اذا كان بعض منظري وفقهاء القانون الدستوري على صواب في تعريفهم للفيدرالية على انها المرحلة التي يمر من خلالها التكامل السياسي للمجتمع، وانها واحدة من الوسائل الاكثر انتشارا لتعزيز ذلك التكامل، فان ما يجري في العراق الان، من تجاذبات وخلافات وسجالات وجدل حول نوع هذه (الفيدرالية)، يجعلنا في شك مما ذهب اليه اولئك المنظرون والفقهاء. لكن شكنا هذا سرعان ما يتبدد اذا ما تذكرنا حقيقة، وهي ان فقهاء القانون الدستوري استندوا في تحليلاتهم واستنتاجاتهم تلك الى دساتير واقعية وتجربة لدوّل تشكلت من كيانات متفرقة، وبعد مرحلة انتقالية وضع خلالها الاساس لبناء دولة كاملة السيادة اولا، وليس الى دستور يؤسس لشكل جديد لم يألفه تاريخ التطوّر الدستوري للبلدان الفيدرالية. من هنا الضرورة القصوى لدراسة تجربة البدان الفيدرالية المختلفة في بناء التكامل السياسي بين مكوّناتها (اقاليمها)، بهدف التاسيس السليم للدولة الاتحادية.


ان واحدة من المميزات الجوهرية للدولة الفيدرالية هي انصهار مكوناتها المختلفة في اطار واحد يحدد لها اطرا معينة للتعامل، سواءا مع مركز الدولة او مع مثيلاتها من المكوّنات الاخرى (الجمهوريات، الاقاليم، الولايات، الدوائر، الكانتونات، الاراضي....الخ). فبخلاف الدوّل المنظّمة للاتحاد الكونفدرالي، تفتقر اطراف الفيدرالية الى السيادة الكاملة على اراضيها، ذلك انها تنازلت طوعا، في اغلب الاحيان، عن استقلالها السياسي الى مركز واحد يعتبر الحامل لسيادة الكيان الجديد والمسؤول عن كل ما يخص مكوّناته في داخل البلاد وخارجها. من هنا افتقار اطراف الدولة الفيدرالية الى حق الخروج الكيفي على الاجماع، والانسلاخ عن جسد الدولة، بالاضافة الى عدم تمتعها بحق الدخول كطرف مستقل في العلاقات الدولية. ومن هنا ايضا خلو دساتير البلدان الفيدرالية المعاصرة من حق الانفصال الكيفي، وان تضمن دستور الدولة ذلك الحق فانه (الدستور حدد له آليات من التعقيد بحيث يكون من المتعذر على المكوّن الفيدرالي تفعيله على ارض الواقع (الدستور الاثيوبي)، فيما اجهضت محاولات الانفصال اما بقوة السلاح، كما حدث في سويسرا في عام 1847، وخلال الحرب الاهلية في الولايات المتحدة الامريكية (1861 ndash; 1865)، او عن طريق معالجة الحركات الانفصالية بوسائل السياسية والقانون (رفض حق استقلال ولاية استراليا الغربية عام 1938). ولابد من الاشارة هنا الى ان بعض حالات الانفصال تمت بالفعل. ففي بداية الثلاثينات من القرن التاسع عشر انفصلت فنزويلا عن كلومبيا، اما في عام 1965 فقد تمكنت ولاية سنغافورة من الانسلاخ عن ماليزيا، ولكن في كلتا الحالتين حصل الانفصال في دولتين كانتا من اكثر الدول تخلفا من الناحية الاقتصادية.


