حتى ساعة متأخرة من احدى ليالي تشرين الثاني (1963) بقي الملازم اول محمد طالب هلال جالساً الى مكتبه في (شعبة الامن السياسي بالقامشلي ) يرتشف القهوة مع السيكار واخذ يعتصر فكره ليصوغ فرماناً عنصرياً غريباً يرسله الى قيادته في دمشق كتقرير سري جاء فيه:
( ان الجزيرة تدق نواقيس الخطر، مستصرخة الضمير العربي الحي لانقاذها وتطهيرها من كل الشوائب والزبد التاريخي لتعود مساهمة فعالة كأخواتها من محافظات هذا القطر العربي، فالمشكلة الكردية الآن وقد اخذت في تنظيم نفسها ليست سوى انتفاخ ورمي خبيث نشأ أوأنشئ في ناحية من جسم هذه الامة العربية وليس له علاج سوى البتر )؟؟؟


بهذه العبارات العنصرية صاغ تقريره متأ ثراً ومتناغماً بما باشره حزب البعث بحملة في الجزيرة تحت شعار (( انقذوا الجزيرة لئلا تصبح اسرائيل ثانية )) ومرتكزاً الى المرسوم (93) الصادر بتاريخ 23 / 8 / 1962 والقاضي باجراء احصاء استثنائي في محافظة الحسكة ( عملياً سحب الجنسية السورية من شريحة واسعة من المواطنين الاكراد ) ولم ينس هلال هذا أن يقدم علاجاً لهذا الورم الخبيث (( على حد وصفه )) بأثنتي عشرة(
نقطة لايسعنا ذكرها )قوامها تحطيم تماسك المجتمع الكردي وتفكيك أوصاله وتشريد ه وتجهيله وتهجيره وافقاره وقهره وتهميشه.
اذ اجتز المرسوم 93 المذكور سابقاً شريحة كبيرة من المواطنين الاكراد ليرمى بهم وذريتهم الى مجاهل القهر والفقر، حيث بلغ عدد الذين سحبت جنسيتهم يومئذٍ (195000) شخص (( 120000 بصفة اجنبي و 75000 بصفة مكتوم القيد )) وباجراء عملية حسابية بسيطة وباعتماد زيادة سكانية طبيعية 2.7 بالمائة يكون عدد هؤولاء قد اصبح بعد مضي اكثر من 45 سنة / أي عام 2007 / ما يقارب ال 646700 نسمة، واذا افترضنا ان 10 بالمائة منهم استطاع ان يستعيد جنسيته بطريقة اوباخرى فيكون العدد اليوم قد قارب ال /582000/ نسمة.


وعملية الاحصاء الصوري والاستثنائي هذه وبالنتائج التي افرزتها وبما اتسمت به من عبثية صارخة جلبت العارللنظام ولفت العملية كلها بعدم المصداقية لان:
من بين الاجانب رئيس اركان القوات المسلحة السورية السيد توفيق نظام الدين / 1956_ 1957 / وشقيقه السيد عبد الباقي الذي شغل مناصب وزارية متعددة بين / 1949 _ 1957 / وكذلك من بين هؤلاء الشاعر الكردي المعروف السيد اوصمان صبري المولود في قرية نارنجة ( 1905 م ) التابعة لمحافظة الحسكة
فضلاً عن صور كاريكاتورية من درجة شرالبلية....مثل:
- شاب يخدم في الجندية ويعود ليجد نفسه بدون جنسية لاب مجنس وام مجنسة
- فتاة تنعم بالمواطنة وسط اسرة كلهم اجانب.
- اشقاء في اسرة واحدة عمل فيهم مبضع العنصرية فكان منهم الاجنبي ومنهم المواطن. ومن هذه الصور الهزلية الكثير
ولتكتمل صورة القهر والاذلال للأكراد فقد تم التصديق على خطة هلال عام 1965م وباشرت الحكومة بتنفيذها عام 1973م في عهدالرئيس حافظ الاسد باقامة حزام عربي بعرض / 10 الى 15 كم /وبطول 375 كم وعلى طول الحدود السورية التركية ومن رأس العين ( سريه كانييه ) حتى قرية الزهيرية وكذلك الحدود السورية العراقية من الزهيرية حتى ناحية اليعربية ( تل كوجك )حيث اقترحت الخطة تهجير (140) الف مواطن كردي يعيشون في 332 قرية على ان يحل محلهم عرب من بدو الفرات الذين غمرت اراضيهم بحيرة الاسد عقب انشاء سد الفرات وقد نفذ جزء من الخطة وتعثر الآخربسبب ممانعة الاكراد.


