يوم أن أراد (إدريس الأول) أن يعلن استقلال ليبيا، أختار إحدى شرفات قصر في بنغازي، ليخرج منه على شعبه، ملوحا بيده، بدا ذاهلا متأثرا، مما يجري معه وأمامه........ بعد 18 عام، كانت نفس المدينة، على موعد مع بيان آخر، إذ أستولى ضابط صغير الرتبة، على إذاعتها، وبث كلمات، بصوت لا يقل تأثرا وإن زاده الانفعال عن كلمة الأمير الكهل الذي صار ملكا، أزاحه ذلك الملازم عن عرشه.
هل كان ذلك صدفة، أن يكون بداية حكام ليبيا، حتى غراسياني الإيطالي، في مدينة سميت بـ ((رباية الذايح= المتجول على غير هدى)، لكن المفارقة أن حكام ليبيا ملكها وملازمها، أظهروا جفاء للمدينة التي أبانوا فيها بياناتهم الأولى، فقد انتظرت بنغازي حوالي 12 عاما بعد الاستقلال ليفتح شرطتها النار على طلابها في مظاهراتهم، (يناير 1964) ويسقط ثلاث طلاب، ظلت أسمائهم ملتصقة بالذاكرة كأول من يسقط في ليبيا من حكومة ليبيين، قبل ذلك كان الملك قد هجر المدينة وقاطعها ولم يعد ليقيم بها إلا لماما، لكنه حتى رحيله لم يشتبك معها لاحقا.
بعد ما يماثل نصف المدة التي انتظرتها بنغازي في العهد الملكي،أي بعد 6 سنوات فتح الأمن الليبي النار مجددا، في حرم جامعة بنغازي، في إشتباكات مع اليسار الطلابي، لتدشن المدينة قطعيتها مع نظام البلاد السياسي، ولتبدأ رحلتها المنهكة في المقاومة الخفية، ولتهمس خلف ظهر الحاكم بلا توقف، حتى ظهرت كتائب الإسلاميين، لتعود المدينة في بؤرة التوتر طيلة عشرية التسعينات.
وقبل أن تهدأ المدينة، صدمت بفقدها أثنين من أهم رموزها الثقافية والاجتماعية، ضريح شيخ الشهداء: عمر المختار، الذي أزيل ذات ليلة، لتصبح بنغازي بدون رفات شيخها المهيب، ودون أن تعلم السبب.
ثم هدم ناديها الأكثر شعبية ورمزية على الإطلاق، النادي الأهلي، وكانت نواته جمعية عمر المختار الأربعينية في القرن الماضي، والتي قامت من أجل استقلال البلاد ووحدة أقاليمها، وقيل يومها أن المعلم الثالث في المدينة سوقها القديم (الفندق والأقواس) قد نجا بأعجوبة من قرار صدر فعلا بهدمه.
لكن ذلك لم يفلح في تربية المربية، وعبر إشتباكات ومداورات ضد نجل الملازم السابق (لاعب كرة القدم)، دشنت قطيعة عميقة جدا، اتخذت طابعا شخصيا هذه المرة مع قيادة البلاد، وكان على الطرفين حفظ المطلوب جيدا.
فضيحة الإيدز ووباء الـ 426 طفلا، ناء به صدر المدينة الساحلية، وشرقت به عاصمة الشرق الليبي، وكانت سببا إضافيا للعداء مع النظام.
ذات يوم خرج الملازم (وقد صار عقيدا منذ أكثر من ثلاثين عاما)، ونصح أهالي بنغازي، بأن تتولى أمورهم امرأة، في مجتمع لم يفارق تقاليده الشعبية، عدت هذه إهانة، لكن تسجيل النقاط ظل ملتهبا بين النظام ومدينة البيانات الأولى التي عقدت عزمها على تربية الجميع.
