في كتابه (مكانة تحت الشمس) يرسم (بنيامين ناتانياهو، رئيس وزراء اسرائيل الأسبق) هلوسة وجهل الجمع الشرقي، في ايمانه واعتقاده وتصوره، على شاكلة عبّاد بقرة هندوس المقدسة. يقول السيد ناتانياهو ( إن أولى ضحايا حرب الخليج الثانية لم تكن من البشر، إنما كانت من الأبقار، الأبقارـ المسلّمات المقدسة)!
في تفسير رسمه يشير الكاتب أن الشرقيين بصورة عامة تعودوا على عبادة مجموعة مسلّمات مقدسة منها ـ وفق تعبيره ـ أن كلّ ما يجري في العالم وبصورة أخص في منطقة الشرق وراءه اسرائيل!
صدر الكتاب قبل إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بوقت طويل. ولو كان الكتاب صادراً بعد ذلك لكان تحتم على الكاتب إضافة صورة جديدة الى المقدس الفوقاني، فوق البحث والنقاش، ألا وهي اللافتة الأكثر عرضاً ـ اليوم ـ عند (العراقيين)، أن صدام حسين والبعث وراء كل كوارث العراق!
إن التفكير قبل الحديث وقبل الكتابة أمرٌ ضروري ومن أخص خصائص الإنسان الواعي المثقف.
أن يُقال، اننا نبيّض أو نبرر صورة النظام السابق في العراق، أو ما الى ذلك من حديث هابط، الذي نترفع الوقوف عنده، لولا أن الأمر يتكرر لدى كل مقال، في اجتماع أضداد، من المستحيل قيامته لدى شخص واحد وفي وقت واحد، لما عرجنا لنعلق.
ألا يسأل القائل لماذا نقوم بمهمة التبييض والتبرير؟ هل هذا واقع ضمن مجال عملنا أو من مهامنا، أو مصالحنا؟!
حين كتبنا ننقد فساد السلطة الكُردية لم يتورع الكثير من عبدة المسلّمات المقدسة اتهامنا بالشوفينية العربية والبعثية وما الى ذلك. وحين كتبنا عن فضاوة ما يسمى بالمشروع الاسلامي لدى الحركات الاسلامية، ساق الكثيرون هنا وهناك اتهامنا بالعَلمانية ومعاداة الاسلام والعمالة للغرب والصهيونية! وفي طرحنا للخلفية الحضارية المشتركة لدى شعوبنا قام البعض يتهمنا بالتطرف الاسلامي وما الى ذلك. وهكذا وفي كل مقال وشأن، تقوم فئة بضرب الطبول حتى يقدِم شأن آخر فتقوم فئة أخرى لتستلم الدورفتضرب طبول الاتهام والنعوت! ما العلّة؟!
المجتمع الشرقي منقسم بحدة بالغة. وفي تجلياتها، تبدو صورة المجتمعات الشرقية مثل عصابات كثيرة، تتميز كل جماعة عن الأخرى بمظهر شديد الغلظة في بروزه عمداً، من أجل التميّز!، فتخرج من كل حدب وصوب لتلتقي في ساحة نزاع وصِدام، في ممارسة الوجود بمفاهيم مطلقة تفصل الحياة الى الأبيض والأسود والأنا الخيّر والآخر الشر، دون احالتها ـ المفاهيم ـ الى غرفة المعاينة والفحص الصحيين.
كل جماعة لها مفاهيمها وألوانها وتوزيعاتها. وفي واقع كهذا على الكاتب أن يختار انتمائه وهويته الى الجماعة، أي لا يمكن قبول منطقة ثالثة وسطى، منطقة محايدة، تُعاين وتتفحص دون موالاة أو معاداة.
هكذا كان شأن القراء مع مقالي الأخير حول الموضوع، وشأن السيد عاطف العزي في مقاله الذي عقب فيه على ما طرحته في ثنايا المقال من حقائق مقلقة.
في وقت مبكر جداً كنت أتتلمذ في دراسة التراث الاسلامي عبر كتب صفراء قديمة، تتميز بوجود الحواشي حول متونها، صفحة بعد صفحة في تفسير وشرح لكل سطرٍ ومعنى.
بالطبع كان الجهل منتشراً في ما مضى والعلم لم يكن متوفراً كما هو اليوم، فاستدعى وجود الحواشي الشارحة، لكن المفارقة أن نسبة الاحتياج الى ذلك لم تتغير من الاسلاف الى الاخلاف، بل الافتقار الى الحواشي أكثر شدة في وقتنا الحاضر. نحتاج اليوم الى وضع الحواشي على السطور لكي يُفهم المعنى المراد، دون تزييف وتزوير!
هذا المقال بمثابة حاشية كبيرة على مقال سابق أو عدة مقالات نُشرت على ايلاف.
ما أقلق ويقلق البعض إزاء مقالنا السابق ليس أننا نبرر جرائم نظام البعث في العراق ولا تجميل صورة صدام حسين، ولا إنكار المصائب التي حلّت بالعراق في ظل العهود السابقة.
