(لوردز (أو( لورد(هى مدينة صغيرة تقع جنوب غرب فرنسا، يسكنها ما لايزيد عن 17 ألف نسمة ولكنها تستقبل أكثر من 5 ملايين زائر كل عام، وتعد من أهم المزارات الكاثوليكية المقدسة على مستوى العالم. وكل هذا كان نتيجة ظهور السيدة العذراء مريم لفتاة فقيرة جاهلة معتلة الصحة.
ولدت برناديت عام 1844، وعانت أسرتها من تردى مستواها الاقتصادى )بتأثير عوامل متعددة من ضمنها الثورة الصناعية التى أطاحت بالمطاحن اليدوية التى كان رب الأسرة يملك إحداها( حتى أصبحت فى عداد الفقراء.
ذهبت، إبنة الرابعة عشرة، يوماً لجمع الحطب، وإذا بطيف العذراء يظهر لها خلال تجويف فى قلب الصخر، ويخاطبها ويحملها رسائل مقدسة. وتكرر المشهد الإعجازى ثمانى عشرة مرة، واستتبع ذلك أن انخرطت برناديت فى سلك الرهبنة وخدمة الفقراء والمحتاجين، ثم انتهت حياتها القصيرة على الأرض فى سن الخامسة والثلاثين بتأثيرمجموعة من الأمراض من ضمنها الدرن.وفى عام 1933 رفعت إلى مرتبة القديسين، فصارت القديسة برناديت وأصبحت بلدة لوردز الصغيرة قبلة الحجاج من جميع أنحاء العالم.
لو زرت هذا المكان سترى أروع مثال لما يمكن أن تقدمه السياحة الدينية.نموذج تحقق فيه التوازن البالغ الصعوبة بين الروحانية وrdquo;البيزينيسquot;. الروحانية هى الغالبة؛ فهى تلون المشهد العام، بينما يتوارى raquo;البيزينيسlaquo; بذكاء، بحيث لا يظهر بصورة فجة، وإن كان يحقق نجاحات ساحقة.
محلات كثيرة متجاورة تبيع التذكارات والهدايا. ورغم المنافسة الشديدة، لاتجد من يجذبك من ملابسك لتدخل، أو يلح عليك بسماجة لتشترى رغماً عنك. البضائع جيدة الصنع ومعروضة بطريقة جذابة وبأسعار معقولة. المطاعم والكافيتريات واللوكاندات لا تستغل ولا تستغفل السواح.
رحلة الحج للوردز ليس لها مثيل فى أى مكان آخر بفضل عوامل النظام والنظافة والالتزام والصيانة التى تتحكم فى كل صغيرة وكبيرة فى المزارات.
أجواء روحية توفرها قداسات تقام يومياً بكل اللغات وفى كافة الأوقات. الصلوات تتردد فى كنائس مختلفة،منها ما يتربع على قمم الجبال، ومنها ما يختفى فى أنفاق تحت الأرض. بعضها صغير يشعر فيها المصلون أنهم أفراد أسرة واحدة، والآخر كاتدرائيات ضخمة تتسع للألوف، ويتابع فيها الحاضرون ما يجرى من خلال شاشات تليفزيونية ومكبرات صوت عالية التقنية.
الطوابير اللانهائية لا تنقطع ليلاً نهاراً للتبرك بالمغارة التى ظهرت فيها العذراء، ولملء الزجاجات من ماء الينبوع الذى تفجر أثناء إحدى الظهورات.
مجموعات تتلوها مجموعات من المتعبدين، يتتبعون بخطواتهم درب الصليب أو يؤدون صلوات التسبحة المريمية،وينشدون الترانيم بمختلف اللغات.
