(1-4)
في معاجم السوسيولوجيا (علم الاجتماع)() تعد الطائفة جماعة دينية طوعية تطلب التزاماً كاملاً من أتباعها. وتتميز الطائفة عادةً بإدعاءها صفة الأفضلية، فغالباً ما يدعي أفرادها بأنهم يتمتعون بالصفات العلمية والأخلاقية العالية، وبنفس الوقت يطمحون للوصول إلى الكمال الذاتي. وغالباً ما تكون الطائفة وفقاً لهذه الصفات معادية للمجتمع ورافضةً له، وإذا لم تكن معادية له فإنها لا تربطها به أية روابط اجتماعية متماسكة().
وكما هو واضح فإن الولاء للطائفة يصادر الولاء للوطن. فالطائفية تبدو أضيق كثيراً من مفهوم الوطن والمواطنة. إذ إن المواطنة، تختلف عن الأخـوة الدينية. فالمسلم أخ المسلم ويرتبـط معه بروابـط معنوية فوق الزمان والمكان، أما المواطنة فهي رابطة التعايش السلمي بين أفراد يعيشون في زمان معين ومكان معين (أي جغرافية محددة). والمواطنة لا تتناقض مع المبدأ الإسلامي لأن العلاقة الدينية تعـزز الروابط الزمنية أيضاً، ولا خلاف في ارتباط الإنسان المسلم مع غير المسلم ضمن إطار اجتماعي يتم الاتفاق عليه تحت عنوان المواطنة().
والمجتمع في العراق متنوّع طائفيـاً في تعدده الديني، فالجماعة الإسـلاميـة تضم أغلبية شـيعية عربية مقابل عدد لا يسـتهان بـه من السُـنّة العرب والأكراد والتركمان. مثلما نجد أن الطوائف المسـيحية عديـدة هي الأخرى. واللافت للنظر في هذه القضية أن التفرع الطائفي، مثلما هو التعدد الإثني، يأخذ بعداً جغرافياً، كما سبقت الإشارة. فالإسلام في العراق كان قوة فصل أكثر منه قوة دمج، إذ أن السكان المسلمون في العراق ينقسمون إلى طائفتين متمايزتين، فهناك انشقاق حاد بين الشيعة والسنة. ونادراً ما اختلط هؤلاء وأولئك اجتماعياً، على الأقل في بدايات القرن السابق وقبيل تأسيس الدولة الحديثة وما بعدها. لكن متغيراً آخر سيجعلهم يسكنون ثلاث مناطق متمايزة (طائفياً/إثنياً). ولتفصيل أكثر نشير إلى أن الطوائف في العراق هي:
آ ) الشيعة: وهؤلاء يكونون أغلبية تشكل ما نسبته (54.1 %) من سكان العراق، وذلك وفقاً لإحصاء عام 1947. وهم يسكنون أحد أكثر المناطق ازدحاماً بالسكان، إذ تغطي هذه المنطقة بالامتداد أجزاء واسعة من مدينة بغداد، وجميع ألوية جنوب بغداد (أي المحافظات التسع التالية: الكوت والحلة وكربلاء ونجف والديوانية والناصرية والسماوة والعمارة والبصرة)، وهي في تكوينها الإثني (العرقي) عربية، إذ يشكل الشيعة العرب ما نسبته (51.4 %) من مجموع سكان العراق، بحسب إحصاء عام 1947. وكما هو واضح في الجدول رقم (1).
ولكن هناك تمركزات للشيعة الإيرانيين في البصرة ومدينتي نجف وكربلاء المقدستين. إذ يشكل الشيعة الفرس ما نسبته (1.2 %) من مجموع سكان العراق، بحسب إحصاء عام 1947. وكما هو واضح في الجدول رقم (1).
غير أن شيعية هذه المنطقة ليست صافية تماماً، إذ تتناثر هنا وهناك فيها بعض المناطق السنية، وإن كانت صغيرة في حجمها، باستثناء تلك الموجودة في البصرة والناصرية، حيث توجد أقليات سنية قوية، وفي بلدة الزبير إلى الجنوب الغربي من البصرة، وهي بلدة سُنيّة بكاملها. وكما هو واضح في الجدول رقم (1).
ب) السنة: ويشكل هؤلاء ما نسبته (39.2 %) من سكان العراق، وذلك وفقاً لإحصاء عام 1947. ولكن انقساماً حاداً تم بين المسلمين السُنّة، وذلك وفقاً لمرجعية أخرى هي الإثنية (القومية)، فهم إما سنةً عرب، أو سنةً أكراد. وتبعاً لذلك فقد انقسمت المنطقة التي يسكنون فيها إلى:
1) منطقة السنة العرب: وتشمل أجزاء مهمة من مدينة بغداد، ووديان الفرات شمال بغداد، ووديان دجلة بين بغداد والموصل، والمنطقتين الأخيرتين كلها سُنيّة، على الرغم من وجود أقليات شيعية صغيرة فيها تخرق الاستمرارية السُنيّة، كما هو الحال في الدجيل وبلد وسامراء. ويشكل السنة العرب ما نسبته (19.7 %) من مجموع سكان العراق، بحسب إحصاء عام 1947. وكما هو واضح في الجدول رقم (1).
