شبح الثورة البروليتارية الذي رآه ماركس يحوم في سماء أوروبا قبل مائة وستين عاماً لم ينزل إلى الأرض إلا في مؤتمر الأممية الثالثة (الكومنتيرن) المنعقد في موسكو عام 1919. كان البلاشفة آنذاك قد قضوا على قوى الثورة المضادة التي قامت بها البورجوازية والرجعية بكل أطيافهما في مارس آذار 1918 وانسدت تبعاً لذلك كل آفاق التنمية البورجوازية فكان أن نادى البلاشفة كل قوى الإشتراكية في العالم لتشكيل أحزابها الشيوعية توطئة لإنجاز الثورة الإشتراكية العالمية التي لا تكتمل حكماً إلا بتفكيك النظام الرأسمالي العالمي. منذ اليوم الأول لانتفاضة أكتوبر واجه البلاشفة بقيادة لينين خيار الاشتراكية أو الفناء، وألح هذا الخيار عليهم حتى واجهوا العدوان النازي على الإتحاد السوفياتي وقضوا على المعتدين على غير توقع الإمبرياليين في بريطانيا والولايات المتحدة.


بعد أن خرج الإتحاد السوفياتي من الحرب عام 1945 كأقوى قوة في الأرض وانهارت أمام النازي أكبر إمبراطوريتين استعماريتين هما بريطانيا وفرنسا، بعد ذلك ونتيجة لذلك نهضت قوى ثورة التحرر الوطني في طول العالم وعرضه تطالب بالحرية وبالاستقلال وهو ما يعمل بالنتيجة على تفكيك النظام الرأسمالي العالمي وبالتالي استكمال ثورة البروليتاريا الاشتراكية في العالم كله. المسألة الجوهرية في هذا الشأن هي الوحدة العضوية للثورة بوجهيها الإشتراكي من جهة والوطني quot; البورجوازي quot; من جهة أخرى، تلك الوحدة العضوية التي أدركها لينين في وقت مبكر وأكد عليها لزعماء وقادة الثورة الوطنية في الشرق المجتمعين في باكو عاصمة جمهورية أذربيجان في أيلول سبتمبر 1920. لذلك لا مندوحة من اعتبار موسكو مركزاً للثورة العالمية بوجهيها، الإشتراكي والوطني، وما التخرص بتبعية الشيوعيين لموسكو سوى رفض مبطن لمبدأ الوحدة العضوية للثورة التي وفقها لم يكن الشيوعيون وحدهم هم فقط تابعون لموسكو بل الوطنيون والقوميون أيضاً كانوا تابعين لموسكو فكانوا سرعان ما يستنجدون بموسكو كلما واجهوا الإمبريالية وجهاً لوجه. لم يكن هناك من ثورة على الإطلاق بدون موسكو؛ وليس أدل على ذلك من أحوال العالم اليوم حيث لا ثورة اشتراكية ولا ثورة وطنية، لا حرية ولا استقلال. فاليوم لم تعد موسكو مركزاً للثورة.


ما يهمنا اليوم من إعادة التأكيد على مثل هذه الحقيقة، الوحدة العضوية للثورة، التي لم يكن يعترف بها البورجوازيون والانهزاميون وأعداء الثورة، الوحدة التي طعن بها خروشتشوف وأيتامه، هو الإدراك الحقيقي والموضوعي لحملات النقد والنقد الذاتي المتعاظمة اليوم بغير سبب والتي لا تصل إلى نتيجة وغالباً ما يكون وراءها أهداف بورجوازية وذاتية مدانة. وأمثلة ذلك كثيرة فبقايا الشيوعيين من أيتام خروشتشوف وهم، هم أنفسهم، من تسبب بانهيار المعسكر الإشتراكي يدبجون اليوم بيانات كاذبة من النقد الذاتي كقولهم بأنهم لم يكونوا يحترمون الأديان وكان ذلك خطأً جسيماً، كما أنهم لم يكونوا يقدرون الوازع القومي لدى الأفراد والجماعات ويؤكدون على أنهم اليوم باتوا يصلون لله ويرفعون شعارات قومية وحتى عنصرية. كل ذلك من أجل قبولهم من قبل المتأسلمين والقوميين الذين بدورهم لا يقصرون في النقد الذاتي الكاذب. هؤلاء وأولئك ينادون إلى التآلف فيما بينهم لاستعادة قوى شعبية ثورية كانوا فقدوها دون أن يعلموا أنهم لن يستعيدوا أية قوى وذلك لأن موسكو لم تعد مركزاً للثورة، تلك الثورة التي كان قد أشعلها البلاشفة بقيادة لينين.


