أقرأ لغادة السمان منذ كنت طفلة، وأعشق حرفها مثل أي علاقة حب كيميائية لا تستطيع تفسيرها، أقرأ وأعيد قراءة كتبها التي تجاوزت الأربعين كتابا ومقالاتها الأسبوعية في الحوادث، واذا كنت قد تأثرت بها فأتصور أنني تأثرت بها بحدود أن علمتني أن أثق بصوتي الخاص وأن أثق بما تراه عيني الجديدة والتي قد تختلف عن السائد وأن لا أخاف من التعبير عن نفسي، والأهم من ذلك في تأثيرها علي في أن الكتابة عمل مؤثر ويستحق العناء ولو استطعت ايصال صوتك لشخص واحد في هذا الكون فالكتابة تستحق.
قرأت لغادة كثيرا وأشعر أنها تسبح في دورتي الدموية الا أنني لم أرها أمامي ككائن حي يتحدث ولم أسمع صوتها ولم أعرف من شكلها سوى الصور الصغيرة التي تضعها في الغلاف الخارجي
لكتبها وهي صور تعبر عن أنثى لم تسئ فهم التحرر وكان يلفت نظري كثيرا طلاء الأظافر الذي يظهر في الصور ولونه أحمر بنقاط بيض لم أره الا على غادة.
حاولت كثيرا الاتصال بكبارمقدمي البرامج الحوارية وكلهم أكدوا لي حقيقة واحدة:أنها لم ولن تظهر على التلفزيون وأنهم عرضوا عليها ذلك كثيرا ورفضت، وتطوع البعض في تأويل هذا الرفض الى أنه رغبة منها في المحافظة على صورتها الشابة في ذاكرة القارئ وهناك من همز ولمز الى أنها (ختيرت )بسبب ممارسات حياتها الخاطئة وغير ذلك من التأويلات التي كدت أصدقها.
الشهر الماضي كنت في جنيف وكنت في ذلك اليوم اريد أن أتوجه الى محطة القطارالمجاورة لقطع تذاكر تأخذني الى باريس، وكنت أمني نفسي أن أراها مصادفة في باريس حيث تقيم، فهل سأراها وهي تشتري الصحف في الشانزايليزيه؟أم أراها وهي تجلس أمام نهر السين تكتب قصائدها؟أو ربما أقبض عليها وهي تتأمل الوجوه في مقهى في السان جيرمان؟
كنت على وشك الخروج من الفندق الذي أنزل به باتجاه محطة القطار وشاهدت سيدة أنيقة (شيك )تقف مع رجل لعله زوجها ويقرآن سويا قائمة الطعام المعلقة خارج الفندق، لفت نظري في البداية لهجتها السورية التي تقول أنها لما تغادر قريتها( الشامية) بعد، ثم لفت نظري النظارة السوداء التي تظهر كثيرا في صورها نظرت الى يديها وجدت (المانيكير) الأحمر المنقط الذي لمحته كثيرا في صورها، نظرت اليها وصرخت:quot;مش معقول انت غادة؟quot;ردت علي بغنج وبكذبها الصادق:quot;شو غادة؟أنا بس باشبهها quot;قلت لها quot;انت غادة quot;فعشرة أربعين كتابا هي أقوى من عشرة أربعين عاما، ورباط الحبر يكون في كثير من الأحيان أقوى من رباط الدم، عرفتها بنفسي وكانت المفاجأة أنها احتضنتني وأخذتني الى زوجها بشير الداعوق لتعرفني به، قلت لها بدهشة:تعرفينني؟فقالت لي:انت قبضاية بتكتبي كتير منيح.
أخبرتني أنها هي وزوجها يحتفلان اليوم بعيد زواجهم الثامن والثلاثين، وأنها ستصدر قريبا كتابا بعنوان quot;أيام الحب والياسمين quot;، وكان زوجها يبتسم وهو الذي دعمها في كل خطواتها وربما من الأشياء التي لم يلتفت اليها الكثيرون أن كتاب (رسائل غسان كنفاني لغادة السمان ) قد تم نشره من قبل دار الطليعة التي يملكها بشير الداعوق، ضاربا بعرض الحائط كل المقولات الجاهزة والنظرة التقليدية التي قد تصاحب مثل هذه الخطوة الجريئة مقدما الدعم لزوجته والحقيقة ومؤسسا لأدب الرسائل في خطوة نادرا ما نراها من رجل شرقي.
تذكرت الذين حاولوا تأويل عزوف غادة عن الظهور الى تأويلات مختلفة ورفضوا أن يأخذوا التفسير البسيط أن غادة كاتبة وquot;مهمة الكاتب أن يقرأ فقط لا أن يرى أو يسمع quot;، ولو أنها شغلت نفسها بالمنابر وكاميرات التلفزيون والنجومية هل كانت أنتجت كل هذه الكتب وفي نفس الوقت كانت ستحتفل مع زوجها بعيدهم الثامن والثلاثين؟
كنت سعيدة جدا بهذه المصادفة الجميلة واللقاء الحلم ولم يكن أمامي سوى ابني الذي حكيت له القصة فقال لي:quot;كل هذي الفرحة عشان شفتي كاتية -سو وات؟-quot;لم أعرف كيف أقرب له الفكرة وهو
التشيلساوي المتعصب، وعاشق هذا الفريق الانجليزي قلت له:تخيل أنك تسير الآن في الشارع ثم يظهر أمامك فجأة لامبارد أو دروغبا ماذا سيكون شعورك؟
هناك برقت عينا طفلي ونظر الي بحسد وقال لي:quot;ماما يا حظك quot;.
ريم الصالح
[email protected]
التعليقات