تزامناَ مع إستذكار ثورة العشرين عقدت أكاديمية الكوفة في هولندا مؤتمراً كرس لمناقشة (مستقبل العراق) حضره عدد كبير من المثقفين و السياسيين العراقيين المقيمين في هولندا و ذلك نهاية الشهر المنصرم في إحدى قاعات جامعة لايدن..


وجه الدكتور محمد سعيد الطريحي دعوة شخصية لي لحضور المؤتمر و طلب مني تقديم ورقة، ضمن مجموعة من الأسماء التي قدمت أيضاً ورقات، كانت عبارة عن مداخلات و طروحات بشأن مستقبل العراق و عرض مقترحات حول إمكانية مد يد العون و المساهمة من الخارج في العملية الديمقراطية في العراق.. وقد تم في نهاية المؤتمر تشكيل مجموعة مستقبل العراق، من ثم تم إصدار بيان ختامي للمؤتمر تضمن العديد من المقترحات التي تعتبر أساساً ربما للعمل الجدي بإتجاه المسهمة في بناء العراق..
المهم من هذا كله أنني حين تلقيت الدعوة من الدكتور سعيد الطريحي وجدت نفسي أمام مسؤلية كبيرة، وجدت نفسي منجذبة بشكل شعوري و لا شعوري نحو عملية تفكير جماعي حول مستقبل بلد يحترق على مدار الساعة و ينهار و لا شيء سوى الدمار و الخراب و الإرهاب.. الكلام و الحديث و تبادل الرؤى حول مستقبل العراق لا يتحمل في تقديري رأيين مختلفين، و لا يحتمل في تصوري أي خلاف حول قضية مختلف عليها في الداخل، إذ من المفروض أننا نحن كمثقفين مقيمين في الخارج ننظر إلى مستقبل العراق بعيون أخرى و نتناقش و تختلف لكن نلتتقي في النهاية عند مسألة مستقبل العراق، كل هذا بعيون تكاد ترى الوضع من الخارج و تقيمها بمقاييس أخرى غير تلك المقاييس المستخدمة في الداخل، و هي ليست مقاييس و أدوات أوروبية، لكنها أكثر إنسانية.. إذا من المفروض أننا فوق مستوى الكثير من الصراعات التي تحدث في الداخل و نتناول تحليلاتنا و تقديراتنا للأمور من خارج دائرة الصراع الدائر هناك في الداخل و بعقول أوروبية لكن بقلوب عراقية..


لكن الذي حدث أن بعض الطروحات جاءت بمثابة ناقوس أو وخزة، تقول أن ليس كل إتفاق يقربنا و ليس كل إختلاف يبعدنا، و رغم أن ليس كل إختلاف إفساد لروح القضية، لكن الخلاف هذه المرة لا يفسد روح القضية فقط و إنما كانت محاولة لتشويه الحقائق.. تلك الطروحات جاءت لتقول أن كل خلافاتنا تبني جدارات من الحديد الصلب بيننا، و كل إتفاقنا مبني على أسس من مصالح و معادلات سياسية تخدم الشعارات و تغذي الخطب السياسية أكثر مما تبني هذا الإنسان الذي ينهار على مدار الساعة بكل أشكال الإنهيار و ما يحمله معاني..


البعض القليل جداً من الطروحات التي قدمت خلال المؤتمر و بعض الرؤى كانت تخالف الواقع و تعقد التفكير السليم رغم كل ما نتشدق به من شعارات و كلام رنان عن الديمقراطية و التسامح و القيم الإنسانية العليا، و الذي نطلقه بمناسبة و بدون مناسبة.. فوجود صوت واحد يخالف لن يكون ذو أهمية، لكن أن يكون هناك صوت يجسد التشويه و يقصد أن يعكر المياه فتلك معضلة عقل سياسي يجب معالجتها و النظر إليها من زوايا أخرى...فالخلاف حول حول كلمتي (إرهاب) و (مقاومة) كارثة بحد ذاتها، و الأدهى حين يقول أحدهم أن من يفجر نفسه و يتسبب في قتل الأبرياء هو مقاوم، فتلك مصيبة كبيرة، و هذا بطبيعة الحال مثال لحالة أو إشكالية التسميات، فما أسميه أنا بالإرهاب يسميه غيري بالمقاومة، و هذا معناه أن هناك فراغ فكري و فهم عقيم لقضايا كبيرة و معضلات مصيرية..


