في أعمال الفنان غسان فيضي
دغدغات العشق وانحناءات الحنين:
رموز عراقية تجلت بشاعرية رغم مرارة المنفى
حسين السكاف من مالمو: مَنْ خَبرَ حياة المنفى يعرف جيداً أن هناك وجوهاً وأماكن وبعض صور تختزنها الذاكرة لتسافر بصحبةالروح المثقلة بهمومها وتطلعاتها حين تتخطى حدود المكان حيث المنفى. تبقى الذاكرة متمسكة بمخزونها إلى الأبد، بل يصبح ذلك المخزون أكثر وضوحاً وحضوراً تحت تأثير التجربة والمشاهدات الجديدة من جهة وقساوة المنفى ومرارته من جهة أخرى. ترى أي صورة تستحضرها ذاكرة الفنان غسان فيضي على الدوام؟ وهل يعتبرها حالة مقلقة يرغب في التخلص منها، أم حالة دافئة يرغب في اللجوء إليها كلما اختلى بنفسه؟
الإجابة على هذا السؤال نجدها واضحة في أعمال هذا الفنان العراقي الذي يعد بتجربته الفنية امتداداً طبيعياً ومهماً لمدرسة بغداد في الفن التشكيلي تماماً كأساتذته وزملائه الفنانين مثل، نزيهة سليم، فيصل لعيبي، نعمان هادي وغيرهم، وأهمية هذا الامتداد تأتي من خلال الرؤيا وعمق التجربة في مزج تأثيرات المدارس الفنية الأوروبية مع مؤثرات ومخزون مدرسة بغداد في الفن، وبالتالي الخروج بمنتوج فني لا تنقصه الدهشة. فلقد توصل الفنان غسان فيضي طوال سنوات عمله الدؤوب وتجاربه الفنية إلى إيجاد شخصية أو أسلوب ثقافي فني غائر في تلافيف الموروثات الفنية لبيئته مطعم برؤية حديثة يحاول قدر الإمكان استثمار مواضيع الحب والحنين والحزن والفرح وما يدور داخل البيوت وخلف أبوابها في إطار لوحة فنية تحاكي المشاهد عن زمنها، وما أعماله إلاّ علامة واضحة ودليل ملموس على مدى التصاق تجربته بالمدرستين البغدادية والباريسية من خلال خبرته وما درسه وشاهده معتمداً على دراسة الفن التشكيلي في العراق وفرنسا وتأثيرات أجواء وطقوس تلك المدرستين.
أعماله تنقلنا حيث الأجواء العراقية بكل طقوسها وقصصها، حتى نصل إلى سماع موسيقاها ونبتسم لفرحها. ففي لوحة العاشقة (زيت على القماش cm60x60) تأخذنا نظرة الفتاة صوب الكتاب المفتوح إلى اكتشاف دلالة الإبحار بخيالات حالمة، إنها عاشقة بالفعل، فنضارة الوجه وتدويره وخلو أصابع يديها من أي خاتم، ثم اكتناز الجسد وحيويته خصوصاً عند الفخذين، يمنحنا صورة واضحة لفتاة مليئة بالخصوبة تذكرنا بعشتار إلهة الخصب. ولكن، ما سبب ارتفاع جزء جسدها الأسفل؟ أو انزلاق جزء جسدها العلوي حيث الأسفل باتجاه الزاوية اليسرى للوحة؟ الإجابة على هذا السؤال نجدها من خلال ترجمة بعض رموز اللوحة، فالفتاة تظهر وكأنها سابحة في ملكوتالعشق من خلال الكتاب الذي تقرأ. فهل هي مبحرة بقصص العشق كحكايا ألف ليلة وليلة؟ أم أنها ndash; وهو الأرجح - تقرأ رسالة عشق وصلتها منذ قليل ودستها بين وريقات الكتاب لتوهم الأهل بانشغالها بالقراءة كما تفعل أغلب الفتيات في هذه المرحلة العمرية؟ إن حالة العشق هذه هي التي تسببت بطيران الفتاة، حيث جزؤها الأسفل متجه نحو الأعلى. يدلنا على هذا تلك الأشرطة المتطايرة المنتشرة في فضاء اللوحة والمتجهة نحو الأعلى بحركات التوائية مرة ودورانية مرات، ثم تلك النقوش البيضاء المنطلقة من كتف الفتاة اليمنى صوب الأعلى بالإضافة إلى تكوين أصابع القدمين التي جاءت كأجنحة طائر صغير. وما ظهور القطة بهيئتها الأنيقة سوى محاولة من الفنان لتعزيز حالة العشق كموضوع أساسي للعمل. فكما هو معروف، فإن القطة ترمز للرغائب والشهوات الجنسية. وما ثباتها على الأرض إلا دليل على ثبات وعمق الرغبة عند الفتاة، كما أن هذا الثبات وارتفاع الذيل نحو الأعلى يقود نظر المشاهد من الأسفل إلى أعلى اللوحة حيث حركة العمل بكامله، ويعزز حالة طيران الفتاة بأحلامها وأمنياتها. ودلالة الطوق في رقبة القطة المشابه بنسيجه ومادة حياكته إلى الطوق في معصم الفتاة الأيسر، ما هي إلا تأكيد لحالة الرغبة والتأمل بلذة الأمنية على الفتاة العاشقة. لم يكتفِ الفنان بكل تلك الرموز الجميلة فراح يعزز دلالة العشق والتأمل في عمله الفني هذا حين نقش بشكل واضح وصريح على الطرف السفلي من غطاء المصباح عبارة شعرية، الواضح منها كلمتا quot; العشق والتأمل quot;. المصباح المنتصب على المنضدة الصغيرة الذي يبدو كأنه منطفئ بسبب اختفاء ألوان التوهج على الغطاء، رغم الهالة الصفراء المحمرة خلفه والتي جاءت تحت قوس شكَّلَ إطاراً لها حدد حجم الضوء المنبعث فلم يعد له أي تأثير يذكر على المشهد، سوى ذلك الاختلاف اللوني الذي طرأ على سلسلة للمثلثات التي ظهرت كنقش فني على الجدار، ربما أراد الفنان أن يوحي إلى فكرة توهج روح الفتاة العاشقة من خلال دلالة المصباح وخفوت ضوئه تماماً كاختباء الرغبة داخل الروح. كل هذا وبالاعتماد على التباين اللوني الذي نجده واضحاً على الركبتين والساقين ثم مرفق اليد اليسرى والساعدين وصولاً إلى وضوح التباين بين الضوء والظل على وجه الفتاةالمتأمل، يدلنا إلى أن وقت المشهد هو النهار وأن هناك ضوءاً منبعثاً من النافذة المفترضة يمين اللوحة، يعزز تصورنا هذا ظهور الستارة الململمة خلف قدمي الفتاة.
للمرأة حضور واضح في أعماله، شأنه بذلك شأن أغلب الفنانين، فما من فنان عرفه التاريخ إلا ورسم المرأة على طريقته الخاصة، ولكننا نجد في أعمال هذا الفنان أن المرأة كثيراً ما تكون في أوضاع منحنية كالقوس في أغلب حضورها، وقد نتصور إن تلك الانحناءات هي دلالة الظلم والانكسار الذي تكابده المرأة، ولكن حين ننظر بتمعن إلى التكوينات اللونية المحيطة والرموز الخاصة بجو اللوحة نجد أن الفنان أراد أن يظهر انحناءات الحنين الدافئة للمرأة، إن كانت أماً، أختاً أو حبيبة، أي المرأة الرمز. وغالباً ما تشكل تلك الانحناءات لظهور النساء أقواساً كالتي نشاهدها في المعمار الشرقي كالنوافذ والأبواب ذات اللمسات الفنية الخاصة، ففعل الانحناء فعل يفيض بالحنين والإنسانية وهو رمز مشبع بالعطف. كما نشاهده في انحناءة الأم ووليدها بين ذراعيها، وكذلك انحناءة المرأة في الأحمر وهي تحاول إطلاق طائر سجين داخل قفص احتفالي الألوان وكأنه بلورة سحرية كما نشاهده في لوحة (ذكريات ملونة ndash; cm162x130 ألوان مائية ومواد مختلفة)
