جاء الاحتلال الأمريكي للعراق وانهارت المؤسسات الأمنية والبوليسية وسُرقت محتوياتها ووثائقها فأرسلوا لي حصتي من الغنيمة،ملفاً عتيقاً من ديوانية العراق يضم ربع قرن من الملاحظات الأمنية والأسئلة المخابراتية والاتهامات بالهروب خارج البلد والانتماء إلى حزب عميل.قلبته برفقٍ وصمتٍ واحترام كي لا اخدش بصمات الجلاد على غلافيّهِ ولكي لا تتطاير رائحة الورق المخلوطة بدماء ومعاناة ووصايا من رحلوا دون قبور.هذه الأوراق التي تغيّر لونها بين إبهام الشرطي وسبابته التي لا تهدأ،هي ذاكرتنا، في سوق وصراخ لم نستطع مجاراتهما.فثمة أكثر من علامة تنذر بهيمنة الأكاذيب وليّ الحقائق وتسطيح الذاكرة الوطنية.


على الرغم من أن الهجرات المتتالية من العراق كل لها خصوصيتها ومعاناتها،أسبابها ونتائجها،إلا أنها لا تخلو من خيطاً ناظماً يصنع خلفية المشهد العام،خصوصاً وإن الشرائح المتوسطة من مهنيين ومثقفين وعسكريين شكّلت العمود الفقري لتلك الهجرات. وهذه الشرائح الرمادية التي شردتها الحروب، لا مكان ثابت لها على الخارطة السياسية.هي تدرك ذلك وتعلن على الدوام نفورها وسخطها منه، لكنها لم تعتد الغناء دون قبيلة سياسية تستمع إليها وتسندها. هذه الحالة القلقة التي تعيشها الوسطية والتي غالباً ما تعكس الفراغ المؤلم للتجارب الحقيقية أغرت كثيرون بتصنيّع تجارب وأسماء وذاكرات تنسجم ومتطلبات المنفى، داست فيها على حقيقة تفاصيل الحوادث بالرغم من وجود صنّاعها الأحياء،يدعمهم في ذلك نأيهم عن الأمكنة والظروف التي احتضنت تجاربهم من جهة، وأخرى دعم السياسيين وحاجتهم إلى أبواق وواجهات وماركات غير مكلفة.


ونحن هنا لا ننوي الاقتراب من التاريخ ومفرداته ومنهجه، ولا مواجهة السياسي والتقليل من أهمية أدواته.ومن أين لنا ذلك ونحن أشبه بالهنود الحمر في عراق يعيش أسوء أيامه وليس فيه من قيم ومعارف خارج دائرة السياسة، ولكننا في هذه الفوضى نحاول الإمساك باليومي والتقليل من التشوّهات والسرقات التي طالت ذاكراتنا ومتاحفنا ووقائعنا ومقابرنا، متوسلين بذلك الحائك والخباز والخياط والسائق علّه يخفف علينا حمل ما كدسه بياعو الكلام ومؤلفو الحكايات ومزورو الحوادث.


فالشاعر الذي ارتضى العيش جنب السلطان ونعمائه ومدح قهوته ومجلسه،هو حر فيما يكتب ويكسب وسنبحث له عن خمسين عذراً في كل درهم وقصيدة وسنذهب أبعد من ذلك في وقوفنا عند جمالية الكتابة أكثر من موضوعها البائس، ولكن أن يتكلم الشاعر بلغة السلطان أو يفتعل سيرة أو ذاكرة جديدة عند مغادرته الوطن ويصنع مواقف وحوادث من عندياته لتسويق بطلا كارتونياً، وكل ذلك يحدث في ضوء النهار وفي وجود الضحايا والحوادث والوثائق وابتسامات زملائه وأهله اللذين يعرفون حقيقة التفاصيل، فهذا كثير عليه وعلينا وعلى حقيقة وقوع الأمر.كثير عليه باعتباره مبدعاً وإنساناً لا ينسجم وقسوة الظلم، على الرغم من الهنات والنزوات والعثرات التي لا تخلو منها الخطوات.وكثير علينا كضحايا وأكثرية منسية على الرصيف وتسير بعكازين من الشفاهة والكتابة لرواية حقيقة ما جرى لوطن.وكثير على الحادثة كونها تقع معلومة المكان والزمان والأبطال والظروف لكنها تتحول على ألسنة الهؤلاء وأقلامهم إلى حوادث مجاورة تضمن ماء وجه الراوي عندما كان في ظل السلطان وتسنده عند عبوره الضفة الأخرى للنهر.


