في العام 1970، يوم لم أكن قد اجتزت الخامسة عشرة من العمر بعد، لفتت نظري ظاهرة غريبة. كان المرجع الديني السيد محسن الحكيم قد توفي للتو، وكانت الحشود العشائرية تتقاطر على مدينة الشطرة التي أقطن، للانطلاق منها إلى مدينة النجف الأشرف، حيث من المقرر أن يشيع الراحل ويدفن. غرابة الظاهرة ليست في الحشود في حد ذاتها. فالسيد ليس شخصية عادية، والعشائر لا عمل لها عادة، بعد أن دمرت الإصلاحات الزراعية الشكلية، بهوياتها الآيديولوجية المختلفة، المتأرجحة بين أقصى اليسار و أقصى اليمين، الأرض ومن وما عليها. في أعلام الحشود وراياتها، كانت تختبىء الغرابة والفرادة.
عشرات الأعلام والرايات، والفرق بين الأولى والثانية، كما يقول أساطين اللغة، أن الأولى صغيرة وتنصب على الرماح، أما الثانية فكبيرة وتثبت في مكان يراه الناس جميعا وتدعى quot; أم الحرب quot;. نحن إلى حرب إذن، لكن بالضد ممن ؟ عشرات الأعلام والرايات بأشكال وتصاميم مختلفة، بعضها طريف وبعضها مخيف. بعضها مخطط وبعضها مبقع. بعضها مـُقـَلـَّم وبعضها quot; سادة quot; أي خال ٍ من أية رسوم. بعضها أسود وبعضها أحمر وبعضها أخضر وبعضها أسود. بعضها تنطبق عليه أبيات صفي الدين الحلي quot; بيض ٌ صنائعنا، سود ٌ وقائعنا، خضر ٌ مرابعنا، حمر ٌ مواضينا quot; ( وهو بالمناسبة : شاعر عراقي شيعي وليس أندلسيا ً كما يدعي موقع سلفي ! ) وبعضها ينطبق عليه quot; نشيد quot; المرحوم سعدي الحلي وهو يتشبـّب بغلام quot; جوزي قميصه وبيه مطـَرَّز وردة quot; !
حشد هائل من الأعلام المتباينة حد َّ التبعثر والتشظي، إزاء أمر واحد ووحيد وموحد، هو الموت !
في يوم العراق، الراهن، تتعدد الأعلام وتختلف وتتحشد وتتقاتل، ويظل الموت، الموحَّد الأوحد في حياة العراقيين.
لا يختلف اثنان أو ثلاثة أو حتى أربعة، حول حق الكردستانيين العراقيين في اختيار أو رفض أي عـَلـَم، بل وحول حقهم في تقرير المصير كسائر عباد الله. هي أريتريا أحسن منهم مثلا، والا تيمور الشرقية ؟ لكن المعارك السياسية لا تدار بالطريقة العشائرية!


فالوقت العراقي المعاصر ليس وقت أعلام ورايات وصور، وليس وقت تحد ٍّ وتحد ٍّ مضاد، وليس وقت لعبة كسر عظم بين quot; الرئيس quot; مسعود البارزاني وبين quot; النائب quot; صالح المطلق. بل وقت التفات حقيقي إلى مصيبة العراقيين الحقيقية في كل بقعة من بلادهم. مصيبة الموت المجاني الزؤام، والتردي المعيشي الشامل. والأمان المفقود في مكان، والهش في آخر.


بماذا ينفع الكردستانيين علمهم المحترم عندي بالطبع، إذا كان أحد في هذا العالم المترامي لا يعترف به. وبماذا ينفع العراقيين علم 1963 أو حتى 1958، إذا كان العراق دولة موحدة وذات سيادة على الورق فقط. وبماذا تنفع الجميع كل التصاميم، إذا كانوا يفتقرون إلى التصميم على مواجهة واقعهم المرير بدلا من الهروب إلى الشكليات والمفرقعات الإعلامية والدعائية.


لم يمنع الاحترام المفترض للعلم الكردستاني مواطنيه بالأمس، من تحطيم تراث شهداء حلبجة تحت الأقدام، بعد أن أجنـّهم الفقر وطحنتهم الفاقة فيما quot; الرؤساء quot; في روضة يحبرون. ولم تمنع وحدة العلم quot; العراقي quot; مواطنيه من التبعثر و quot; التطشـُّر quot; في جهات الدنيا الأربع، والخمس، والست، بحثا عن كرامة مضيعة وحقوق منتهكة بأيدي الإخوة، مطلقين ونسبيين، فإلى أين نمضي، بحق السماء؟


عيون الكلام : جورج برنارد شو : الحرية تعني المسؤولية، ولهذا يفزع منها أغلب الرجال. (Maxims for Revolutionists )
مبادىء للثوار

علاء الزيدي
[email protected]