وتبلغ الاحتفالية أوجها فى الساعة التاسعة من مساء كل يوم. فحينما يحل الظلام يجتمع ألوف البشر من مختلف الأجناس والطوائف المسيحية فى الساحة المكشوفة المترامية الأطراف. تجد الأسود إلى جانب الأشقر،لابسة السارى بجوار لابسة الجينز،رجال ونساء، شيوخ وأطفال، كل يحمل شمعة مشتعلةتتوهج فى الظلام، والجميع يسير بنظام بديع وفى خطوط مرسومة. الكل يردد الصلوات والتسابيح، تقودهم أصوات ملائكية تنبعث من المنصة الرئيسية، وتتردد فى أرجاء المكان موسيقى سماوية، وتنتشر فى الأجواء رائحة البخور الزكية.ورغم الألوف المؤلفة لا تسمع صوتاً ناشزاً ولاترى حركة مستهجنة، فالكل يسير فى خشوع وانضباط، ليس هناك تزاحم بالمناكب أو تسابق على الوصول.
أما أهم فئة تفتح لها مدينة لوردز أذرعتها مرحبة، فهى المرضى والمقعدين.كل شبر فيها معد لاستقبالهم بدفء ومحبة.فى كل المسيرات والقداسات لهم أولوية المكان والزمان. جيش من المتطوعين مكرس لرعايتهم وتوصيلهم من مكان لآخر بأكثر الوسائل راحة واحتراماً لآدميتهم.هناك مالايقل عن ثلاث مستشفيات مجهزة لإقامة من يحتاج لرعاية طبية خلال فترة الحج.تلمح فى كل مكان عضوات فريق التمريض بالرداء الأبيض والأزرق وغطاء الرأس raquo;المنشىlaquo; الناصع: المظهر القديم الذى كان يوحى فعلاً بلقبquot; ملائكة الرحمةquot;.
ورغم أفواج المرضى والمحتضرين القادمة بحثاً عن بارقة أمل، لاتجد أى نوع من المتاجرة بآلام البشر...لامكان للدجل أو الشعوذة... ليس هناك وعود بشفاء مؤكد أو بماء مقدس يعالج كافة الأمراض. فى كل القداسات تتلى صلوات من أجل المرضى: الشفاء لمن أراد الله له الشفاء، والصبر والتحمل لمن كتب عليه أن يعانى حتى النهاية.ولكن فى كل الأحوال يحصل المريض وأهله وأحباؤه خلال هذه الزيارة على تعازى كثيرة وراحة للنفس وتسليم بما تجرى به المقادير.
والسائح فى لوردز لايمكن أن يتسلل الملل إلى نفسه، فهناك العديد من الأماكن التى تستحق الزيارة: البيت الذى ولدت فيه برناديت، والحجرة فى سجن البلدة التى لم تجد الأسرة ملجأ سواها عندما عضها الفقر بنابه، قلعة تاريخية ضخمة، قطار يحمل السائح إلى قمة الجبل ليرى منظراً بانوراميا رائعاً، متاحف ممتعة تضم مجسمات بالشمع ونماذج مصغرة مأخوذة عن قصص الإنجيل ومظاهر الحياة فى القرية وقت الظهورات ؛ كلها مصنوعة بدقة متناهية وذوق فنى رفيع.
وكالمعتاد،لايرى المصرى نماذج ناجحة فى أى بقعة فى العالم إلا ويشعر بغصة وتمتلئ نفسه بالحسرات، عندما يجنح به الخيال إلى أرض الوطن ويتذكر كم من مكان فى مصر ــ شمالها وجنوبها ــ يصلح لأن يكون مزاراً سياحياً: تاريخيا أودينياً أوترفيهياً، لايضاهيه فى قيمته وعظمته وجماله أى مكان آخر على ظهر البسيطة.
تحقيق ذلك لا يحتاج لمعجزات فوق طاقة البشر. هذا المستحيل سيصبح ممكناً لو صدقت النوايا، واستعاد المصريون القيم الضرورية والأسلحة اللازمة لتحقيق النجاح فى أى مجال من مجالات الحياة.
ليلى فريد
التعليقات