ميزة اخرى تتصف بها الدولة الفيدرالية، وهي امتلاك اقاليمها لما يسمى بالسيادة المنقوصة، اي حق تمتعها بادارة شؤونها المحلية وسريان قرارات اجهزة السلطة فيها في نطاق حدودها الادارية، بما في ذلك قواعد دستورها وقوانينها الاخرى ضمن الحدود الجغرافية (الادارية) للاقليم، شريطة ان لا تتعارض مع التشريعات الفيدرالية، خصوصا في مجال الاختصاصات الحصرية للمركز الفيدرالي والاختصاصات المشتركة. غير ان تلك السيادة سرعان ما تنتفي، وتتحوّل الدولة الى شكلها البسيط مع اعتماد اساليب المركزية الصارمة في السياسة، كما في الاقتصاد، في الحالات الاستثنائية والظروف غير الطبيعية، مثل الحرب الاهلية، او تهديدها (مقدمات اندلاع الحرب الاهلية) واعلان الاحكام العرفية وحالة الطوارئ...الخ. وفي جميع الاحوال فان مبدأ علوية التشريعات الفيدرالية يبقى هو السائد، بالاضافة الى سريان التشريعات الفيدرالية على جميع اراضي الدولة دون استثناء. وليس بمقدور الولايات والكانتونات او الاقاليم والمحافظات الحيلولة دون اعتماد التشريع الفيدرالي. ففي الولايات المتحدة الامريكية، عالجت المادة (6) من الدستور حالة التنازع بين القانون الفيدرالاي وتشريعات الولايات حين نصت على quot;ان الدستور الحالي وقوانين الولايات المتحدة الصادرة لتنفيذه، تماما كما جميع المعاهدات المعقودة، والتي ستعقد لاحقا تشكل القوانين العليا في البلاد، وعلى قضاة الاقاليم تنفيذها في حال تضمنت بعض دساتير الولايات وتشريعاتها ما يتعارض مع قواعدهاquot;. ويمكن العثور على مثل هذه القاعدة في المادة (31) من دستور الارجنتين. والمادة (133) من دستور المكسيك، والمادة (16) من دستور فنزويلا، وكذلك في الفقرة (1) من المادة (52) المعدلة عام 1982 من الدستور الكندي. وكما في الولايات المتحدة الامريكية تنظر تشريعات الكثير من البلدان في تشكيل محاكم فيدرالية على اراضي اقاليمها، الامر الذي يعزز نشاط المركز في حسم القضايا الخاصة بتنازع القوانين الفيدرالية مع التشريعات المحلية للولايات.


ولا تمتلك الاقاليم حق اقامة علاقات دولية سياسية، ذلك ان السياسة الخارجية تعتبر واحدة من الاختصاصات الحصرية للسلطات المركزية، ويشكل تجاوز هذا الاختصاص خرقا للسيادة الوطنية وتجاوزا على واحد من اهم مبادئ الدولة. ففي سويسرا،على سبيل المثال، كانت المرة الاخيرة التي قامت بها الكانتونات بعقد اتفاقيات مع دول اجنبية في الاربعينيات من القرن الماضي. ولم تتمتع الولايات الامريكية بهذا الحق منذ الانتقال نهائيا من الكونفيدرالية الى الفيدرالية في الاعوام ( 1781ndash; 1789). ولا يمكن الاعتراف بمكونات الدولة الفيدرالية باعتبارها اطرافا في القانون الدولي، مع ان التجربة الدستورية للكثير من البلدان الفيدرالية شهدت، وما تزال تشهد، حالات اقامة علاقات وابرام معاهدات في اطار ما يسمى بالاتفاقيات الثقافية، والتي تهدف الى التعريف بثقافة المكوّنات القومية وفولوكلورها وارثها الثقافي...الخ، (الاتفاقية الثقافية المعقودة بين محافظة الكيبيك الكندية وفرنسا مثالا). وهنا اجد مناسبا التذكير بان جميع محاولات المحافظة الكندية المذكورة للانفصال عن الدولة الام من خلال استفتاء محلي، بسبب خصوصية المحافظة الثقافية واللغوية، قد باءت بالفشل.