كلّا! فذلك كلّه غير متوفر في المقال، ولا هي بمهمة كاتبه ومن أهوائه.
المقال فتح مكامن القلق لدى البعض، لأننا وضحنا قليلاً الأصول التاريخية، للقضايا والأحداث التي، موضوعياً، لا تحصر الجرائم بنظام معين أو فئة دون أخرى، بل تجد على الدوام شركاء كثيرين مختفين وظاهرين، في لعب أدوار متنوعة في صناعة التاريخ وجريان الأحداث. التراكم التاريخي في اي منطقة يشير جوهرياً الى تعدد الجهات في صناعة المكان والزمان.
إن القلق الكبير في الحديث بموضوعية عن مراحل تاريخ العراق، يصبح ملازماً للكثيرين، ممن يفتخرون بانتماء معين على الصعيد المذهبي، المشترك مع هوية دولة مجاورة، بغلظة تأريخية تمارس إقصاءً متسلسلاً لكينونات أخرى كما سنتطرق اليه لاحقاً، وفي مقالات أخرى.
إذن الغضب من المقال لم يكن بسسب الدفاع عن صدام حسين، الذي نريد ان نعرفه على حقيقته، ولكن بسبب فضح العنفوان المقام على أكتاف كينونة مجاورة للبلد، تضرم النار في الهشيم. وكشف المقال حقيقة أولئك الذين يحولون العراق الى جحيم. وعليه فإن الدفاع المبطن لدى الناقمين لم يكن لاثبات أن صدام حسين مجرم. فلا أحد ينكر كون صدام دكتاتوراً ظالماً.
كلّا. إنما كان الدفاع عن المجرمين بعده، الذين لا يقلّون اجراماً من صدام حسين. وكان دفاعاً يائساًً لإنكار أن فئة مذهبية معينة متورطة في جرائم إبادة جماعية بمساندة دولة مجاورة. هل لنا أن نسأل عن عدد اللاجئين العراقيين في الأربعة أعوام الأخيرة؟
في كُردستان وحدها يبلغ عدد اللاجئين العرب السنّة مائة وخمسون الفاً. وقد سمعت منهم حوادث يشيب لها الولدان. هناك من يدافع عن مجرمين حاليين بالهجوم الهيستيري على صدام حسين. لا بأس عرفنا أنه مجرم وماذا عن إيران؟ ماذا عن ميليشيات الموت التي توزع طقس الجحيم في أجواء العراق؟! إن وضع اسباب الكارثة كلّها على كاهل البعثيين والوهابيين والقاعديين فضلاً عن كونه بعيداً عن الحقيقة، فهو ايضاً شعور مذهبي شديد الخطورة يستمد حقده وغضبه من تأريخ طويل يمتد الى قرون!
تلك حيلة لن تنطلي على الباحثين الراشدين. هذا ما يخص تلك الجهة من العراق.
أما ما يتعلق بالأكراد وردة فعلهم، وما أكثرها عندهم وعند غيرهم، فمشترك في القلق المذكور بتفاوت. فالأمر حزينٌ جداً إذا نبشنا صفحات الأحداث الأليمة التي حلّت بالشعب الكُردي. وما ناله الأكراد من ويل بيد أحزابهم القومية قد يفوق ما نالوه من أنظمة معادية لهم قومياً ووطنياً. ليس من مصلحة الأحزاب الكُردية ان يذهب أحدنا وراء تقصي الحقائق أيام كانت تعيش ضراوة القتال في ما بينها، وهي تتحالف مع دولة مجاورة عسكرياً ضد نظام يُعرف عنه مسبقاً مدى قساوته ووحشيته في ممارسة الانتقام والبطش. وألحديث يغدو أكثر مأساة إذا تصفحنا تاريخ الأحزاب الكُردية صفحة صفحة!
لم أتطرق الى الحديث عن حقانيّة إعدام صدام حسين ولا الأمر من اختصاصنا أو من مهامنا.
إن إحدى مصائب الانسان الشرقي في العموم أنه يمارس مهاماً ليست من شأنه، فيحكم في القضاء، ويطلق الأوهام في السياسة حقائق، ويمارس أي دور شاء وأنّى. قلنا باختصار أن المحكمة لم تكن عادلة على الاطلاق. والدليل انسحاب قاضيين أحدهما كُردي وآخر شيعي.
كون صدام وغيره مجرماً لا يبرر تحول القضاء الى اضحوكة في يد الميليشيات والأحزاب.
سمعت بنفسي من القاضي رزكار أمين، الصديق المهذب، كيف ضغطت عليه جماعات دينية ومذهبية في مسألة المحاكمة، وهي لا تمت بصلة الى عالم القضاء!
ليس غريباً أن يحتطب العراقييون من أشجارهم وخضارهم للتدفئة في شتاءاتهم القاسية، وهم قاعدون على بحار البترول! في الوقت الذي تسرق ميليشيات دينية، ثلاثمائة مليون دولار من نفط البصرة شهرياً، باعتراف السيد برهم صالح نائب رئيس الوزراء! لأن العقلية التي تستحكم بالأغلبية هي عقلية الاستيلاب والاستتباع الغارق في لا عقلانية مفرطة.