( وللتذكير فقد نفذت اسرائيل جدار الفصل العنصري بالخرسانة المسلحة ليمزق الجسد الفلسطيني ونفذ البعث جدار الفصل العنصري باجساد البدوليمزق الجسد الكردي ).


ومسلسل خنق القومية الكردية كان قد بدأ بعيد الاطاحة بالرئيس اديب الشيشكلي ( امه كردية) عام 1945م حيث بدأت حملة بطيئة ومركزة بتطهير القوات المسلحة من الضباط الاكراد ذوي الرتب العالية والمتوسطة حيث اغلقت اكاديميات الشرطة والجيش تماماً في وجه الطلاب الاكراد وللأمانة فقد اوصدت وباحكام( وخاصة في عهد الرئيس حافظ الاسد ومن بعده ابنه بشار) بعض الاكاديميات العسكرية في وجه جميع المواطنين عرباً وكرداً مسلمين ومسيحيين، فقد اصبحت كليات عسكرية علوية بنسبة 98 بالمائة.


نمى الشعور القومي العربي بعد صعودنجم عبد الناصر الذي ولد الفرح العظيم من فكرة قوة الوحدة العربية والذي اغرى بسحق الأقليات غيرالعربية ضمن الترتيب السياسي، وفي حادثةلايستبعد ان يكون بعض المتعصبين العميان من العرب وراء حرق سينما عامودة عمداً، حيث غلقت الابواب وقالوا للنار هيت لكِ واتت على 250 طفلاً كردياً بريئاً من طلاب المدارس لقوا حتفهم جميعاً شياً بالنار0


وقد حرصت الحكومات المتقالبة على تنفيذ خطة هلال باهمال المنا طق الكردية وهي المعروفة بكثرة خيراتها فالنفط المتدفق يشفط الى القصر مباشرة ( كما تؤكد مصادر عديدة ) وتترك الروائح والبيئة الملوثة والامراض لسكان المنطقة (( معظمهم اكراد )) والحبوب والقطن الذين لايجنى منهما سوى التعب والمديونية بسبب الخطط الفاشلة التي يجبر عليها المواطن، فمحافظة الحسكة توصف بالبقرة الحلوب الا ان خير البقرة يذهب الى لصوص الحكومة وما اكثرهم ويبقى لاهل البقرة الروث.


ونكون ظلمةً اذاقلنا ان الشعب السوري ينعم بالخير فالكل يعاني والكل مهمش الا ان الكردي يعاني مرتين، مرة كونه سوري ومرة لانه كردي.
ويبدو أن القيادة السورية قد اقتنعت مؤخراًبأن اوراق الصمود والتصدي قد تساقطت ولم يعد احد في العالم يصدقها، وان الجيش السوري بقيادته الطا ئفية ليس مؤهلاً لتحريرالارض، فشرعت بتحويل جيشها لمواجهة الأكرادالعزل في القامشلي وكذلك مواجهة كل من تسول له نفسه ان يحلم بحريته، عرباً كانوا ام كرداً، مسيحيون كانوا ام مسلمون 0


وقد فشلت خطة هلال كباقي خطط النظام، اذ أتت النتائج مخيبة لآمال البعثيين العنصريين( وهم بحمد الله قلة) ومنهم محمد هلال فقد تماسك الشعب الكردي وتعلم وتفوق وأغتنى واكتسب في مختلف مجالات العمل الذي أجبر عليه، وأكتسب العلوم في غربته وهجرته التي أكره عليها، وان بقي اكثر من نصف مليون كردي (( مسلوب الجنسية )) محروم من نعمة العلم ومن نعمة الوظيفة التي لايحسد احد عليها ومن نعمة التملك ومن مغادرة الوطن كما هو محروم من البقاء فيه وقد عنست بناتهم وانضوى شبابهم لان الاجنبية لايتزوجها الا اجنبي ولن تلد الا اجنبياً محروماً.


وعندما مات الرئيس حافظ الاسد وتوج ابنه بشار عام 2000م وفي خطاب القسم وعد باعادة الجنسية لهؤلاء الاكراد وبعد سبعة اعوام (2007م) اعاد الوعد في خطاب القسم الثاني،ولم يتحرك شئ على الارض باتجاه نزع فتيل هذه القنبلة الموقوتة ولا يلوح شئ في الافق ايضاً (حتى الآن على الاقل ) 0 والليالي تمرثقيلة تشكوالى الله ثقلها،وقد جدلت خمسة وأربعون عاماً تتدلى على أكتاف هؤلاء (البدون)، ولايزالون يأكلون العصي،ولاتجد هناك حتى من يعدها.

جعفر الياسري