لم يحظ موضوع من قبل بهذه الأهمية والحساسية والتوتر والمزايدات السياسية كما حظي موضوع الاتفاقية الأمنية، فهل ستتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من ترسيخ امتيازاتها الحالية في العراق لو نجحت في التوقيع على الاتفاقية الأمنية بين البلدين؟
أعلن وزير الدفاع الأمريكي روبرت غيتس يوم 17 أكتوبر 2008 انه وفقا لمشروع الاتفاق بشأن تواجد وصلاحيات القوات الأمريكية في العراق والذي صاغه مندوبون من الولايات المتحدة والعراق، سيتمتع الجنود الأمريكيون بحصانة كاملة وسيبقون تحت ( حماية أمريكية تامة). رغم اعتراض الجانب العراقي على لسان فريقه المفاوض المعين مؤخرا والذي دعا إلى مراجعة الجانب القانوني للاتفاق حول مكانة وصلاحيات ومهمة القوات الأمريكية في العراق. ترغب حكومة بوش في أن يتم توقيع هذا الاتفاق بأسرع وقت ممكن قبل انتهاء ولايتها في يناير/ كانون الثاني المقبل 2009. بيد أن المحللون الدوليون لا يعتقدون بسهولة تمرير هذا الاتفاق عبر موشور الخلافات السياسية العراقية والمصادقة عليه بسلاسة في مختلف المستويات التي تحكم مفاصل السلطة في العراق سواء في أوساط الكتل الحاكمة أو تلك الممثلة في البرلمان لكنها خارج الحكومة كالتيار الصدري والقائمة العراقية وحزب الفضيلة وجبهة الحوار الوطني الخ، مما يجعل تواجد القوات الأمريكية بصورة شرعية فوق الأراضي العراقي أمراً عسيراً، ولذاك فإن أمر التوقيع على الاتفاقية ليس بديهياً اليوم.

الحصانات تصبح بؤرة للمساجلات

بدأت المفاوضات رسمياً بين العراق والولايات المتحدة قبل ثمانية أشهر حول مسألة تواجد وانتشار ومهمات وامتيازات القوات الأمريكية ، وبالتحديد في مارس/آذار من العام 2008. وكان الطرفان يتوقعان أن يتم توقيع الاتفاق قبل نهاية يوليو/ تموز 2008. ولكن المناظرات والسجالات التي تمس بمسألة سيادة ومصالح العراق خلال المفاوضات كانت تتواصل بحدة على هامش المفاوضات الرسمية مما جعل التوقيع على الاتفاقية يتأجل عدة مرات ولم يتم توقيعها حتى اليوم.
تتضمن المسائل الخلافية الرئيسية الواردة في جدول أعمال ومفاوضات الطرفين جدولا زمنيا لمدى تواجد ومن ثم انسحاب القوات الأمريكية ، وحق المبادرة الذاتية للقوات الأمريكية في شن أي هجوم عسكري في العراق بحرية، بالإضافة إلى حق القوات الأمريكية في إلقاء القبض على العراقيين كما تشاء ومتى شاءت ذلك. وان المسألة الحاسمة بهذا الصدد هي الحصانات التي تتمتع بها القوات الأمريكية والمقاولون أو المتعاقدون الأمريكيون والشركات الأمنية الخاصة والتي يصل تعداد منتسبيها إلى عشرات الآلاف.


ظلت الحكومة الأمريكية تناور وترفض وضع وإقرار الجدول الزمني لانسحاب قواتها من العراق مؤكدة على أن موعد انسحابها سوف يحدد حسب التطورات في الوضع الأمني العراقي. ولكن الجانب العراقي ابدي موقفه المتشدد من هذه المسألة دفاعاً عن مصالحه وتلبية لرغبة ومطالب العديد من القوى السياسية المناوئة للاتفاقية والمستغلة لها وتماشياً مع المد الشعبي العام الرافض لهذه الاتفاقية.


