أقرأ دائماً بإعجاب كتابات الشاعر باسم النبريص، يستوقفني فيها حسه الإنساني وآراؤه الحضارية.

إنه وقوع في الفخّ الذي ينصبه لنا الطائفيون الشيعة والسنة.. أن نفسر كوارث الحاضر بأحداث الماضي. أن نطلق على بعضنا اسماء لسلالات منقرضة ونثأر منها: روافض ونواصب.. أمويون وصفويون.. من يعتذر لمن؟

أعرف كم هو صعب أن تمسك بجمرة الإنسانية والتحضر في بيئة متأزمة تهيمن عليها ما أسماها أسلافنا quot;النفس الغضبيةquot;، وأقصد البئية العربية عموماً وبيئة quot;غزةquot; الفلسطينية خصوصاً حيث يعيش الشاعر النبريص بين نيران عدوة وصديقة.

مقاله الأخير في quot;إيلافquot; المعنون quot;نعم.. لا بدّ من اعتذار تاريخي للشيعةquot; حيرني قليلاً.. إنه مقال شجاع وجديد على العقلية العربية السعيدة بذاتها المنتفخة، التي لا تعرف شيئاً اسمه الاعتذار، ناهيك عن الاعتذار التاريخي، لكن المقال في الوقت نفسه يذهب في الاتجاه الخاطئ فتصبح شجاعته بلا هدف.

كان المقال تكملة لمقال سابق اعتذر فيه الكاتب من الشيعة بسبب حماقات الصبية الفتحاويين الذين يشتمون خصومهم الحماسيين واصفين إياهم بالشيعة. إنها واحدة من تجليات الخرف العربي الراهن. فبعد هزائم العرب النكراء أمام أعدائهم الخارجيين (وهم العالم بأجمعه المتآمر ضدهم، والخائف من صعودهم الحضاري القادم كما يظنون) وجدوا عدواً داخلياً يتشاتمون به. فتحيـّون يشتمون حماسيين بالتشيع، وحماسيون ينصبون مآتم لقتلة الشيعة.

أعاد لي المقال الأول شيئاً من الأمل المفقود بالإنسان العربي. لكن المقال الثاني حيرني بالفعل، وهو يشتطّ بعيداً ويطالب باعتذار سني للشيعة عن قتل الحسين!

إنه وقوع في الفخّ الذي ينصبه لنا الطائفيون الشيعة والسنة.. أن نفسر كوارث الحاضر بأحداث الماضي. أن نطلق على بعضنا اسماء لسلالات منقرضة ونثأر منها: روافض ونواصب.. أمويون وصفويون.. من يعتذر لمن؟

الاعتراف بالآخر يسبق الاعتذار.. الاعتراف بألم الآخر، بدمه، بجراحه. لا يريد الشيعة اعتذاراً من السنة عن قتل الحسين، فهو لم يقتله السنة الذين لم يكن لهم وجود كطائفة إلا بعد مقتله بأكثر من قرنين، بل جيش الاستبداد الأموي، الذي قتل مصعب وعبد الله ابني الزبير ايضاً ورمى الكعبة بالمنجنيق، وقتل مئات المعارضين غير الشيعة. ما يريده الشيعة أبسط من هذا بكثير: ان يعترف الآخرون بأنّ صدّام حسين قتل زعماءهم وبسطاءهم وهدم مدنهم وأفقرهم وشردهم في بقاع الأرض ودفن قتلاهم بالآلاف في مقابر جماعية. هذا تاريخ لم ينته بعد، شهوده أحياء ومعظم مجرميه طلقاء، ومن نال جزاءه منهم صار شهيداً لدى العرب السنة. أعتراف فقط، لا اعتذار، تبرؤ من المجرمين وإقرار بآلام الضحايا.

