أظهرت القيادة الكردية في العراق، في خضم الأزمة الحالية مع تركيا، على وحدة موقفها، و الخطوات الواجب إتباعها في حال لجأت القوات المسلحة التركية الى التوغل في إقليم كردستان العراق، و تعريض مكتسبات الكرد هناك الى الخطر، بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني. الرئيسان، جلال الطالباني و مسعود البارزاني، أكدا في مؤتمرهما الصحفي المشترك، بعيد عودة الأول من زيارة قام بها الى الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا، على الحل السلمي لقضية حزب العمال الكردستاني، و إستبعاد الوسائل العسكرية في الأزمة الحالية، مؤكدين في الوقت نفسه على قيام شعب الإقليم بالدفاع عن نفسه في حال حدوث أي إعتداء على كردستان العراق.


أظهر الزعيمان الكرديان أمام عدسات الصحفيين ثقة غير مسبوقة، مصحوبة بتصريحات مقتضبة و حاسمة، مفعمة بإرادة التحدي و المواجهة مع أية مغامرة عسكرية تركية بحق الشعب الكردي في كردستان العراق. كما لم يبد الزعيمان أي إستعداد للمساومة على قضية حزب العمال الكردستاني أو مقاضاتها بموقف تركي مقابل، فكان الموقف الكردي، على لسان الزعيمان، موقفاً كردياً صرفاً، أملته إعتبارات المصلحة القومية الكردية، و رأي الجمهور الكردي الرافض للغة التهديد و الإبتزاز التركي.


القيادة الكردية تدرك إمتعاض دول الجوار العراقي من تجربتها، و تحفظاتها على أتساع مشاركة الكرد في حكم العراق، و كيف ان هذه الدول قامت في السابق بدفع الكرد الى مقاتلة بعضهم البعض، و نسجت فيما بينها تحالفات أمنية و عسكرية لمواجهة أي طموح كردي يجنح الى الإستقلال، او ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه. و عليه فإن القيادة الكردية ترسم سياستها على أساس تحقيق أكبر قدر من الإلتفاف القومي حول المكتسبات التي تحققت للكرد في العراق، منذ إسقاط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين. و تأكيدا على الأهمية التي يوليها الكرد لتجربتهم في كردستان العراق، كان لحزب العمال الكردستاني موقف مهم في هذا الصدد، عندما عبر قادته، المرة تلو الأخرى، عن إستعدادهم للدفاع عن الإقليم في وجه التهديدات التركية، الأمر الذي رأي الأتراك فيه، إزدياد في نفوذ حزب العمال و إتساع رقعة تحركاته.

عندما تحرص القيادات الكردية على الحل السياسي و السلمي مع تركيا، فإنما تستند على موقف حزب العمال الكردستاني الداعي الى حل المسألة الكردية في تركيا بالطرق السلمية، و عبر الحوار و التفاوض، و هي بذلك إنما تعتمد على عدد المرات التي أوقف فيها ال (ب ك ك) عملياته العسكرية ضد الدولة التركية، بغية إعطاء فرصة الحل السياسي للمسألة الكردية في تركيا حصتها، و التي رفضتها الطبقة السياسية و المؤسسة العسكرية، جملة و تفصيلاً، معتمدة على قناعة تفيد بقدرة الجيش التركي و تسليحه و خبراته، على القضاء على حزب العمال الكردستاني. و لعل ما يشل التفكير، و المقدرة على تعامل السياسيين الأتراك مع قضية داخلية حساسة و معقدة، بطريقة صائبة و عقلانية، هو تجاهلهم لحقيقة و إمكانات و قدرات العمال الكردستاني، سياسياً و عسكرياً و جماهيرياً، في تركيا نفسها.


تركيا تشك في نوايا كرد العراق، و تتهم القيادة الكردية بدعم حزب العمال الكردستاني، و هي بلا شك، محقة في شكوكها، لان العلاقات بين العمال الكردستاني و الحزبين الكرديين الأساسيين في كردستان العراق، جيدة و مبنية على تفاهم و تنسيق و تشاور مستمر. فكما سمح أردوغان لنفسه حق التدخل في شؤون العراق الداخلية، و التهديد بالتدخل العسكري في أراضيه, لمساندة التركمان و منع الكرد من ضم مدينة كركوك الى إقليم كردستان، يجد القادة الكرد في كردستان العراق من حقهم أيضاً الوقوف الى جانب أكثر من 15 مليون كردي، مضطهد ومحروم من أبسط حقوقه القومية و الديمقراطية في تركيا.


الدولة التركية و هي تواجه الأزمة الحالية، إنما تظهر حراجة موقفها، و تدرك خطورة القيام بخطوات أحادية الجانب. فهي الآن لا تجاور دولة النظام العراقي السابق، الذي كان يسمح للجيش التركي بتعقب كريلا العمال الكردستاني الى حدود 15 كيلومتراً في عمق الأراضي العراقية، بموجب إتفاق عسكري و أمني بين الطرفين، و إنما تجاور دولة تنتشر فيه أكثر من 130 ألف جندي أمريكي، رفضت السماح لهم في أبريل 2003 بالعبور الى العراق عبر أراضيها. فهي تدرك عدم قبول الأمريكان بتعريض أمن أكثر منطقة في العراق هدوءاً للخطر و عدم الإستقرار. كما أن أي تدخل تركي مباشر، ولا سيما عبر الوسائل العسكرية، في كردستان العراق، يعني تبرير تدخل قوى إقليمية أخرى، و خاصة إيران،في الشأن العراقي. كما أن تركيا، بعكس السابق، تجد نفسها وحيدة و معزولة، لا يكترث لها حلفائها و أصدقاءها. وزيرة الخارجية الأمريكية كودوليزا رايس، اثناء زيارتها الأخيرة للشرق الأوسط، لم تكلف نفسها حتى عناء التوقف لبضعة ساعات في أنقرة، لتهدئة مخاوفها، فضلا عن أن واشنطن لم تتحدث، حتى الآن، عن طرد المقاتلين الكرد من جبال قنديل او ضرب مواقعهم. كما لم تتحمس أوروبا لعملية عسكرية تركية في العراق، و رأت فيه خطورة على جهود المجتمع الدولي لإستعادة الأمن و الأستقرار في ربوعه.


إن وحدة الموقف الكردي، رسمياً و شعبياً، في مواجهة تهديدات الدولة التركية، و تأكيد القيادات الكردية في كردستان العراق على الحل السلمي للمسألة الكردية في تركيا، يشكلان دعائم مرحلة جديدة في تاريخ حركة التحرر القومية الكردية. فبعد أن كان الكرد دائماً، متجاهلين من قبل المجتمع الدولي و القوى العظمى، يجدون اليوم أنفسهم، محاطين بشبكة آمان، نسجتها قدرتهم على ممارسة براغماتية سياسية متميزة، مع الحفاظ على القدرة على الصمود في وجه محاولات النيل من وجودهم.