كالسريان والايزدية والصابئة في الجنوب.
استطاع الفيلم ان يقترب من طقوسهم ويحاور مشاعرهم وتلمس اصرارهم الى عدم مغادرة معتقداتهم.هذا هو العراق متنوع الاعراق والطوائف وهذا التنوع دلالة على عدم رفض الاخر بل القبول به والتعايش معه رغم قيام النظام السابق بمحاولات لتمزيق هذا التعاضد.الكل في عراق اليوم له حضوره ويحاول العيش والاعلان عن ذاته ضمن معادلة هذا الحضور إلاّ العراق كوطن فهو غائب باصرار الجميع والسؤال الان كيف نستعيد اونبني العراق،فاما ان يفكك واما بطولة تآخينا تُعلن عراقا جديدا،لذا نحتاج الى بطولة تجعل للعراق رئة يتنفس من خلالها العالم،تضامن من نوع آخر يتجاوز الطائفية والانانية.
هذا ما اراد الفيلم ايصاله عبر اللقطة الاخيرة (الحوار مع الراعي الكوردي) الذي ابى رغم كل المغريات ان يبيع غنمه،الراعي مرادف للارض،الارض هي الانتماء،ليس للصخر والجبل وانما الى وطن وشعب.انها لقطة ذكية وهنا يكمن بيت القصيد.فالراعي مسؤول عن قطيعه يريد الحفاظ عليه والذّود عنه ولهذا يرفض ان يبيعه.هذا ما يحتاجه العراقي راع((سياسيون لا يبيعون مواطنيهم)).
عرضت قناة العربية اغاني الغائبين على حلقتين وجرت مناقشة الفلم في 16-2-2006 وهنا اود تسجيل ملاحظاتي على طريقة العرض ثم الحوار.
اولا:اطّلعت بشكل شخصي على مراحل مونتاج الفيلم ولذا من باب المُطلع اسجل ان قناة العربية حذفت مراسيم الطقوس الشيعية ثم حذفت حوارا مع امام جامع في مدينة النجف واسمة احسان زاهد الذي قال في حواره لماذا يحي العراقيون مراسيم العزاء الحسينية وكم هي من الاهمية بمكان للشيعة.اذن قناة العربية بهذا الحذف لها اجندتها السياسية والطائفية وإلاّ لمذا هذا الحذف اصلا والكلام يجري يوميا عن حرية التعبير.
ثانيا:خلال النقاش الثقافي والاسئلة اعطت القناة انطباعا بان الفلم هو المسؤول عن خراب العراق في الوقت الحاضر.لقد جاء هذا الانطباع كنتيجة لعدم مهنية المحاورين لان الفلم تسجيلي يصوّر الحدث كما هو في الزمان والمكان وليس فلما روائيا يتدخل المخرج بصنع الفكرة والحدث ولكن هذا لا يمنع من ان المخرج في الفلم التسجيلي له اراؤه التي يطرحها في الفلم،لكن هناك فرقا شاسعا في طرح هذه الافكار وصناعةالحدث بين الفلم التسجيلي والروائي.
ثالثا:المحاورون في الفيلم ابتعدوا عن مناقشة الفيلم كصناعة وفن وكفيلم تسجيلي واكتفوا بالجانب السياسي وفرضوا السياسة على الفيلم،والفيلم غير معن بهذا،يسجل الحدث كما هو. صدمة الحوار جاءت من المخرج المسرحي الدكتور عوني كرومي حيث وبشكل ذكي جدا وبقصدية ومنذ اللحظة الاولى اراد ان يقتل اخلاص الفيلم للواقع العراقي، بقوله هذا الفيلم( استشراقي) ولم يوضح الجانب الاستشراقي للفلم.وبهذه الطريقة قضى على احساس المشاهد وتجريح افكاره،فربما للمشاهد افكار واراء اخرى،وبهذه العبارة ان الفلم استشراقي اعلن وصايته الغير امينة وبالتاكيد سلخ الصفة الوطنية والعراقية عن هذا الفلم،وللحقيقة ان الفلم وبكل مادته حاول التأكيد على هذين الجانبين (العراق والوطنية)،ولمعلومات السادة المشاهدين ان منطقة البتاويين كانت خالية تقريبا من العراقيين منذ عام 1990، وسكنها الاخوة العرب من السودانيين واقاموا مطاعمهم وفنادقهم وحتى صالونات حلاقة خاصة بهم.