هذا الملف المتهرئ نبش أشياء في روحي كنت قد قررت في لحظة يأس من تحقيق الحلم نسيانه، لكن أتضاع الآخر ذكرني بأن ما جرى لوطن هو دلالة أهله وضحاياه. ثم حتى لو ترك كل منا ملفه على الرف نهباً للغبار والنسيان أو أحاط خصوصياته بالدفء والكتمان فإن الحوادث ستعلن عن نفسها وستبحث عن رواتها. فحقيقة وقوع الأمر نسمعها في همس المرعوبين الذين ورثوا الخوف كابر عن كابر ولم يصدقوا بعد أن الصنم قد ولى بغير رجعة، ونراها في عيون الأيتام والثواكل،وفي مساطر العمال والفقراء القادمين من الأرياف،وليس في قصائد وقصص وكتابات حاشية السلطان.فهؤلاء اللذين سوغّوا الموت والقمع والنفي على أنها وجهة نظر،قد أخذوا فرصتهم مغمسة بالذل والطاعة في غير موقف وموقع، ولذلك هم آخر من يحق لهم الحديث عن حقيقة ما وقع على الرغم من تصدرهم الواجهات والجرائد والأمسيات والندوات. فلقد حافظت الشعوب على تواريخها بوجود القلم أو بغيابه على الرغم من أهمية الكتابة،ولو تطلعنا إلى الأيادي النافرة العروق لعجائز الديوانية بوسط العراق وهي تتنقّل بين المغّزل والمضّرب والمخّلل عند سجادة محلية حيكت من خيوط الغزل المتبقية والزائدة عن سجاجيد أخريات، لتعرفنا على ثقافة بعيدة في الزمن وتاريخاً للمعاناة ترويه الخيوط والأحاديث المتنوّعة بين المرأتين الجالستان على جهتي السجادة. أجيال من السياسيين والضحايا تلمسوا البدايات عند أفواه تلك النسوة المتربعات على طرفي السجادة أو الواقفات في المطبخ طول النهار أو المتجمعات عند عتبة دار في حي quot; أهل الشط quot;،قبل أن يتعرفوا على قصائد مظفر النواب الندية أو قوانين كارل ماركس التاريخية.أولئك النسوة الغائبات عن صفحات الجرائد ومواقع الأنترنت ومنصات الخطابة،جلسن أياماً وأعواماً وأجيالا حول سجادة الألوان باعتبارها مصدر عيشهن وسلوتهن ونافذتهن المحببة على حراك الشارع،كانت فيها اللحمة والسدى والوشيعة والمضرب مفردات تضيء المعيش وما يبطنه من فقر وصراع ومعاناة،وحركة أياديهن ترتب أفكارهن وذاكرتهن الشفاهية وهن يحيكن ويحكين عن الثورات والسجون والمنافي،غير عابئات بالمسافة التي تفصل بين اللسان وبين القلم.لقد جعلتهن المهنة المحتقرة اجتماعياً راويات من الطراز الأول، يتسمع من أفواههن الطفل معاناة وصراعات وحكايات سبق له أن سمعها على لسان آخر وفي مكان مجاور وبأسلوب مختلف لا يذهب بعيداً عن طبيعة المعلومة الخبرية التي يتداولها أقرانه بالشارع.


على الرغم من أن ذاكرة المهنة quot;الحياكةquot; سترتبط بأحلام وأغنيات وأمنيات وأنصاف حقائق لا يجد أغلبها الطريق إلى التاريخ والتوثيق،إلا أنها ستوثق للضحايا وستقلق منام السلطان أكثر من قصيدة الشاعر وستجعل من تلك الحوادث العابرة والمنسية في الأزقة الضيقة الضاجة برائحة الزيوت والألوان والأعمدة الصغيرة المثبتة في أرض المحاكة،حوادثاً تستحضر التاريخ والجغرافيا والثقافة والسياسة في هيئة حكاية أو حكمة موال أو مثل شعبي.


ونحن الذين ولدنا قرب المحاكة نتناوب على مد السدى في ظهيرة زمن لا ينتهي من القمع والاستلاب والنفي، لو خُيرّنا بين حقيقة وقوع الأمر وبين الصدق الفني في توصيله،بين صنّاع الحادثة وبين رواتها المتأخرين، لاخترنا تلك quot;الحائِكة quot; اللاهية عن أصابع علي أبن أبي طالب الأربعة التي تفصل بين الكذب وبين الحقيقة. لاخترت عمتي quot; ظلمة quot; المنشغلة بأصابعها المتيبسة وهي تملئ بحركتها المتوارثة ما سقط عن الحادثة من خيوط. فسجادة الضحايا غالباً ما تكون من تلك الخيوط.

نصير عواد