منذ مطلع القرن العشرين ونحن نخوض التجارب تلو التجارب تقودنا نحو الفشل الذي يقودنا بدوره نحو الفاجعة حتى صرنا لا نستبعد أن تكون بلادنا قد أضحت مجرد مختبر بايولوجي لاستنبات سلالة جديدة مختلفة عما عرفته البشرية منذ فجر السلالات وحتى فجر الروبوتات لتحتمل كل هذه الإخفاقات وتتعايش مع كل هذه الفواجع من دون أن يرف لها جفن أو تنتفض على ذاتها. بل هي حين يسقط جلاد اغتصب السلطة وتتوفر لها فرصة أن تختار فهي سرعان ما(تزحف!) لتختار جلادين!!
فكأنه لم يكفنا طيلة عقود طويلة مضت كنا نساق فيها قطعانا ووحدانا إما إلى ميادين القتال أو إلى ميادين التظاهر مرة للتأييد ومرة للاستنكار وأخرى للبيعة، لنخرج من مرحلة الوجد لـ(نرتقي) إلى مرحلة الفناء، فمن المقدس القومي إلى المقدس الديني رموزا صماء لا نصنعها من تمر لتؤكل عند الجوع كما كان يفعل أجدادنا!!
في ميادين الحروب إذ كان الشهداء يرفعون القواعد بأشلائهم والحكام..يقفون عليها أبراجا للمجد منتصبين، فيما يعود الناجون إلى المدن محطمين منكسرين تحت وطأة الأوامر العسكرية أو مصابين بالسعار الذي يحولهم إلى ذئاب بشرية نتيجة تعايشهم اليومي مع الجثث والأشلاء والدماء والأطراف المقطوعة أو بالشيزوفرينيا حيث الهزائم بتفاصيلها تصوّرها أبواق الاعلام كانتصارات وفتوحات مبينة.
أما في ميادين التظاهر فبين منساق على عمى منه وبالتالي عن رضا ورغبة رغم انه بعماه هذا يشارك في عملية صناعة الطغاة وتحويلهم إلى أصنام وأرباب وبعد أن ينتشي هؤلاء بما يسمعون من هتاف وتصفيق ويروا ما حولهم من تقافز ورقص لن يقبلوا بعد ذلك منهم بأقل من عبادتهم وطاعتهم ولزوم أوامرهم والابتعاد عن نواهيهم، وبين مساق رغم انفه رهبة لا رغبة وما سيخلفه ذلك على شخصيته لاحقا وربما صاغ سلوكه أما خانعا أو متمردا ولا أقول معارضا لان المعارضة وجهة نظر ورؤية واعية وبرنامج واضح وليست عملا ارتجاليا لا يؤدي إلا إلى الفوضى كما هو الحال في التمرد.
وبين هذين الميدانين أُسِّست أولى مبررات الانهيار الذي حدث في 9 / 4 /2003 لتصل بعد ذلك الأوضاع في البلاد إلى ما وصلت إليه الآن.
وكاد توقيت الانهيار أن يكون فاصلا بين زمنين، زمن مضى وانطوت صفحاته وزمن قادم مفعم بالإصرار على التغيير لولا أن انبعثت فجأة أو غفلة من رماد ذلك النظام عنقاؤه ولكن هذه المرة على شكل منظمات كل واحدة منها تسعى للاستئثار بالتركة وحين تعجز عن ذلك تسعى لا إلى تقسيمها فقد تقاسمتها فعلا ولكن إلى تقسيم البلاد ومعها العباد.
أليسوا الورثة الشرعيين لآخر نظام شمولي في العالم؟
هل بالإمكان رؤية عالم بلا نظام شمولي وبدون قائد رمز وأهداف مقدسة؟
الحديث في سيكولوجية الأمم حديث معقد والبحث في ظواهرها أكثر تعقيدا ولهذا سنتجاوز الحديث فيه نحو المشاهد اليومية، فالحدث والصورة اليوم اصدق إنباء وتعبيرا وهما بالتالي يجنباننا عسر الفهم.