لسنا نهدف هنا إلى تثبيط همم هؤلاء المنادين إلى التآلف لاستعادة قوى كانوا فقدوها نهائياً، بالرغم من أن ذلك ليس خطأً إذ قد يساعد في ألاّ يضلّوا ويضللوا الناس معهم؛ إنما هدفنا الأول هو المساعدة في أن يدرك هؤلاء وغيرهم من الذين استمرؤوا النقد والنقد الذاتي، أو الأحرى من الذين استرخصوا النقد والنقد الذاتي، أن العلة القاتلة التي قتلت الثورة لم تكن أبداً في أطراف الثورة سواء كانت هذه الأطراف شيوعية أم قومية أم وطنية أم غير ذلك وحتى لو اختزنت هذه الأطراف كل العلل واقترفت كل الأخطاء والخطايا وذلك بكل بساطة لأن الأطراف غير قادرة أبداً على قتل الثورة. إنها أطراف تابعة شاءت ذلك أم أبت، أعلنت ذلك أم لم تعلن. العلة القاتلة كانت في المركز، مركز الثورة، موسكو. البعض يقول أن الحزب الشيوعي العراقي إقترف أخطاء قاتلة والبعض الآخر ينسب أخطاء حدية للحزب الشيوعي السوري لكن ليس هناك من قال أن الحزب الشيوعي المصري أو الأردني إقترف أخطاء ذات بال ومع ذلك يعاني كل من الحزبين من ضعف وسقام قاتلين. وهل كان سيظهر في العراق وسوريا حكام طغاة من صغار العسكر لو ظل المد الثوري متصاعداً بعد وفاة ستالين مثلما تصاعد طيلة قيادته مركز الثورة، الحزب الشيوعي البولشفي في الإتحاد السوفياتي (1922 ـ 1953)؟


جاءتنا العلة من موسكو. في خمسينيات القرن الماضي استطاعت الطبقة الوسطى الروسية المتمكنة بصورة رئيسية من القيادة العسكرية ومجمع الصناعات العسكرية وبوساطة رجالها المتعاونين في الحزب وأولهم نيكيتا خروشتشوف، استطاعت تفتيت قوة الحزب حتى انتهى الأمر إلى طرد جميع البلاشفة، رفاق لينين وستالين، من المكتب السياسي في حزيران 1957. أولئك الذين يدّعون أن الإتحاد السوفياتي قد انهزم في حربه الباردة مع الولايات المتحدة الأميركية إنما هم أعداء للبروليتاريا وللإشتراكية يغطون أحقادهم ببعض الأفكار السقيمة. فليس الولايات المتحدة من أصدر تعليمات للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي تقضي بطرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي للحزب. ليس لدينا أدنى شك في أن السياسات الأميركية المعادية للإتحاد السوفياتي شوّشت على أعمال ونشاطات أعداء الإشتراكية داخل الإتحاد السوفياتي وأطالت بالتالي من عمر المشروع اللينيني حتى العام 1991 وإلا لكان انهار في السبعينيات أثناء ولاية مسوّق الأسلحة ورجل العسكر الأمين بريجينيف (1964 ـ 1980). لم يكن انهيار المجتمعات الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي والبلدان الإشتراكية الأخرى سوى النتيجة الحتمية لصراع طبقي ظل محتدما منذ اليوم الأول لانتفاضة أكتوبر 1917. كان على دولة دكتاتورية البروليتاريا أن تستخدم الطبقة الوسطى في روسيا من أجل تنفيذ خطط التنمية الكثيفة الأمر الذي انعكس مباشرة في نمو هذه الطبقة عمقاً وعرضاً بمثل ما تنامت الطبقة العاملة. ثم جاءت الحرب الوطنية (1941 ـ 1945) لتزيد من قوة الطبقة الوسطى وخاصة في شرائحها العسكرية. حققت الطبقة الوسطى أول انتصاراتها على الطبقة العاملة بوصول خروشتشوف إلى قيادة الإتحاد السوفياتي كأمين عام للحزب الشيوعي بدلاً عن مالنكوف وحسمت المعركة في الإنقلاب العسكري على خروشتشوف نفسه وإزاحته من كافة مراكزه. كان لهذا الحصان الغبي، خروشتشوف، دور أساسي في انهيار المشروع اللينيني. المرض الفتاك الذي ما زالت تعاني منه الحركة الشيوعية، ولربما لأمد طويل قادم، هو أن حصان الطبقة الوسطى الغبي لجأ للتطاول على ستالين وعلى لينين لإخفاء غبائه، فقال بخطأ عبادة الفرد وبخطأ تقديس النص، فارتفعت المعاول بحجة تصحيح هذين الخطأين quot; البريئين quot; ظاهرياً، تنقض كل البناء العالي الذي وصله المشروع اللينيني. أيتام خروشتشوف ما زالوا يجترون بغباء لا مثيل له أقوال عرّابهم بالرغم من عظم المأساة الإنسانية التي تسبب بها. هؤلاء الأيتام يفوقون عرّابهم خروشتشوف غباء. كل النجاحات التي حققها المشروع اللينيني وقد فاقت كل المقاييس والتوقعات إنما كانت أساساً بسبب القراءة الصحيحة التي قام بها لينين لماركس، ثم القراءة الصحيحة التي قام بها ستالين للينين. لقد تعالى لهيب الثورة الإشتراكية العالمية حتى حدوده القصوى في خمسينيات القرن الماضي قبل مجيء خروشتشوف ومع ذلك يتواقح أيتام خروشتشوف فيقولوا: كان الشيوعيون يعبدون الفرد ويقدسون النصوص، فهل كان ونستون تشرتشل يصل لمثل هذه الحدود من الوقاحة؟! لئن كانت عبادة الفرد وتقديس النصوص هما ما يفكك النظام الرأسمالي ويضع المجتمعات على طريق عبور الإشتراكية، كما كان الأمر في خمسينيات القرن الماضي، فليس أبدع من تلك العبادة وذلك التقديس!!