أن يشكك أحدهم في حقيقة أطماع تركيا في العراق و تحديداً في مدينةكركوك و يسمي (الأطماع) التركية بـ(تدخل) خوفاً من التجربة الفيدرالية في كوردستان العراق، و كأن الفيدرالية التي نادي بها الكورد هو إعلان حرب، في حين أن الفيدرالية هي الحل الحضاري الأمثل للمعضلة للمشكلة العراقية لو قسنا القضية بمقاييس حضارية و عقلانية تنسجم مع روح العصر.. و أن يكون هناك مجرد طرح واحد يقلل من فداحة المطامع التركية في مدينة كركوك، يكون قد إرتكب خطأً فادحاً يكتب له و يسجل كموقف لا ينسى من قضية يتفق عليه الكل و هو الوحيد الذي يعارض..


إن مسألة خلط الأوراق التي تجري في داخل العراق مفروغ منها، و معروف الأهداف من وراءها، لكن أن يساهم أحدهم من خارج العراق في تغذية عدم الإستقرار و تصعيد المواقف و يؤجج نار الخلاف، فهذا ما يجب الوقوف إزاءه و مراجعته بجدية و مطالبته بتحديد غرضه من إطلاق مثل هذه الطروحات..
أما أن يأتي أحدهم و يقول أن فيدرالية كوردستان هي أساس مخاوف تركيا و أن المادة 140 من الدستور العراقي لهو اساس المشاكل في العراق، و أن كركوك ليست مدينة كوردية، كما دعى إليها السيد صفاء الفلكي السفير العراقي السابق في عهد النظام البائد، معلناً مخاوفه من (فيدرالية كوردستان) كما أسماها، ((حيث ليست هناك فيدرالية كوردستان و إنما نظام فيدرالي في العراق ككل و وفقها تتمتع كوردستان بشبه إستقلاق فيدرالي تحت الخيمة العراقية))، فهذا الطرح لا يحتمل اي تفسير سوى أنه خلط آخر للأوراق بقصد تشويه حقائق تأريخية مثبتة في وثائق معتمدة منذ القدم و منذ العهد العثماني حول كوردستانية مدينة كركوك.. و هذا التوجه يغذي عدم الإتفاق و عدم الإستقرار أكثر مما يساعد على تهدئة الوضع القائم على اساس عقلاني و سلمي.. و هو بالمناسبة يتنافى مع الغرض الذي أقامت من أجله أكاديمية الكوفة مؤتمر تحت شعار مستقبل العراق و شكلت لجنة عمل و تواصل مع الداخل على إثره بإسم لجنة مستقبل العراق..


و لا أعتقد أن الهدف من المؤتمر كان تبادل الرؤى المختلفة حول قضية مستقبل العراق بقدر ما كان الهدف إعلان إجماع و إتفاق حول الكثير من النقاط و القضايا التي تهم الكل بدون إستثناء.. فلو كان القائمون على المؤتمر قد إطلعوا على محتويات الأوراق التي كان مقرراً تقديمها قبل المؤتمر كما فعلوا مع كاتبة المقالة لكان الوضع إختلف، فعن نفسي لم أجد مبرر أقوى من حرصنا على مستقبل العراق عندما طلب مني الدكتور سعيد الطريحي الإطلاع على ورقتي قبل المؤتمر بليلة واحدة فأرسلتها له بدون تردد، هذا الشيء الذي أجزم أنه لم يفعله مع أحد آخر من باقي المدعووين ممن دعاهم للمؤتمر.. لكنني مع ذلك لم أبد أي رفض.. لأن ما لاحظته أن الكل جاء و هو يحمل ما يحمل من رؤى يدون تحفظ، ورقتي الوحيدة التي طلبها القائمون على المؤتمر، و هذا يجسد حقيقة أن عدم الثقة قائمة و أننا لا نقبل ببعضنا البعض إلا فقط للمجاملة.. و هذا نص ورقتي:
مداخلة: عندما حضرت إلى هذا المؤتمر كنت أحمل كماً من المشاعر، أردت أن أقيسها بمشاعر المشاركين الآخرين من خلال طروحاتهم، سواء إختلفنا أو إتفقنا.. فليس كل إتفاق يقرب، كما ليس كل إختلاف يبعد.. لكن بدا لي للحظة أن بعض الإتفاق يفسد ما يجمعنا لأنه ليس مبني على التآزر و إنما على المصلحة، و بعض الإختلاف يؤدي إلى تباعد أقسى، لأنه مبني على إلغاء الآخر..
اشكر القائمين على هذا المؤتمر على دعوتي لحضوره و أيضاً أشكر الدكتور محمد سعيد الطريحي الذي طلب مني أن أحضر هذه الورقة و قراءتها..
كلمة حول مستقبل العراق
حلقة نقاشية حول مستقبل العراق في جامعة لايدن
السبت 30 حزيران 2007، لايدن ndash; هولندا
عندما يكون الكلام عن العراق، يكون الكلام عن الإحتراق و الدمار و الموت و النحيب و المآسي و مآسي الأطفال.. عن أمهاتنا و نحيبهن و صراخهن و صدورهن الملئى بالوجع..عندما يكون الكلام على هذا النحو، و المتلكم إبن هذا البلد، البلد المشحون بكل معاني الوجع و الألم و العذاب.. يكون كلاماَ آخر، و بمعاني أخرى، و وقع آخر و صدى آخر.. يكون كلاماَ ذو شجون..
عندما طلب مني الدكتور سعيد الطريحي أن أقدم ورقة في هذه المناسبة التي نحن من أجلها مجتمعون، ورقة أقول فيها شيئاَ عن مستقبل العراق.. ورقة أقرأها في خمس دقائق، بدا لي الأمر في غاية السهولة، لكنني ما أن كتبت أول كلمة حتى إنهالت على رأسي صور و مشاهد و مناظر مروعة و محزنة.. حتى أحسست بإختناق، وجدتني عاجزة عن أن أختصر كل ما أشعر به في ورقة أقرأها في خمس دقائق، ربما أكثر ربما أقل..أن تكون مطالباً أو معنياً بقول شيء، و ليس أي شيء عن مستقبل العراق، كيف يكون هذا على مساحة ورقة واحدة؟ و في مدة من خمس دقائق؟
أن تكون مطالباً بأن تشارك في التفكير في بلد مثل العراق، أن تقول كل شيء، عندها ستدرك معنى العجز.. ماذا يكون العجز إن لم تستطع أن تختصر كل تلك المآسي و الإحتراق و الألام و التفجيرات و.و.و.و...الخ في ورقة، و ماذا سيكون ذلك المشروع الذي سينهي كل هذه العذابات..
ثم تقترح و تساهم في التفكير.. و هذا الكائن ليس العراقي فقط، بل الشرقي بشكل عام المعروف بأنه كتلة من العواطف، ذلك الكائن الذي يمنح ببذخ و يهب بدون حدود.. يعبر عن كل شيء ببذخ، حتى عن آلامه و أفراحه..


لدي قناعة تامة أننا ككورد، و أنا أتحدث عن الكورد بإعتباره القومية الثانية في العراق، لدي قناعة تامة أنه لطالما كوردستان في الوقت الحالي هي جزء من العراق، علينا أن نؤدي واجبنا الوطني داخل هذا الوطن بكل إخلاص و أمانة، لأننا جزء من هذا الوطن و نحن معنيون في النهاية و قبل كل شيء بمستقبل هذا الوطن الذي يحتضننا جميعاً بغض النظر عن ألواننا و قومياتنا و إنتماءاتنا العرقية و الدينية و المذهبية..