وعلى أطراف هذه المنطقة أو ليس ببعيد عنها، أو فيما بينها وبين المنطقة الثالثة، التي سنحددها فيما بعد، هنالك على امتداد طريق البريد القديمة بين بغداد ـ الموصل ـ استانبول يوجد شريط من المستوطنات التركمانية، منها: تلعفر وداقوق وطوزخورماتو وقره تبه، وهي شيعية، وألتون كوبري وكركوك وكفري، وهي سُنيّة().
2) منطقة السنة الكرد (الأكراد): وهي تتطابق مع الهلال الجبلي الكردي الذي تغذيه الأمطار في شمال وشمال شرق العراق. وهذه المنطقة سُنيّة أيضاً، ولكن لابد من التفريق بينها وبين المنطقة السُنيّة العربية، لأنها ـ خلافاً لهذه الأخيرة ـ كانت مخترقة بقوة بالمذاهب الباطنية وممارسيها الصوفيون. ويشكل السنة العرب ما نسبته (18.4 %) من مجموع سكان العراق، بحسب إحصاء عام 1947، وكما هو واضح في الجدول رقم (1).
وتلتقي هذه المناطق الدينية الثلاث وتتداخل في بغداد الكبرى ومحافظة ديالى. وهنا ينتمي بعض الأكراد، وخصوصاً في منطقة خانقين وفي حي عقد الأكراد في بغداد، إلى الطائفة الشيعية، ويعرف هؤلاء محلياً باسم الأكراد الفَيليـّة. ولكن حتى في المدن التي يتداخل فيها المذهبان، فإن أفراد الطائفتين كانوا يعيشون في أحياء منفصلة، حيث لكل منهم حياته. بل إن هذه الأحياء تبتعد عن بعضها البعض بما يشبه الموانع الطبيعية. فالكاظمية، على سبيل المثال، وهي مدينة تكاد تكون مغلقة على العراقيين من الطائفة الشيعية كان يفصلها نهر دجلة عن الأعظمية مقر الإمام أبي حنيفة النعمان ذات الغالبية السنية، ويربط بينهما (جسر الأئمة)، وهذا الجسر لم يكن يوماً مجرد جسر عبور، بل كان دوماً رمزاً للوحدة والانفصال، بين أفراد المجتمع في العراق.
إن ما قدمنا له آنفاً من تفصيل يشير إلى الوجود الاجتماعي للظاهرة الطائفية في العراق الذي أنجز البريطانيون في عشرينات القرن الماضي إنشاء دولته.
لقد استمرت الإشارة طويلاً للأفراد على أنهم أما رعايا عثمانيون أو أفراد من الطائفة الشيعية، أو من أبناء العشائر، أو حتى شيعي حضري، أو عشائري شيعي، كل ذلك، كما يبدو، لأن الدين لم يكن كافياً لتوحيدهم().
وبحسب تساؤل بطاطو فما هو التفسير الذي يمكن إعطاؤه للتوزيع الجغرافي للتكوين الديموغرافي الطائفي للعراق، أي وجود الشيعة في الوسط والجنوب، والسُنَّة في الشمال والشمال الغربي؟
- ربما كان التفسير الأكثر دقة لهذا يكمن في حقيقة إن أحد العوامل الواضحة التي ضمنت ديمومة النفوذ الشيعي كان وجود المقامات الشيعية في النجف وكربلاء، والمدارس الشيعية (الحوزات) في النجف والحلة. وكان العامل الآخر هو العلاقات التجارية والدينية المتبادلة التي حافظ عليها شيعة العراق، وإن بشكل متقطع، مع شيعة بلاد فارس.
كما أن أقاليم الموصل والفرات الأعلى كانت تتجه في علاقتها الاقتصادية باتجاه سورية السنية، والى حد أقل باتجاه تركيا السنية. وفي الواقع فإن المرء لا يبالغ في الذهاب بعيدا بالقول أن سكان الموصل كانوا في أيام العهد الملكي اقرب، في تطلعاتهم وأمزجتهم، إلى عرب سورية وخصوصا إلى حلب، منهم إلى عرب وسط العراق وجنوبه(). فالموصل تتطلع نحو تركيا، مثلما أن البصرة تتطلع جنوباً نحو الخليج.
د. علي وتوت
باحث في سوسيولوجيا السياسة
[email protected]
التعليقات