محاولة القيام بإعادة اللغة اللاتينية إلى الحياة هي مسألة في غاية الصعوبة قبل مائة وخمسين عاما في الأقل. لكنها اليوم وبعد مرور حقب مهمة من الزمن بات من الممكن الحديث عن إمكانية العودة إلى وحدة العالم الاوربي من جديد. العالم الذي حلم بوحدته فلاسفة القرن الثامن عشر الأوربيين وعلى رأسهم الروائي الفرنسي الشهير فكتور هوغو.
ومنذ أن فشل الاوربيون بوضع لغة (السبرانو) كلغة كونية مفترضة وهم مازالوا يحلمون بسيادة العالم من جديد ولو عن طريق (اللغة)هذه المرة. وهاهي محاولاتهم لا تكل ولا تمل. صحيح ان اوربا عجوزا وربما اصبحت عجوزا شمطاء في بداية القرن الحادي والعشرين إلا انها ما تزال تحمل في جعبتها الكثير مما تفاجيء العالم به.
ربما سوف يتحقق الحلم عن طريق إنشاء الإتحاد الاوربي وصدور (اليورو) كعملة موحدة، بعد ان اصبح الأتحاد الأوربي قوة إقتصادية كبرى. وبات المحللون السياسيون المستقبليون ينظرون إليه على أنه القوة التي يمكن أن تتوازى من جديد مع الولايات المتحدة التي استأثرت بالعالم كقطب واحد. لكن الأيام لم تثبت حتى هذه الساعة جدارة الاوربيين بالأضطلاع بهذه المهمة. فأوربا ما تزال عجوزا، ولا تستطيع الحراك نحو عالم متغير بدرجة يجعل منها قطبا ثانيا في عالم متحول. كما أنها كانت في الجولة الاخيرة اعجز عن إصدار دستور موحد لها. لكنها تحاول وتحاول إستعادة مجد غابر.
ومن اجل التعويض عن سلسلة الفشل في إحتلال موقع عالمي مميز بدأت العمل على إثارة افكار(ما) قديمة. لذلك هي تتصدر- هذه الأيام - فكرة إيجاد لغة موحدة للأوربيين، وربما للاميركيين من بعدهم أيضا، تكون عماد (التفاهم) بينهم منذ ان نزعوا عنهم اللغة اللاتينية القديمة الكنسية المتحجرة إبان عصر النهضة.
كانت اللغة اللاتينية هي لغة الديانة المسيحية منذ عصر قسطنطين. ولم تحظ بغير الثناء الكنسي والتعلم الكنسي الذي درّس علم اللاهوت المسيحي قرونا. وهي لغة (الكثلكة) خاصة، ومن هنا فقد كانت لغة الأرستقراطية الدينية خاصة وليست لغة الشعوب الاوربية.
لكن بعض الجهات في اوربا ومن اجل أستمرارية ما يعرف بصراع الحضارات تعمل على جعلها لغة الشعوب الاوربية القادمة جميعا. فهل ينجح الحلم؟
منذ ان بدأت المطابع الألمانية بطبع الانجيل بلغتهم، لأول مرة، في التاريخ الأوربي حتى شملت العدوى - بعد حين - جميع اللغات المحلية في أوربا والتي أصبحت بعد ذلك اللغات القومية المتداولة إلى يومنا هذا. ومن ثمّ الكتابة باللغات المحلية الاوربية كالإنكليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية.. لتصبح اللغة اللاتينية الدينية ضيقة التداول وصعبة التراكيب وغريبة القواعد في خبر كان.
فلم الأصرار الاوربي هذه الأيام على إحيائها وكانها الحل اىلقادم لأمة اوربية قادمة وكأنها لغة جديدة لعالم من الاتصلات الحديثة؟
لاشكّ بأن وراء الاكمة ما ورائها..
فهل تستطيع هذه اللغة الميتة ان تحيا من جديد؟
ولم لا فقد احيا اليهود (اليديشية) وهي لهجة حارات في بولندا لتكون لغتهم الآن؟!!