الماضي أعقد من أن نبسطه بصراع الشيعة والسنة. وهما مصطلحان لا تعريف ثابتاً لهما. كانت طبقة القراء وأهل الحديث من أشدّ الناس عداوة للتسلط الأموي وبعده العباسي. ولم يكونوا هؤلاء شيعة بالمعنى الذي يريده شيعة اليوم. كان quot;سفيان الثوريّquot; يطفئ شمعة داره حين يمر جند الخليفة في الشارع لئلا يأثم بإعانة السلطان بإضاءة الطريق لجنده. وكان إمام العراقيين quot;أبو حنيفةquot; أكثر تحمساً من الشيعة أنفسهم لنصرة الثائر quot;زيد بن عليquot;. لا وجود في ذلك العصر لثنائية الشيعة والسنة كما هي اليوم. يـُُرجع الباحث الراحل quot;هادي العلويquot; تاريخ نشوء السنة كطائفة إلى عهد الخليفة المتوكل، وتاريخ نشوء الشيعة كطائفة إلى فترة أقدم نسبياً وإن لم تكن بالقدم الذي يدّعيه شيعة اليوم.
دعنا من الماضي الذي لن نتمكن من قراءته جيداً إلا حين نخرج من مآزق الحاضر.

لنقرأ الحاضر إذن. الشيعة إثتية مضطهدة في بحر الإثنية السنية. إنهما إثنيتان ولم يعودا مذهبين دينيين. دعك من التلاسن المذهبي التي تعجّ به شبكة الإنترنت بنسختها العربية، والنقاش quot;الهادئquot; حول آل البيت أو صحابة الرسول. ليس هذا التلاسن ولا هذا النقاش سوى غطاء ديني لصراع إثني سياسي. لا يقتصر هذا الأمر على العرب أو المسلمين. الكاثوليك والبروتسانت في إيرلندا هما إثنيتان وليستا طائفتين دينيتين، لا علاقة للحرب بينهما بالموقف من السيدة مريم العذراء، ولا بدور القديسين في الشفاعة. وقل الكلام نفسه عن الصرب الأرثذوكس ومجازرهم ضد الكروات الكاثوليك والبوسنيين المسلمين.

الشيعة العراقيون هم عرب في غالبيتهم، لكنهم الآن لم يعودوا كذلك في نظر العرب الآخرين. إنهم قوم مختلفون quot;إثنياًquot;. زعماء الإثنية السنية في العراق يسمون الشيعة فرساً (وهي شتيمة بالعرف العربي !) أو صفويين نسبة إلى سلالة تركمانية حكمت إيران ونشرت فيها التشيع بحدّ السيف وحاربت الأتراك العثمانيين ولم يكن لها خلاف مع العرب وانقرضت قبل قرنين، أو شعوبيين نسبة إلى حركة اجتماعية اختفت عن الوجود قبل أكثر من عشرة قرون كانت تناهض تحويل الإسلام إلى أداة لاستغلال الشعوب غير العربية.
زعماء الإثنية الشيعية انجروا للغة نفسها وراحوا يحيون مصطلحات بائدة ليطلقوها على السنة، مثل النواصب، وهم الذين يناصبون العداء لأهل البيت الذين quot;غابquot; آخرهم عن الوجود قبل أحد عشر قرناً ولم يعد هناك معنى لمعاداتهم. أو يسمونهم الأمويين الذين انقرضوا في المشرق منذ عام 132 للهجرة، ولم يبق منهم في الأندلس إلا مبانٍ أثرية في البلاد التي صار اسمها اسبانيا.

من هنا حيرتي أمام مقال الزميل باسم النبريص، فالاعتذار عن قتل الحسين يعني إقراراً بأنّ السنة الحاليين هم امتداد ليزيد بن معاوية وجيشه، وهو ما يرفضه السنة، أو معظمهم على الاقلّ. إنه تبنٍ لمنطق الطائفيين الشيعة والسنة بإسقاط صراعات الماضي على الحاضر.
فلنعتذر عن حاضرنا المزري أولاً ! ولنبحث عن وسائل واقعية للتعايش بين الإثنيات المتصارعة هنا والآن.

شعلان شريف