برغم حجم الضجيج الصاخب الكثير الذي دار حولها، فليس هناك طرح أكثر سذاجة وسطحية من أطروحة يوشيهيرو فرانسيس فوكوياما Yoshihiro Francis Fukuyama(أكتوبر 1952- شيكاغو)، والتي بلورها في كتابه الشهير quot;نهاية التاريخ والانسان الأخيرquot; The End of History and the Last Man، والتي قضت بنهاية التاريخ وتوقفه عند تخوم الغرب الرأسمالي وأن المستقبل هو أمريكي فقط ولأمريكا ولأنموذجها التاريخي، قاصداً بذلك، وتشفياً، مشاكسة نظرية كارل ماركس في المادية التاريخية رابطاً ذلك بسقوط وانهيار النظم الشمولية والتسلطية. وتفسير، ذلك راهناً، بأن النصر قد دان للنظرية الرأسمالية النيوليبرالية، بطبعتها الأمريكية الأكثر توحشاً وquot;رذالةquot; وسادية، والمستقاة كلية من تجربة انهيار الاتحاد السوفييتي الدراماتيكية المثيرة. وتلك الفوكويامية اعتبرت في وقتها، وعلى أنغام الرقص على جثة العملاق السوفياتي، الرؤية النهائية لمسيرة التاريخ، لكن علينا أن ندرك بأن التفكير العلمي والعقلاني المنطقي لديه رأي آخر أكثر صوابية ودقة يقول بأن حركة التاريخ لن تتوقف، وأن كل نقيض سيأتي بنقيضه هكذا في حركة تصاعدية ارتقائية تطورية لا نهاية لها وهي سمة الكون والوجود الإنساني منذ فجر التاريخ البشري وحتى اليوم. وهذه ليست فلسفة، ولا فذلكة، بقدر ما هي من أولويات وألف باء التفكير العلمي المنطقي.

وجرت العادة في أوساط مثقفينا الأشاوس العاجزة والمفتونة بكل ما هو أجنبي والمصابة بعقدة الخواجة أن تستشهد بهذا أو ذاك من الكتاب والمفكرين الأجانب بنوع من القدسية والطوطمية والحدة القطعية المبرمة التي لا تقبل النقاش أو التفنيد. وطالما استخدم اسم هذا الكاتب، أو الفيلسوف الأجنبي لقمع صاحب رأي، أو محاور في حوارية ما تدور هنا وهناك. وكثيراً ما تتم الاستعانة بمقولات لمفكر أجنبي، من عصر النهضة أو العصر الإغريقي لإسكات كاتب محلي أو لتفسير ظاهرة وتطور آني. وما إن يكتب مفكر غربي كتاباً ما حتى تنبري له أقلام بعض المثقفين بنوع من الإعجاب والتهليل يقترب حد الهوس والافتنان ليصبح ما قاله هو الحل لمشاكل الأولين والآخرين وتفسير للغز الكون العصي. ومع التأكيد دائماً على أهمية ما يطرحه أي كاتب ومفكر هنا وهناك، ومساهمته بجزء فعال وهام من هذا السجال الفكري العام الدائم الدائر حول أزمة الإنسان بشكل عام وعلاقته بالوجود وتفسير تلك العلاقة والإشكاليات من مقاربات مختلفة، فإن أي شخص لا يملك حق أو إمكانية إعطاء حل سحري ناجع وتجز وشامل، أو تقديم تفسير نهائي لأزمات الكون والحياة وحيرة الجنس البشري. وهو الأمر الذي عجزت عنه، جميع النظريات والفرضيات والرؤى الإنسانية التي تبدو قاصرة وساذجة في مراحل ما معينة من تطبيق أو دراسة تلك الفرضية أو الرأي. وما هذه المماحكات والجدل الذي لا ينتهي إلا انعكاس لطبيعة ذاك الصراع الإيديولوجي اللانهائي. فحتى الأديان، المرسلة من السماء التي تتحكم بصناعة الكون وتملك مفاتيح أسراره الجاهزة التي اعتقدت، وتعتقد، أحياناً، بأنها تقدم حلاً سحرياً لمشاكل الإنسان الأزلية الكبرى والمستعصية، وعلاقته بالكون، وتفسيرها على أسس ميتافيزيقية غير حسية ولا مادية ولا يمكن تلمسها أو التأكد منها وشرعيتها كانت تتأتى دائماً من بعدها الرمزي القدسي والأسطوري، تتعرض، وتعرضت عبر التاريخ، لعمليات نقد وتشريح عميقة، طالت وتطال جوهرها وصلب تكوينها البنيوي وبناها التكويني، ولا تستطيع على الغالب، وبرغم الهالات المفروضة حولها، الصمود أمام أبسط طروحات المنطق العادي.