كان من الانصاف من المخرج الدكتور عوني كرومي ان يتحدث عن الفلم كفن وصناعة لا ان يخوض باشياء جانبية لانه اقرب لهذه المهنة،لكنه وللاسف بدأ بافكار فرضها على المشاهد وكأنه سلطة ثقافية وليس كزميل مهنة، وهو الذي عاش زمنا في المانيا.وكان من المفترض ان يتعلم إنصاف تجربة الاخرين.و يصدمك المثقف حينما يشكل اساسا لثقافة بائدة وقمعية تنتمي للماضي وتفتقر الى عدالة السلوك،فالثقافة هي اولا نبل وعدالة وقول حقيقة حتى اذا لم تنسجم معك.قيلت آراء اخرى حول الفلم:ان تجفيف الاهوار ليس موجها لطائفة معينة،والحقيقة ان الواقع الجغرافي والسياسي كما قلنا سابقا واستذكرنا حركة الكفاح المسلّح عام1969 ومن بعدها وحركات المعارضة التي اتخذت من الاهوار مأوى ً لها.يؤكد ان هذا التجفيف موجها لطائفة اشتهرت بعصيانها لنظام الحكم، واثناء تنشيف الاهوار، كان صدام يقول ان سكان الاهوار جاءوا من الهند مع الجاموس وان الشيعي هناك يرسل زوجته للعمل ولا يحاسبها من اين تكسب النقود،وهنا يستحضرني رد المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم عن هذه المغالطات واعدم لهذا الموقف.
وقيل رأي عن الناصرية: ولماذا حصرها المخرج بالغناء فقط ونسى المحاور ان الناصرية هي اور السومرية وتبعد عن مركز المدينة(15 كيلومتر)وجاء في الفلم ان ابراهيم الخليل الاب الروحي للاديان ولد هناك،لكن الفلم يطرح الموضوع العراقي الحالي وكيف ان الغناء اصبح ممنوعا في الناصرية وهي (مدينة الغناء)بفعل النفوذ الايراني مما حدا بالمطرب المشهور حسين نعمة ان يكف عن الغناء تجنبا للقتل وتحوّل الى رسام واقام معرضا للوحاته.
الفلم رصد النفوذ الايراني في جنوب العراق وخاصة في مدينة البصرة،وهذايسجل له،حيث ان الفلم اغاض الجميع (شيعة،سنة،كورد،سياسيين).لذا ارتأى المخرج ان يحذف اسماءً كثيرة شاركت في الفلم.فاي مشقة واي قهر للجهد وللطموح كابده الفلم.اذن قناة العربية بهذه الطريقة فرضت وبشكل ربما مقصود تحريف لرسالة الفلم التي اثارت نفورها من قيام مخرج عراقي بجهد مضن ليصفع الظلام ويعرّي واقعا تخفّى خلف اقنعة وطوائف.وكما قال صديق عراقي شاهد الفلم وتحمس له وكيف لا تغتاض قناة العربية من هذا العرض، والفلم منحاز اصلا وبمصداقية الى العراق حين قال ان الاديان والتواشيح والحضارة جاءت كلها من العراق.
فما الذي بقى اذن لقناة العربية من مجد ... اذا كان كل شيء يمت بصلة للحضارة والتقدم كان قادما من العراق.اللافت للانتباه ان المناقشة جرت حوالي الساعة، ومع تحامل شديد على الفلم 0المحاورون امتلكوا عدالة التشويه واعتلال الافكار وناقشوا جهلهم في عالم السينما ومع ذلك لم تجر قناة العربية اتصالا ولو لمدة خمسة دقائق مع المخرج ليقول كلمته.
اعود الى فكرة الغياب مرة اخرى،كان المخرج ليث عبدالامير مغيّبا في فلمه وهو بحق -اي المخرج- كان اغنية الغائبين،لكنه وفي ظلام حوار قناة العربية ابتكر شمسه المصغّرة شمسا عراقية قادرة على اضاءة العراق كوطن وثقافة.
علي البزاز
19/2/2006
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات