يواجه المواطن العراقي اليوم خطرين عظيمين يحولان حياته اليومية إلى جحيم ويفتكان بمستقبله الغامص ألا وهما الإرهاب والفساد. الخطر الأول معروف المصدر والهوية والأهداف، فهناك مئات الآلاف من المتضررين من عملية التغيير السياسي في العراق وانهيار النظام الصدامي السابق لاسيما من بين أفراد القوات المسلحة والحرس الجمهوري وفدائيي صدام وعناصر المخابرات وأعضاء حزب البعث ممن كانوا يمارسون البطش والتعذيب والقتل ضد ابناء الشعب ومعهم عصابات الجريمة المنظمة الذين أطلق صدام حسين سراحهم من السجون ليعيثوا في الأرض فساداً ويمارسوا القتل والخطف والسرقة والاحتيال والسطو بلا رادع ويقف إلى جانبهم طوابير من المتطوعين العرب والأجانب والعراقيين من العناصر المتطرفة والمتشددة، التكفيرية والسلفية التي تريد فرض رؤيتها الأيديولوجية وتطبيقها على أرض الواقع بقوة السلاح والعنف والاضطهاد والترهيب لاسيما على يد هؤلاء الذين غسلت عقولهم بخطاب ديني منحرف وبمنحهم بوصلة تأمين الدخول إلى الجنة وتناول الإفطار أو الغداء أو العشاء مع النبي الأكرم في الجنة والفوز بعدد لا متناهي من الحور العين للهروب من واقعهم المأساوي الخاوي والذهاب إلى ما وراء أفقهم المسدود. وقد استغلت دول الجوار العراقي هذه الظاهرة وهذا القطيع من المجانين لضخهم أفراداً وجماعات إلى داخل العراق ليثيروا الفوضى والدمار والخراب الشامل حماية لمصالح تلك الدول، أولدرء الخطر العسكري الأمريكي المتربص بها على بعد بضعة كيلومترات، أو للتخلص من خطرهم ضد الأنظمة القائمة في بلدان الجوار، فيصار إلى تصديرهم إلى العراق بدوافع وحجج وذرائع طائفية ومذهبية وعرقية ورفدهم بوسائل التدمير كالسلاح والمال والتدريب وحثهم على تنفيذ العمليات الانتحارية الدامية لكي يفوزوا بشرف الشهادة كما يصور لهم. لذلك تشكلت شبكات منظمة ومبرمجة ومدروسة منتشرة في كل مكان بما في ذلك أوروبا وأمريكا والعالمين العربي والإسلامي روسيا والشيشان ويوغسلافيا السابقة، للقيام بهذه المهمة الإجرامية. وتوزعت تلك الشبكات على دول الجوار وتقاسمت المهمات فيما بينها، فمنها من هو مسؤول عن التجنيد والتحشيد والتعبئة وكسب العناصر المتطوعة الجديدة، ومنها من هو مكلف بترحيلها إلى أماكن الاستقبال والتدريب والتأهيل، ومنهم من هو مسؤول عن تهريبهم متسللين إلى داخل العراق وإيصالهم إلى الشبكات الإرهابية العاملة على أرض العراق كالقاعدة ومجلس شورى المجاهدين وغيرها. وهناك من يقوم بعمليات التمويل وجمع الأموال والتبرعات من حكومات وأثرياء الخليج. وبذلك تحولت أرض العراق إلى ماكنة لتفريخ الإرهابيين وتصديرهم إلى الخارج فهم يأتون إلى أرض السواد التي حولوها إلى أرض الخراب لاكتساب التدريبات والمهارات القتالية وممارسة العمليات الإرهابية ميدانياً ومن ثم نقلها إلى أماكن أخرى كلما سنحت الظروف بذلك. وقد ساهمت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى بنشوء وإتساع وانتشار التيار التكفيري الإسلاموي بعد أن كان هامشياً ضعيفاً في بداية السبعينات من القرن الماضي حيث تجمع في أفغانستان واستقطب الكثير من الشبان المتشوقين للدفاع عن الإسلام ضد الغزو السوفيتي لهذا البلد المسلم خلال حقبة الثمانينات حيث وجد قادة هذا التيار في أفغانستان ملاذاً آمناً آنذاك كأيمن الظواهري رئيس الجماعة الإسلامية في مصر والزعيم الأوزبكي طاهر يالدشيف والشيخ عيسى أحد أركان القيادة الميدانية للقاعدة والتحق بهم اسامة بن لادن وأصبح زعيمهم الأعلى فيما بعد، في أعقاب اغتيال