مرة أخرى تمکن الثنائي مروان قاووق و بسام الملا من الهيمنة على أکبر عدد ممکن من مشاهدي الشاشة الصغيرة و أثارا مرة أخرى عاصفة من الجدل و النقاش بخصوص المضامين التي دعا إليها المسلسل المثير للجدل و الاهتمامquot;باب الحارةquot;، ورغم أن العديد من النقاد و الکتاب قد تعرضوا بالنقد الذي جنح لدى بعض منهم نحو التجريح و إعتبروا العمل يدعو لمفاهيم بالية أکل عليها الدهر وشرب و إنه ينتهج طريقا براغماتيا يغازل أکثر من طرف لا يخفي إرتياحه لهکذا مضامين. لکن مشکلة هؤلاء النقاد أنهم يتجاهلون جانبا مهما جدا في المشکلة وهو أن الطرف الآخر الذي يضد هکذا مضامين، مازال کسابق عهده غير واضح المعالم و لم يحدد هويته و لاشکله و لاإنتماءه بالصورة الواضحة التي يمکن من خلالها التعرف عليه. إن العقبة الکأداء التي تواجه الطرف الآخر الرافض لمضامين باب الحارة، هو إنه ليس بإمکانه لحد الان من الجهر برفضه الکامل و الحاسم لتلك المضامين مثلما إنه مازال عاجزا لحد الان من أن يدعو لمفاهيم و أفکار ترسخ لأرضية مغايرة تماما لتلك التي يستند عليهاquot;العقيد أبو شهابquot; و رجال حارته الميامين المثاليين والتي يبدو جليا إنها مازالت تستهوي غالبية قطاعات الشارع العربي و تدغدغ أوتار أصدق أحاسيسهم وأنه ليس يمتلك بديلا بالمعنى الحقيقي للکلمة. إن التيار اليساري أو التقدمي أو الحضاري أو المدني أو ماشأت من هذه التسميات، مازال غير قادر على خلع عباءة سعاد و إلقاء خنجر العقيد أبو شهاب جانبا و السخرية من غيرة و شهامة و إندفاع أبو العز، في حين أن المشاهد العربي بشکل عام يجد نفسه منحازة و مندفعة و حتى متقمصة لهذه النماذج بل وأنهم يسخرون من آراء النقاد الذين ينالون من هذا المسلسل.


ومع أن الجزء الثالث من باب الحارة قد حفل بقدر واضح من الحشو و الإطناب مثلما إنه مال في الکثير من الاحيان الى القفز على الجدران الواقعية لمسار الاحداث إنتصارا للمسار الدرامي الذي رسمه المؤلف قاووق للشخصيات والتي ترسخت بقوة في ذهن المشاهد، لکنه نجح و بصورة واضحة في الامساك بالخيط الدرامي بقوة والذي توفق المخرج بسام الملا أيما توفيق في تجسيده ببداعة مفرطة ملکت لب المشاهد و دفعته لکي يعيش داخل حارات الضبع و أبو النار و الماوي و بذلك فقد صار المشاهد العربي ينسى رويدا رويدا حارات الغورية و الحسين و المرسي و تترسخ في ذهنه بدلا منها حارات من بلاد الشام. ومما لاشك فيه أن بسام الملا تمکن أيضا بذهنية مهنية ثاقبة من توظيف الکاميرا و حرکتها بصورة تفوقت في العديد من الاحيان على الدراما التلفزيونية و کادت أن تکون سينمائية في بعض المشاهد مما ساهم في تغليف المسلسل بهالة قوية أبهرت الناظر و متعته طوال تلك الفترة التي کان يتطلع فيها الى أحداث المسلسل في وقت کانت رتابة و روتينية العديد من المسلسلات المصرية الاخرى کانت تدفع بالمشاهدين الى التثاؤب فيما کان الملا يشد مشاهديه بقوة الى الشاشة منذ أول لحظة و حتى اللحظة الاخيرة من الحلقة التي تعرض. لقد نجح الملا في إخراج المشاهد العربي من نمطية الصور و المشاهد المکررة وقدم سياقا آخرا يوظف لمنحى جديد سوف يحدث إنقلابا جذريا في الشکل الدرامي العربي فهو يجمع بين المشاهد الثابتة و البطيئة و تلك السريعة و المتحرکة و کمايسترو متمکن يوزع بحذاقة الادوار بينهما. وقد کانت مشاهد الحلقة الاخيرة سيما تلك المتعلقة بالمواجهة بين رجال حارة الضبع و قوات الدرك، تحمل مسحة فنية رائعة من حيث سرعة حرکة الکاميرا و الزوايا و المساحات التي يغطيها الى جانب خفته في نقل الصور المتتالية و المعبرة عن رجال حارة الضبع. وفي کل الاحوال، فقد نال قاووق و الملا نجاحا و حضورا و تألقا لدى الشارع العربي من الصعب تجاهله أو عدم الاکتراث به وهو يؤکد بأن هناك ثمة مسائل کثيرة مازالت بحاجة لإعادة النظر فيها سيما تلك المتعلقة بالدعوة الى التغيير الاجتماعي و الفکري في العالم العربي.


لقد نجح باب الحارة من حيث فشل اليسار العربي و کذلك التيار الليبرالي العربي في الدعوة الى مفاهيمهما وأن باب الحارة عندما نجح بهذا الشکل الملفت للنظر، فإن السبب الحقيقي لذلك کان يکمن أساسا في أن هناك في أغوار کل مشاهد عربي شخصيات مثل العقيد أبو شهاب و أبو العز و أبو حاتم و غيرهم وأن نجاح الجزء الثالث قد فتح الابواب على مصراعيه أمام نجاح الجزء الرابع من هذا المسلسل أيضا فهل هنالك من بديل يقارع باب الحارة؟!

نزار جاف

[email protected]