الفتيات برقابهن الطويلة في لوحات الفنان غسان يشبهن إلى حد كبير رقاب فتيات الفنان الإيطالي أوميدو مودلياني، ولكننا نجدها في الكثير من لوحات غسان أكثر امتلاء ونظارة كما في لوحة quot;الشقيقتانquot; و quot;الدكتاتورquot;، إنه جمال الشرق وخصوصيته. ترى هل لهذه الدلالة علاقة في أسلوب المزج بين أساليب المدارس الفنية المختلفة؟ أقترح أن ندع الدلالة التالية كي تمنحنا الجواب المقنع. فوجود الأشرطة المتطايرة في فضاء أغلب لوحاته والألوان بتناغمها الراقص، كدلالة للفرح وموسيقاه، الأمل والفكرة الفرحة متوقعة الحدوث، ما هي إلاّ تأثر واضح ومتقن بتجارب ونظريات الفنان فاسيلي كاندنسكيالذي رسم الموسيقى وإيقاعات الإنسان الداخلية على اختلافها. هذا ما كنا لاحظناه في لوحة العاشقة بكثافة واضحة، وكذلك نلاحظه في لوحة (قبلة خلف الأبواب cm60x45 زيت على القماش) ولكن بكثافة أقل كون الفكرة الفرحة متحققة فعلاً والبطلان يعيشان أجواءها في زمن اللوحة التي من خلالها يبحر بنا هذا الفنان إلى عالم الأسرار وهيجان الروح التواقة إلى طعم ذلك الرحيق، الحلم، المختبئ بين شفتي الحبيبة. فكثيراً ما حركت القصص خيالاتنا ونحن صغار نستمع بشغف لتلك الأسرار التي كانت تدور خلف الأبواب خصوصاً في قصص ألف ليلة وليلة التي كنا نسمعها من جداتنا بكلمات عذبة مختلطة بسحر الليالي العراقية، وكثيراً ما وقفت الأبواب عائقاً بوجه رغباتنا ونحن نخبر العشق لأول مرة، حتى صارت الأبواب أجمل ستار يحفظ لنا قدسية اللقاء وسحر رحيق القبلة الأولى. في لوحة quot; قبلة خلف الأبواب quot; تمنحنا الأشرطة والدوائر رمز الموسيقى، موسيقى الروح، الموسيقى الصوفية التي تعتمد الدفوف ndash; الإيقاع ndash; إنه رمز الفرح الساحر وارتقاء الروح وسموها، فنلاحظ جزءاً من تلك الدفوف ظاهراً ولكنه خلف الباب أيضاً، ونلاحظ أن العشيقين يسبحان في ملكوت العشق تماماً كصوفيين يؤديان رقصتهما على نغمات موسيقى الروح وهما في حالة ارتقاء وسمو.
تظهر العشيقة أكثر طولاً من عشيقها ولكنها لا تظهر الجرأة التي يظهرها العاشق. قدماها مطبقتان وكفها اليمنى وضعت على ظهر حبيبها بحياء وخوف واضحين، إنها بلا شك أجواء القبلة الأولى.
الفنان غسان فيضي، الفتى البصري الذي حمل عام 1974 حقيبته وآلة العود وحفنة من التخطيطات والرسوم المائية وبعض صور عن العائلة والبصرة بنخيلها وبغداد بشوارعها ومقاهيها ليحتضن باريس بفرح رغم صعوبة وقساوة الغربة، كانت باريس أول نافذة حقيقية للمنفى، رحل عن العراق بعد أن تتلمذ على فناني العراق الذين وضعوا بصمتهم الخاصة على تاريخ حركة الفن التشكيلي العراقي، رسول علوان، نزيهة سليم، فائق حسن وغيرهم، ليدخل معهد البوزار في باريس ويجلس على مقاعد الدراسة التي احتلها بعض من أساتذته من قبل ليستقي المعرفة الفنية على أهم الفنانين الفرنسيين، وخلال تلك الرحلة الطويلة توصل بعد تجربة طويلة وغنية إلى امتلاك خزين معرفي وثقافيوفني أهله ليكون امتداداً لمدرسة بغداد وحركة الفن التشكيلي العراقي.
التعليقات