الزعيم السابق عبد الله عزام مؤسس كتائب المتطوعين العرب للجهاد في أفغانستان ومدير مكتب الخدمات في بيشاور في الباكستان الذي ولد في رحمه تنظيم القاعدة الإرهابي. وازدهر التيار التكفيري في كل مكان من المعمورة لاسيما بعد الغزو الأمريكي للعراق وكان أحد أقطابه المجرم العتيد أبو مصعب الزرقاوي الذي قاد تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وقتل في العراق في السابع من حزيران عام 2006. تركز الخطاب التكفيري على مقولة تدنيس قوى الكفر والإلحاد لأرض الإسلام المقدسة مما ساعد على زرع وترسيخ الشعور بالحقد والكراهية والمهانة لدى الشباب المسلم المتدين والمفتقد للوعي الثقافي المنفتح. ولكن بالتدريج انصب غضب التكفيريين على حكامهم وابناء دينهم ممن لايشاطرونهم افكارهم ومعتقاداتهم ووصموهم بالكفر وهدروا دمهم وأفتوا تحليل قتلهم وبالتالي أصبحت أولوية التكفيريين هي استئصال أعدائهم داخل العالم الإسلامي قبل محاربة العدو الأجنبي: quot;المسيحي واليهودي أو الصليبيي كما يسمونهquot; وقد قرروا خوض حرب إبادة شاملة وتخريب البنى التحتية وأخذ السكان المدنيين العزل كدروع بشرية يتمترسون خلفها ويحتمون بها ويعرضونها لقصف الجيوش النظامية الجبارة التي تهاجمهم، وفي نفس الوقت يمارسون ضد السكان المدنيين أقسى أنواع القسوة والبطش والترهيب والعنف الجسدي وبالذات ضد كل من يعترض على حكمهم وسطوتهم أو يرفض تبني أفكارهم وتطبيقها، وهي أفكار ظلامية متأخرة ومتحجرة ومتخلفة بحجة تقليد السلف الصالح وتطبيق الشريعة الإسلامية حرفياً. كما خلقوا لأنفسه عدواً آخر في العراق خاصة وهو أبناء الطائفة الشيعية حيث قاموا بالفتك بهم وتعريضهم للقتل الجماعي على الهوية لا لشيء إلا لأنهم شيعة من أتباع آل البيت الذي اعتبروهم منحرفين ومرتدين عن الدين ويستحقون القتل بل أصبح قتلهم واجب ديني برأي هؤلاء التكفيريين.
الخطر الثاني هو الفساد المستشري كالوباء في الجسد الإجتماعي العراقي. وقد تعمم الفساد وأصاب كافة المسنويات والطبقات والفئات فلا شيء يمكن أن يتم أو يتحقق إلا بالرشوة وسلب الأموال في المراكز الطبية وفي دوائر الدولة كافة وخاصة مديرية الجوازات والسفارات حيث يسعى العراقيون اليوم وبأي ثمن للحصول على جواز سفر للهروب من الجحيم مهما كانت الصعوبات والمخاطر فهي أقل مرتبة من الموت المحتوم وكل ذلك يحصل أمام مرأى ومسمع الدولة ومؤسساتها الأمنية والقضائية ولا أحد يجرؤ على محاسبة الفاسدين لأن الدولة نفسها فاسدة ومنخورة حيث توجد ملفات كثيرة تزكم الأنوف برائحة الفضائح التي تنضح منها. وأمام هذا الغول الجاثم على صدور العراقيين يحاول كل عراقي الهروب والحصول على لجوء في أي مكان آخر عدا العراق فصاروا يتدفقون بالآلاف على حدود الدول المجاورة وهم لايعرفون ماذا ينتظرهم من عذاب وهوان وهدر للكرامة وكل ما ينشدونه هو الخلاص من الموت المتربص بأبنائهم وبناتهم وأطفالهم ونسائهم. أما من بقي في الداخل فليس لديه من يحميه سوى الله فحتى الأطفال الأيتام من ذوي الاحتياجات الخاصة والمعوقين عقلياً لم ينجوا من نقمة الفساد والإهمال كما حصل في دار الحنان مؤخراً مهما كانت التبريرات والحجج والذرائع التي ساقها المسؤولون للتغطية على هذه الفضيحة اللاإنسانية فهل من منقذ؟ لازلنا نردد منذ قرون من على المنابر يارحمة الله الواسعة ويا باب نجاة الأمة ولكن دون جدوى إذ أن رحمة الله مازالت غائبة عن العراق والأمة مازالت غارقة تحت ركام الكارثة.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]