من هنا أشعر بمسؤولية كبيرة إزاء كل شيء و أي شيء يمس العراق.. تماماً كمسؤوليتي عندما طلب مني حضور هذا النشاط.. فلم أحضر لكي أستمع و أنهي نهاراً كباقي النهارات، لأنني لم أنظر إليه كنشاط مثل باقي الأنشطة.. أنما حضرت حتى أبادل إحساسي بأحاسيس الآخرين و أن نتبادل مشاعرنا و مقترحاتنا و تفكيرنا، بعيداً عن كل مظاهر التعصب و التشنج اللذين لا يؤديان إلا إلى النهايات المغلقة و الطرق المسدودة..


نحن الآن بصدد مايمكننا فعله من أجل هذا البلد، و ذلك من خلال تنشيط من بالخارج بالطريقة الصحيحة و المثلى بهدف خدمة من بالداخل و مد يد العون لكي يتجاوزوا المحنة و أن نوقف نزيف الدم و نقطع دابر الإرهاب.. عليه فإن تهميش العراقيين في الخارج و عدم إشراكهم في العملية الديمقراطية و في أداء دورهم في كل هذه المهام هو خطأ.. لأن من بالداخل ينظر إلى ما يحدث داخل العراق بعين المتألم و المتضرر بشكل مباشر، عليه فهو عاجز عن طرح حلول واقعية و علمية، لكن من هو خارج العراق ينظر إلى مايحدث في العراق بعين المتضرر بالدرجة الثانية لأنه بعيد و عليه فهو قادر على التفكير المنطقي العلمي بشكل أفضل، و لأنه يرى منظر العراق من الخارج بعيون عراقية و لكن بعقل و تفكير أوروبي و بالتالي قد يفكر في الحل وفق مقاييس منطقية أكثر..و هذه حقيقة عليمة..
لكن للأسف الشديد هناك توجه أو لنقل تفكير في الداخل، هو أنهم ضد كل من بالخارج، و ينظرون إلى من في الخارج على أنهم متنعمين و هاربين من الجحيم، و أنهم هم الوطنيون الحقيقيون لأنهم بقوا في وجه الخطر.. في حين أن الخطر طال الكل بدون إستثناء و الكل عانى لكن بأشكال مختلفة..
المهم علينا اليوم التأسيس لثقافة التسامح قدر الإمكان و بناء ثقافة القبول بالآخر، و مد يدنا بالعون و المساعدة إلى من يحترق في الداخل.. لندع الكلام الشعاراتي و الخطابي و لنتناقش بشكل جماعي حول ماهو ممكن تحقيقه في الوقت الراهن من أجل إنقاذ ما يجب إنقاذه، في ظل ماهو متاح و متوفر من إمكانيات، شرط أن نقترح ما نحن قادرون على تحقيقه..


و قبل هذا كله يجب التحرك بإتجاه إقناع من بالداخل، و أقصد في دوائر القرار، بضرورة إشراك من هم بالخارج، لأن وجودهم يساعد على رفع أصواتهم هنا في الخارج و تدويل قضية العراقيين خارج العراق، و هذا أهم هدف يجب التركيز عليه في الوقت الحالي و هو إستقطاب أكبر قدر من أهتمام المجتمع الدولي إلى معاناة العراقيين و تشجيعهم على مد يد العون.. العمل بهذا الإتجاه يفيد القضية من الناحية الحضارية و يطرح حلول تتناسب مع الزمن الذي نعيش فيه.. علينا مفاتحة المنظمات العالمية التي تعنى بحقوق الإنسان و تدين جرائم الإرهاب و الإرهابيين.. و غيرها من الخطوات التي تساعد على تخفيف آلام العراقيين بالداخل و تدخل البسمة إلى البيوت..
أتمنى لهذا النشاط التوفيق و القائمين عليه و أن تخرجوا بأفضل النتائج و أحسنها لخدمة و بناء الإنسان العراقي..
و شكراً..


فينوس فائق