نحن اليوم مضطرون إلى أن نحيا خارج التدوين لنؤرخ ما وقع ويقع بـ(ما قبل الاحتلال وما بعد الاحتلال)،(قبل السقوط وبعد السقوط)،ونعني به تاريخ إسقاط النظام الصدامي من قبل القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها في 9/4/2003،لأننا نحيا خارج التاريخ، وأن ما جرى ويجري لا يمكن أن يمت بأي صلة إلى عالم ما بعد التكنولوجيا ولا إلى عصر ما بعد الحداثة اللذين تنبأ بهما علماء ومفكرون منذ ما يزيد على ربع القرن.
السنوات، الشهور، الأيام، وحتى الساعات استحالت أحداثا تتلاحق بصورة يصعب ضبطها رقميا أو القبض عليها لإحالتها إلى التحقيق التاريخي أو حتى عرضها على القضاء المنطقي، فصرنا نتعامل بميقاتين فقط :
الأول جمعنا فيه كل شيء كان قبل الاحتلال والثاني رصدنا فيه كل شيء حدث بعد الاحتلال، وصرنا نقارن ونقيس ونزن ونحدد ونقيّم ونرجّح ونحلّل ونسقط ونضيف، على وفق هذين الميقاتين من دون الدخول في تقنيات دوران الأفلاك والكواكب وتعاقبها.
الغزو وما صاحبه من نهب وسلب وسبي وتدمير وتفكيك وتخريب،ما بعد الغزو وما نتج عنه من ثارات وانتقامات وعنف عبثي غير مبرر، وتكريس للطائفية القومية والمذهبية، ولبدع من أمثال المحاصصة،واستيراد لمصطلحات لم تعرفها الدولة العراقية في تاريخها الحديث لأنها لم تكن بحاجة إليها مثل التوافق، وما كرس كل ذلك من استقطابات وتكتلات على حساب المواطنة التي اضمحلت تماما ولم يعد لها وجود يذكر. كل هذا وذاك لا ينتمي إلا إلى عصور البربرية مجردة من شرائعها ودياناتها وفلسفاتها وحتى منطقها الذي حكم قوانينها.
مُسخت حتى بديهيات المنطق، وقلبت قواعد الفقه، وأضحت لها دلالات لا تمت بصلة لمعانيها الحقيقية.
الأصل أن يقتل العراقي..أما أن يحيا، فذلك مجرد استثناء لا يقاس عليه ولا يصلح استدلالا على استمرار الحياة في بلد يفتقر إلى أبسط شروط الحياة والاستقرار.
أن تخلص للعراق..فذلك مندوب أو مستحب في أحسن الحالات، أما الواجب فهو أن (تذبح وتفجر وتقتل وتغتال وتنتقم وتثأر وتغدر وتسرق وتنهب وتدمر وتخرب وتحرق) العراقيين.
وفي كل الأحول فجلب المفاسد والأضرار مقدم على استجلاب المصالح.
أما الدين والسياسة والثقافة والعلم فكلها في خدمة أشخاص وأحزاب وكتل ولصوص وحواة ومافيات وليست لمصلحة البلاد ولا العباد.
ولأن التاريخ الحديث بكل سلبياته وأمراضه لا يسعف في أسس يُستَند عليها لـ(بناء) دولة الخراب و(تطويرها) يصار إلى استجلاب مصطلحات من عصور سحيقة لشرعنة ما يجري ولتبريره ولإراحة (ضمائر) أضنتها الريب فيما تنزع إليه وأتعبتها الشكوك في ما هي فيه.