وما زلنا بصدد الحديث عن مبدأ السيادة اجد مناسبا التذكير بان الجدل حول سيادة الاقاليم في الدولة الفيدرالية ظل قائما منذ البدايات الاولى لنشوئها، ليس بين السياسيين والباحثين في مجال الدولة والحق فحسب، وانما في اروقة المحاكم ايضا، حيث قررت المحاكم الاتحادية العليا في دوّل اصبحت الفيدرالية فيها نموذجا رائدا، مثل الولايات المتحدة الامريكية واستراليا وكندا، عدم الاعتراف بسيادة الاقاليم. اما في سويسرا والمكسيك فقد تم تثبيت هذا المبدأ، ولكن بالقدر الذي لا يتعارض مع دستور الدولة الفيدرالية. واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان دساتير الدول المذكورة ذهبت الى اعتبار كل ما يخص سيادة الدولة الاتحادية (العلاقات الخارجية والاقتصاد والجمارك والمكوس والامن والدفاع والصناعات الحربية...وغيره الكثير) من الاختصاصات الحصرية للمركز، يمكننا تصور حجم مبدأ السيادة بالنسبة للاقاليم ومدى شكليته.


اما بخصوص تنظيم اجهزة السلطة في اقاليم الدولة الفيدرالية فليس ثمة فروق جوهرية بينها وبين مثيلاتها على المستوى المركزي، حتى انه يمكننا القول عن ثنائية منظومة اجهزة السلطة كواحدة من السمات المميزة للدولة الفيدرالية، بما في ذلك بالنسبة للبلدان التي لم تتضمن دساتيرها اشارات او شروط لتنظيم اجهزة السلطة على مستوى الاقليم (الولايات المتحدة و استراليا). غير ان البعض من الدساتير ذهب الى اعطاء توصيف كامل لمنظومة اجهزة السلطة في الاقاليم (المكسيك، الارجنتين، البرازيل، كندا) لكن المهم هنا الاشارة الى ان السلطة التنفيذية لاقليم الدولة الفيدرالية تفتقر الى وزارات مثل الخارجية والامن الوطني والدفاع وغيرها، فيما تعتبر الكثير من المديريات والهيئات فروعا لمثيلاتها او امتدادا لاجهزة السلطة المركزية، مع كل ما يترتب على ذلك من الزامية قرارات الاخيرة بالنسبة لفروعها في الاقاليم. وربما يكون من المفيد، ونحن بصدد الحديث عن التشريعات، ان الغالبية العظمى من دساتير مكوّنات الدولة الفيدرالية تكاد تكون صورة نسخ الاصل من الدستور الفيدرالي، مع بعض التغييرات الطفيفة، التي تهدف الى ابراز الخصائص المحلية للمكوّن الفيدرالي (الثقافة واللغة واختصاصات الطرف الحصرية...الخ). ففي سويسرا، على سبيل المثال، تقوم السلطات الفيدرالية بالاشراف المباشر (عمليا) على دساتير الكانتونات. اما في الهند فلم تمنح اي من الولايات حق سن دستور خاص باستثناء ولاية جامو وكشمير. فيما تعتمد الكثير من اطراف الفيدرالية الروسية (الدوائر والمناطق والمناطق ذات الحكم الذاتي...) على وثيقة داخلية تسمى النظام، ذلك ان الجمهوريات وحدها تمتلك حق تشريع واعتماد الدساتير، كقوانين اساسية. وهنا يكون من المفيد التذكير بان بعض القواعد التي احتوتها دساتير جمهوريتا تتارستان وبشكيريا اصبحت فيما بعد من المواضيع التي قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية في روسيا بانها تشكل خرقا للدستور الفيدرالي.


ان سريان التشريعات الفيدرالية على جميع اراضي الدولة وشمولها لاقاليمها كافة تلعب دورا استثنائيا في تطوير وتعزيز التكامل السياسي للدولة الفيدرالية. بالاضافة الى السياسية المالية الموحدة، حيث المركزية المالية معتمدة في جميع البلدان الفيدرالية على الاطلاق. ففي كندا، على سبيل المثال، تم اعتماد مبدأ المركزية في معالجة مصادر الميزانية في الثلاثينات من القرن الماضي. اما في جمهورية المانيا الفيدرالية فمنذ العام 1969 لا تحتفظ اراضي الدولة (اقاليمها) الا بالنزر القليل من مصادر الدخل. فيما تخضع المساعدات المقدمة من قبل السلطات المركزية للولايات والكونتونات والاقاليم والاراضي والمحافظات...الخ لشروط واملاءات مختلفة، بهدف الحد من الامكانيات السياسية لتلك المكوّنات.