هاهم يحيون الميتة من ثقافاتهم في حين يعمد بعض المسلمين على محاولة إماتة الحي من مواريثهم بهذه الطريقة اوتلك. فمن المفارقات الغريبة حقا: ان العالم الإسلامي يحاول الفكاك عن اللغة العربية لغة الدين والثقافة الإسلامية بهذا الشكل او ذاك، وحتى من حيث شكل الحروف بعد ان استعاضت تركيا الأتاتوركية في بدايات القرن الماضي بالحروف اللاتينية بدلا عن العربية، فتجشمت بذلك عناء مسح ذاكرة اجيال كاملة من الترك الذين أرتبطوا روحيا بالثقافة العثمانية. فكانت تلك الرزية واحدة من النوازل التي حلت بالعالم الإسلامي قبل ان تحل بتركيا الأتاتوركية.
وبرغم ثورة الترك التي تزعمتها (حركة الدراويش) ضدّ تلك التوجهات الغريبة و المشوهة لوجه تركيا الإسلامي الحقيقي، إلا ان مصطفى كمال اتاتورك قد قام بقمعها بقوة وعنف شديدين قلما عرف له العالم الإسلامي مثيلا، ودون ان توجه أصابع البحث- حتى هذه الساعة؟- إلى تلك المرحلة الشائكة من تاريخ تركيا الحديثة، وتحت طائلة من ذرائع التحديث والتغرب تارة واللحاق بركب التقدم الأوربي اخرى.
وبعد ان كيلت جميع التهم التي اودت بالدولة العثمانية إلى الثقافة الإسلامية وحروف اللغة العربية بالذات تناسى أولئك المتغربون الترك آنذاك ان حروف اللغة العربية. في وقت يعرف القاصي والداني ان اللغة العربية بقضها وقضيضها هي ليست لغة قومية تخصّ العرب وحدهم، بل هي لغة الثقافة الإسلامية العالمية على مدى ازيد من أربعة عشر قرنا، فاسهم فيها مختلف المسلمين من مختلف شعوب وامم العالم الإسلامي القديم.
وإذا كان ثمة تفسير لتلك الظاهرة بعيدا عن (التخرصات) التي أعتمدتها جماعات التبشيرالثقافية ومن تبعهم من دعاة التغرب من المسلمين فإن روح الإسلام المتمثلة بالتسامح القومي والمذهبي والمساواة بين المسلمين بغض النظر بين قومياتهم وأعراقهم وأنسابهم هي الحالة الدافعة الكبرى لتلك الظاهرة الإنسانية الفريدة.
بل تكاد أن تكون مساهمة المسلمين من غير العرب أوسع واعظم وأعمق في مختلف مجالات العلم آنذاك، بما في ذلك الكتابة في التاريخ العربي الإسلامي أيضا؛ ناهيك عن الروح المبدعة التي مثلها هؤلاء المسلمين في تقعيد قواعد اللغة العربية نفسها كسيبويه وأبن خالويه وجمهرة كبرى من علماء المسلمين الأجلاء في تلك العصور.
وما تزال الدعوات تترى بين حين وآخر ضدّ اللغة العربية كدعوات بعض المسيحيين اللبنانيين إلى استخدام الحروف الفينيقية بدلا عن العربية، وكذلك تلك الدعوات الفرانكوفونية في المغرب العربي لتفكيك قواعد اللغة العربية نفسها! ومن يدري ربما يخرج علينا غدا نفر من العراقيين يدعون إلى أستخدام الحروف السومرية بدلا عن الحروف العربية في القرآن الكريمأ فإن (الهجوم الثقافي) على الامة لما يتكامل بعد، وثمة صفحات كثيرة اكبر وأدهى من الصفحة الامازيغية في الجزائر، او القبطية في مصر، او الفينيقية في لبنان، او الكردية في العراق، او الامهرية في اليمن وعمان.. وهلم وجرا.
لقد نجحت الحملة في تركيا لكنها فشلت في اماكن اخرى من العالم الإسلامي: وكان هدفها الفصل دائما بين الثقافة العربية والإسلام. ووضع أسافين بينهما وصولا إلى تحقيق الهدف الاكبر من وراء ذلك الا وهو إضعاف الروح الإسلامية بين المسلمين والعرب على حدّ سواء. وهو لعمري هدف جميع الحملات الصليبية قديمها وحديثها.

د. رياض الأسدي