فلكي يصبح بإمكان أحد أن يقتل بدم بارد وبطمأنينة مطلقة أنه سينال من وراء ذلك إحدى الحسنيين - النصر أو الشهادة- يصار الى تصنيف العراقيين إلى(نواصب) و(روافض)،وأن يسرق وهو على يقين أن ما يسرقه هو سلب وما دام (السلب للسالب) ndash; مبدأ حربي قديم - فان ذلك مشروع،من أجل ذلك تستعاد اللحظات الأكثر انحطاطا في التاريخ لشحن الرعاع والغوغاء والدهماء والمتخلفين وذوي العاهات الفكرية،بجرعات عالية من الإثارة و(إحياء) ذلك في نفوسهم كلما لاحظوا أن نارها خبت فيغرق الشارع العراقي بالتبريرات البلهاء التي يدفع ثمنها الأبرياء من دمائهم ومن أمنهم واستقرارهم.
أميركا في عمل دؤوب ومستمر و(متجدد) لإعادة إنتاج القوة كلما أحست أنها بحاجة لا إلى الاقتصاد في استخدامها كما هو مبدأ (اندريه بوفر) الاستراتيجي فيquot;quot;ما العملquot; إنما بحاجة إلى التلويح بها، بل واستخدامها حين لا يجدي التلويح كما هو الحال في مواجهة إيران وسورية.
أما أولئك الذين يستخدمون الديمقراطية أداة حديثة للانقلاب والوصول إلى السلطة بدلا من الدبابة التي تجاوزها الزمن باعتبارها أداة متخلفة، فهم منشغلون هذه الأيام بإعادة إنتاج الخوف تمهيدا لحلولية أيديولوجية شمولية من نوع آخر غير تلك التي أسقطت، وتلازما مع القوة الأمريكية التي يعاد إنتاجها باستمرار.
أميركا تريد أن تنسحب تكتيكيا من العراق.أي.. تريد أن تبقى خارج الشوارع العراقية،داخل قواعدها على أطراف المدن العراقية. ومن أجل تحقيق هذا الهدف لا بد من تدريب جيش وشرطة عراقيين تدريبا عالي الكفاءة ليكونا على استعداد كاف لحرب الإرهابيين والتكفيريين الذين استدرجتهم إلى الساحة العراقية-حسب الرئيس بوش ذات تصريح- ولم يكن لهم وجود في العراق قبل ذلك، وآخرين ما كان لهم أن يكونوا لولاها ولولا قرارات الحاكم المدني سيئ الصيت بول بريمر الذي سمح لهم بالتسلل عبر الحدود المستباحة نتيجة الحماقة التي ارتكبها في إيجاد الفراغ العسكري والأمني حين حل القوات المسلحة العراقية ذات الخبرة والكفاءة العاليتين، وبالمقابل..يسعى المعارضون للعملية السياسية والخارجون على النظام إلى إفشال المخطط الأمريكي باستهداف الجيش والشرطة العراقيين، وهم بذلك يستهدفون عراقيين دما وروحا.
كان واضحا منذ البداية أن قرار حل القوات المسلحة العراقية وقانون اجتثاث البعث قد ساهما مساهمة مباشرة في ردة فعل من قبل المتضررين من القرار والقانون وبالتالي تدهور الوضع الأمني وتداعياته التي أدت إلى ما نحن فيه اليوم.كان من الممكن ان يكون قانون اجتثاث البعث قضائيا لكنه تحول الى قانون سياسي.
الكيانات السياسية العراقية هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل، ولهذا فهي غير قادرة على انجاز مشروع المصالحة الوطنية،لأنها، ببساطة شديدة، الخصمُ والحكمُ.
فماذا تبقى لقائل أن يقول سوى الحوقلة والاسترجاع!؟
بينما بقيت للزاعقين كل هذه الديماغوغية الوعظية الإنشائية الركيكة التي تتردد في جنبات المنطقة الخضراء يخاطبون بها الجمهور الذي مل سماعها،وتلك الوعود الزائفة التي استعادوها مرات ومرات وهم أول من يعلم جيدا أنها لن تتحقق بسبب الظرف الموضوعي المعاكس وبسبب عدم مقدرتهم هم على توفير شروط قيام ظرف موضوعي مناسب!!