تاثير بالغ على تطور التكامل السياسي للدولة الفيدرالية يمكن ان يقوم به تعزيز المركزية في تركيبة ونشاط الاحزاب السياسية. ويمكن ملاحظة تجليات ذلك في البلدان التي تتميز باللامركزية في المنظومة الحزبية (الولايات المتحدة وسويسرا على سبيل المثال)، فيما تذهب دساتير بعض البلدان الفيدرالية الى اليات قانونية للتاثير على القيادات الممثلة لاحزابها في البرلمان الفيدرالي. فالتعديل (52) على الدستور الهندي (1985) يشير الى امكانية سحب المقعد البرلمان في حال خرق العضو (للالتزام الحزبي).


تمتلك السلطات المركزية الكثير من اليات التاثير السياسية والقانونية. ومن بين تلك الاليات مبدأ التدخل الفيدرالي بجميع اشكاله. حيث بامكان الرئيس الامريكي، على سبيل المثال، اصدار الاوامر باجتياح القوات العسكرية لاي من الولايات بهدف حمايتها من quot; احداث العنف الداخليةquot; وحماية القوانين الفيدرالية من تعسف سلطات الولايات ذاتها. اما دستور الاتحاد السويسري فقد نص على ان الاتحاد quot; يضمن للكانتونات اراضيها وسيادتها وفقا لما ورد في المادة 3 من الدستور، وما ورد في دساتيرها (الكانتونات) من حقوق الشعب وحرياته، وكذلك الحقوق الدستورية للمواطنينquot; (المادة 5). وفي حال تهديدها يتم اللجوء الى فرض حالة الطوارئ في الكانتونات، مع ايقاف تفعيل حقوق المواطنين وصلاحيات اجهزة السلطة في الكانتونات. وقد تضمن دستور المانيا الفيدرالية لعام 1949 على توصيف مشابه لفرض حالة الطوارئ. وكذلك التشريعات الكندية (قانون عام 1988) والمواد (34، 352، 360) من الدستور الهندي لعام 1952. ويمكننا القول بهذا الخصوص ان اعتبار تعسف السلطات المحلية بحقوق المواطنين وحرياتهم الاساسية كسبب لتفعيل مبدأ التدخل الفيدرالي، يمنح خطوات تلك السلطات مشروعية، ويجعل من خطواتها باتجاه تعزيز المركزية امرا مبررا. الى جانب توسيع قاعدتها الاجتماعية، باعتبارها الضامن لتلك الحقوق والحريات.


ان تطور عملية التكامل السياسي في الدولة الفيدرالية لاتجري بشكل عمودي، اي باتجاه تعزيز دور الاجهزة الفيدرالية فقط، وانما افقيا ايضا، بمعنى تفعيل التكامل بين المكوّنات ذاتها. حيث تقوم الاجهزة الاستشارية بدور تنسيقي بين اجهزة السلطة المحلية والسلطات المركزية. غير ان اخضاعها لمراقبة الاجهزة المركزية (كندا واستراليا)، يقلل من اهمية الدور الذي تضطلع به. حيث تقوم الاخيرة بتوجية نشاط الاجهزة الاستشارية بالشكل الذي يضمن السيطرة الكاملة للمركز على الاطراف، ويقطع الطريق على محاولاتها توسيع صلاحياتها، وخصوصا السياسية منها. وربما كان اشتراط تصديق الاتفاقيات، التي تعقدها الاطراف فيما بينها من قبل السلطات المركزية واحدة من آليات رقابة المركز على الاطراف الفيدرالية.
انني ارى ان استعادة السيادة الكاملة واستكمال بناء اجهزة السلطة المركزية وتعزيز دورها، بما في ذلك سريان والزامية قراراتها على جميع اجزاء الدولة، سيكون امرا حتميا لتأسيس الفيدرالية وتكامل مكوّناتها السياسي.

د. فلاح اسماعيل حاجم