في السنة 11 من القرن الماضي، جاءت أساطيل إيطاليا لتدك مواني بنغازي وشقيقاتها الأخرى، وفي يوم 17 فبراير، كان جسد (الأرناؤطي)، ذي الخمسة عشر عاما، يسقط بـ 11 رصاصة بالكمال في جسده، عندما حاول الاقتراب من سارية علم إيطاليا فوق قنصليتها وسط بنغازي، فماذا حدث ولماذا قنصلية إيطاليا بالذات؟؟.
هل كانت ثقافة سياسية من خطيب الجمعة في أحد جوامع بنغازي، التي صلى فيها الثوريون بالذات ذلك اليوم أن يحفظ أسم وزير الإصلاح اليميني في إيطاليا(كالديرولي)؟؟، وهل كانت سرعة استجابة من التلفزيون الليبي، الذي كان يبث حتى خطبة الجمعة متأخرة قليلا في مرات عديدة، تخوفا مما لا يرغب؟؟ وهل كان تحرك قوات أمنية تجاه بنغازي صبيحة الجمعة أمرا عاديا؟؟ وهل كان حجم الرصاص وطريقة قنص أفراد مدنيين يحملون بنادق خاصة، هل كان قنصهم للمدنيين حادثا فرديا؟؟
لنرجع فقط إلى من كان في إيطاليا قبل أيام، شيعة لبنان وبحثا عن أجندة موازية لقوى المستقبل أحيوا ملفا وجددوا نشاطه، هو ملف الإمام الصدر المختفي وتتهم به ليبيا، حكم براءة ليبيا، صدر من شهور، لكن الأحداث في لبنان استدعت توظيفا للملف، ضمن الأزمة الوزارية المحتدمة، فذهب نبيه بري لروما، لتعيد الأخيرة فتح القضية.
لنسأل قبل ذلك لماذا كانت ردة فعل ليبيا ضد الدانمرك هي الأعنف بغلق السفارة بدل استدعاء السفير أو المقاطعة التجارية فقط؟؟، هل كان لمشاكل نجل العقيد مع الدانمرك العام الماضي دورا في هذا أم أنها الصدفة فقط؟؟
لاصدفة هنا ولا هناك، ملف الصدر هو ملف مقلق لليبيا ونظامها، وهو سيكون بعد قرب تصفية قضية الإيدز، شوكة في خاصرة نظام كفر بماضيه حتى الفناء في حب شيطان الأمس نفسه، ولابد من ثني إيطاليا، وهي تتجهز لإنتخابتها، وكل بدائلها حلوة، فبرودي هو الصديق الأقرب من بيرلسكوني نفسه، ولذلك هل كانت أحداث جمعة بنغازي رسالة لروما، قبل التورط والتمادي في التساهل مع الشيعة في لبنان.
لو صح ذلك، فقد حرضت زيارة نبيه بري، بوليس بنغازي أو من أرسلهم، على رمي الأرناؤطي، ليختم سنيه الخمسة عشر، التي عاشها في أزقة مدينة منهكة، واستخدمت هذه المرة، في تصفية حسابات خارجية، ولتكن كما يقول الليبيون منها عيد ومنها قديد!!!
بنغازي وحكامها، بدأوا اللعبة من جديد، لكنها زادت هذه المرة، فليس الطرف البنغازي، فئة بعينها، ولاتوجه بعينه، إنها بنغازي بجملتها، يقال أن من حفر لحفرة لأخيه وقع فيه، لكن من حفر حفرة لنفسه، فلن يستمتع بها دائما، خاصة إن كانت حفرته في بنغازي، التي يقال أن اسمها يبدأ بحرف الباء ربما لأنها لا تحب البدايات التقليدية، ولكن إسمها ينتهي بأخر حروف الأبجدية، في لغة يمكنك أن تصنع منها مليارات الكلمات، وإن بدا بعضها لا معنى له.
طارق القزيري
كاتب ليبي
[email protected]
التعليقات