الأزمة التي يعاني منها الذين ما زالوا يحملون راية الماركسية تتمثل بخطابهم الخشبي الذي تعكسه رؤاهم للقوى الفاعلة على الساحة الدولية التي تشكلت لديهم في خمسينيات القرن المنصرم ولكأن العالم لا يتطور ولا يتبدل خلال ستين عاماً حبلى بالأحداث. قبل انتهاء الخمسينات من القرن الماضي ظهرت في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي قيادة مختلفة تستنكر كل تاريخ الإتحاد السوفياتي الذي قاد الثورة الإشتراكية العالمية بنجاح فائق. انحرفت تلك القيادة عن الخط اللينيني ودفعت بالمعسكر الإشتراكي إلى الشلل ثم الإنهيار، وهو ما رتب على العالم أن يقلب الصفحة ويخسر كل ما تحقق على طريق الثورة الإشتراكية.

والتغيير الآخر الذي لا يقل أهمية عن انهيار المعسكر الإشتراكي هو انهيار المعسكر الرأسمالي. لم ينهر المعسكر الرأسمالي بسبب غباء قياداته وليس بسبب تناقضاته الداخلية مثلما حدث في المعسكر الإشتراكي وفي الإتحاد السوفياتي بشكل خاص، بل انهار بسبب الأزمة الخانقة التي أمسكت به في العام 1971 وجرجرته حتى العام 1975 حين انعقد مؤتمر رامبوييه (G5) وقرر الأساطين الخمسة للنظام الرأسمالي تجرّع السم القاتل البطيء والمسمى زوراً بالإقتصاد الإستهلاكي (consumerism) وتحولت الدول الصناعية الأغنى في العالم من دول إمبريالية تصدر البضائع ورؤوس الأموال إلى خارج حدودها القومية إلى دول إستهلاكية غير إمبريالية (un-imperialist) تستورد البضائع ورؤوس الأموال من الخارج وذلك من خلال عملاتها المكفولة القيمة في أسواق النقد العالمية، مكفولة بقوة السلاح فقط وليس بقوة الثروة والإنتاج. وبذلك أصبحت الولايات المتحدة الأميركية أكبر مستورد للبضائع المختلفة ولرؤوس الأموال الأجنبية.

مع كل ذلك ما زال ممتهنو السياسة والذين نسوا أو تناسوا ماركس يدبجون النظريات ويخططون السياسات لمواجهة الإمبريالية الأميركية والمشروع الأميركي الإمبريالي في منطقة الشرق الأوسط. لا أدري إذا ما بلغ بهم الغباء ألاّ يفرقوا بين مواجهة الولايات المتحدة الإمبريالية والولايات المتحدة غير الإمبريالية كما هو حالها اليوم. على هؤلاء من ممتهني السياسة المتخلفين أن يعلموا بأن قادة الولايات المتحدة لن يقبلوا بحال من الأحوال أن يكونوا إمبرياليين الأمر الذي يعني بالضرورة أن تعود الولايات المتحدة لأن تكون مصدرة للبضائع ولرؤوس الأموال بينما اقتصادها اليوم يقصر عن تلبية إحتياجات شعب الولايات المتحد بما يساوي أكثر من ملياري دولار يومياً كما أنها مدينة بما مجموعه 44 تريليوناً من الدولارات. إنها لا تستطيع أن تكون إمبريالية ولا تقبل أن يكون لها مشاريع في الشرق الأوسط غير الفوضى الخلاقة التي تعني مباشرة غياب كل مشروع من أجل أن تقوم القوى الحقيقية في المجتمع باستلام السلطة وهو ما يعني الديموقراطية بجوهرها.

لكن هل يعني هذا السماح للصوص بسرقة البيت ؟! لعلنا نتعرض لهذه المسألة في المستقبل، ونأمل أن يسبقنا لهذا آخرون.

فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01