غياب العقل بالضبط هو الكارثة الكبرى في حياة العراقيين، لذلك فالمجال ضيق للحديث معهم بعقلانية وهدوء وهم محكومون بفضاءات الشمولية القاتلة.
جرائم صدام لا تبرر انحطاط القضاء. فمهما عظم الجرم، لن ينزل القضاء دركاً يتحول فيه الى مطية للجماعات السياسية والفئات المسلحة. وإذا كان اي مجرم مستحقاً لعقوبة الاعدام بالاجماع العام فلا حاجة للقضاء وتضييع الوقت، إلا إذا كانت رغبة جامحة تهوي تحويل القضاء ألعوبة لها في غمار التمتع بشهوة القوة.
في مقال سابق (القاضي عبدالرحمن رشيد ومحاكمة صدام حسين)، أغسطس العام الماضي نُشر على ايلاف، حول محاكمة الرجل تحدثنا أن إعدامه كانت صفقة، منها إعدام الأسرار التي هي الأهم من جسد رجل كهل، لا يعوض أضرار المتضررين، حتى ولو أعدم سبعين مرّة.
بعد ستة أشهر من مقالنا أدرك أحد قادة الأكراد أمر ذلك وأعلن ضمناً إحباطه، لأن الأسرار أعدمت، حيث كان هناك شركاء في الجرائم، بصفقات سياسية منها معلومة ومنها قيد المجهول.
هناك اليوم محاولات شديدة الخطورة من قبل فئات لا تمت بصلة الى الديموقراطية وحقوق الانسان، تحاول صد الباحثين عن الحقيقة على شاكلة الصراخ والفوضى التي كان يقيمها عبّاد الأصنام لدى إلقاء محمد وصحبه بياناتهم وتعاليمهم.
هناك اليوم من لا علاقة له البتة بمبادئ الديموقراطية والليبرالية ولا حتى يؤمن بها، لكنه تحت جناحيهما، وفي عرض مزيف وتهريجي، يأتي ويتهم الباحث المستقل بمسميات شتى كالشوفينية وعبادة الدكتاتور وما الى ذلك من لغو.
كون صدام حسين كان دكتاتوراً ومجرماً لا يقلّ قيد شعرة من كون الحكومة العراقية الحالية دكتاتورية ومجرمة على درجة أكثر خطورة. وهو كذلك لا يمنعنا من أن نعرف دولة مثل إيران على أي أرضية تقوم، وأي منهاج تقيم!
بعنوان (العراق: المعارضة لا تقل دكتاتورية من النظام، جريدة النهار اللبنانية العدد 20487 الاربعاء 27 تشرين الأول 1999) كتبتُ عن الحكومة العراقية الحالية، أثناء كانت في صفوف المعارضة، من موقع معاين ومتفحص. ولا أرى ضيراً في اقتباس فقرات وجيزة من المقال للقراء الكرام.
quot; لماذا الاستعجال باسقاط النظام إن لم تكن هناك آليات وصيغ لتوحيد المعارضة في شكل منهجي ومدروسquot; و quot; هل هناك رغبة مبكرة في صوملة العراق؟! يبدو أن الاشكال والأزمة ليسا في وجود نظام دكتاتوري بشع في العراق فحسب بل في وجود معارضة لا تقل دكتاتورية عن النظام نفسهquot;. لذلك quot; فالذين خرجوا من المعارضة العراقية وهم بالالوف قد خبروا فصائلها وأحزابها خرجوا بنتيجة مشتركة مفادها هذا السؤال: إذا سقط صدام حسين فكم صداماً سيقوم في العراق مستقبلاً؟quot;. هذا ما قلته قبل تسعة أعوام وللقارئ مراجعة المصدر للتأكيد.
هذا هو بالضبط ما يزعج الفئويين والمتعصبين، الذين يرون في كشف الحقائق زعزعة قناعاتهم التقديسية النابعة من الولاء المطلق للجماعة، مذهبية كانت أم قومية.
إن جرائم الحكومة العراقية الحالية وميليشياتها ليست بأقل من جرائم نظام البعث. إن جرائم الجمهورية الاسلامية بحق أهل السنة ليست بأقل من جرائم نظام صدام حسين. وجرائم الجماعات الاسلامية والمذهبية سنيّة كانت أم شيعية في العراق ولبنان ومناطق أخرى توازي ما ارتكبه نظام البعث بالاشتراك مع جهات دولية واقليمية ومحلية تريد أن تتبرأ زيفاً و زورا من جرائم النظام السابق.
البحث عن الحقيقة هو مقصد مقالاتي. قد أصيب وأخطئ، لكنني لن أتحول الى آلة عزف للجماعات والأصنام والحكومات. وإن وجدت حسنة منها سأكون أول من يبشر بها العالمين.
علي سيريني
التعليقات