من كان يجرؤ على نقد أطروحة فوكوياما المتسلح بدعم امبراطوريات وماكينات إعلامية كبرى، أو مناقشة نظريات آدم سميث وجون ستيوارت مثلاً، أو حتى التعرض لهنتينغتون وكيسينجر وإن انحرف المسار والمحور الفكري قليلاً، أوالتطرق لغيرهم من أساطين الفكر الليبرالي والنيوليبرالي قبل الأزمة الأخيرة التي كشفت عن بشاعة كما هشاشة الجوهر البنيوي للرأسمالية وأماطت اللثام عن عورة هذا النظام المتوحش غير الآدمي الذي لا يمكن أن يكون حلاً لمشاكل الإنسان، ولا أمنية للنضال الإنساني، كونه بكل بساطة لا ينطوي على أي قدر من العدل والمساواة التي من الممكن أن تحلب أي نوع من الاستقرار المجتمعي، قبل الاستقرار السياسي، والاقتصادي.

إن هذه، بطبيعة الحال، ليست نهاية التاريخ، وهي ربما نهاية لفكر يوكوهاما التجديدي، إذ لا يوجد كلمة أخيرة ولا فصل ثالث في هذا البرزخ الكوني. وقد تكون هذه بالأحرى، ومن منظور جد بسيط، بداية لكتابة تاريخ جديد وليس، بالضرورة، نهاية لأي تاريخ، أو مجرد حلقة في سلسلة طويلة من المغامرة والتجريب والكشف الإنساني الحثيث التي خاضها ويخوضها بنو الإنسان في صراعهم الأزلي مع قوى الطبيعة وجدلياتها الغامضة منها، والظاهرة. وما حصل في الحقيقة هو ليس سوى نهاية لفوكوياما نفسه، وفكره النيوليبرالي الذي سطع وازدهر على أنقاض نهاية quot; لتجريبية فكرية قطبية إيديولوجية لينينية شائخة. ونهاية فوكوياما هي نهاية بنفس الوقت لكل من لا يتسلح بأولويات الفكر العلمي والمنطقي، ويفهم بعمق حركة التاريخ الإنساني المتصاعد ارتقائياً نحو آفاق الأبد السرمدي، ويستسلم لأوهام وزركشيات وغزليات الفكر الآني.

صحيح أن هناك الكثير من الجزئيات كما العناوين الكبرى التي قيلت في شروط وسياقات مختلفة، يمكن، نقول يمكن وبكثير من التحفظ، أن تسقط وتنطبق في أزمان وسياقات أخرى، ولكن لا يمكن أخذها وتبنيها كلية كنصوص مرسلة وأبدية وذات طابع قدسي ونهائي. فالتاريخ حتماً لم ينته بعد، وربما ما يزال في بداياته، وأن كل ما جرى حتى اليوم قد يكون مجرد لهو ولعب عيال بريء جداً. فما يزال هناك الكثير مما يمكن أن يقال في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما يمكن أن يقدم عن مصير، وسلوك، ولغز هذا الكون الخفي، وصنوه الإنسان، ذاك الكائن النمرود الشقي.

ولا يزال العرض مستمراً.

نضال نعيسة
[email protected]