صرح رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي لصحيفة تايمز البريطانية قبل أيام انه وفقا لمشروع الاتفاق، سيتم انسحاب القوات الأمريكية من المدن والبلدات العراقية قبل نهاية يونيو عام 2009، وسيتم انسحابها كلها من العراق قبل نهاية عام 2011. وقال المالكي أيضاً انه من الضروري أن تحصل القوات الأمريكية على موافقة مسبقة من الحكومة العراقية قبل شن أي هجوم عسكري وإلقاء القبض على العراقيين.
ثم أردف متحدث باسم الحكومة العراقية قائلاً للصحفيين يوم 15/10/2008 أن المسألة حول موعد استمرار القوات الأمريكية في بقائها في العراق بعد انتهاء الموعد المحدد قانونياً بموجب قرار الأمم المتحدة سيقررها الجانب العراقي وفقاً لما يراه مناسباً.
وقد أضاف السيد المالكي لصحيفة تايمز قائلاً أن قضية الحصانة والصلاحيات تشكل أصعب مسألة في المفاوضات الجارية. وبالنسبة إلى مشروع حل هذه المسألة قال المتحدث الرسمي للحكومة علي الدباغ انه وفقا للاتفاق، تتقيد تحركات القوات الأمريكية داخل قواعدها عند ذلك يطبق عليها القانون الأمريكي الوطني. أما التحركات والتصرفات المخالفة للقانون التي يرتكبها الجنود الأمريكيين أثناء قيامهم بتحركات من دون التكليف الرسمي من قبل الحكومة العراقية وفي خارج قواعدهم فيصبح للجانب العراقي الحق في محاسبتهم وتطبيق القوانين العراقية عليهم. ولكن كشف بعض المسؤولين العراقيين إن المقاولين أو المتعاقدين الأمريكيين والشركات الأمنية الخاصة سيحصلون على حقوق مماثلة لتلك التي ستمنح للجنود الأمريكيين.
بعد وقت قليل من إعلان العراق عن موقفه، قال ماكورماك الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية أن العراق يناقش هذه المسألة في الداخل، بينما لا تزال الولايات المتحدة تجرى مع العراق مفاوضات، بهذا الخصوص، ولم يتم حل جميع المسائل لحد الآن. كما ألقت المتحدثة باسم البيت الأبيض دانا بيرنينو بكلمات مماثلة أيضا تدحض فيها تصريحات المسؤولين العراقيين.

الاتفاق يواجه اختبارا صعباً للمصادقة عليه:

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سيكون هذا الاتفاق ساري المفعول بمجرد توقيع الرئيس بوش عليه فقط، ولا حاجة إلى اقتراع الكونجرس و التصويت عليه لإقراره. ولكن في العراق تبدو الأمور أكثر تعقيداً، فهناك حاجة إلى اجتياز عقبات كثيرة. ويرى المحللون أن البرلمان العراقي هو أصعب عقبة تقف أمام الاتفاق.
ففي العراق، لم تعرب معظم الفصائل عن مقاومتها للاتفاق لكنها أعلنت موقفها ضد مواصلة بقاء القوات الأمريكية في العراق وبشكل واضح وصريح، عدا التيار الصدري الذي نظم مظهرة احتجاج كبيرة في بغداد ضد الاتفاقية وضد بقاء القوات الأمريكية في العراق وحذر النواب من المصادقة عليها وإقرارها وهو يرى أن المضامين المتعلقة بالاتفاق حول بقاء القوات تمس بسيادة العراق ومصالحه.
كما يرى المحللون انه نظراً لقرب حدوث الانتخابات على مستوى محافظات في العراق، فإن كل القوى السياسية تتخذ موقفاً حذراً من الاتفاق سيما الفقرات المتعلقة بتواجد القوات الأمريكية في المدن وصلاحياتها وما تتمتع به من حصانة، فحتى الائتلاف الشيعي الموحد أبدى بعض الاعتراضات وطالب بإجراء المزيد من التعديلات، فالقوى السياسية العراقية لا ترغب أن تبدو في نظر ناخبيها بمظهر المتخلية عن سيادة العراق مما يعرضها لفقدان شعبيتها وقاعدتها الجماهيرية .
نظرا لتعقيد برنامج المصادقة على الاتفاق من الجانب العراقي، فلن يكون جاهزاً للتوقيع عليه في الموعد المحدد له كما تتمنى الإدارة الأمريكية ذلك.
يرى المحللون انه مع تحسن الوضع الأمني وتحسين الحالة الاقتصادية وتنامي قدرة القوات الأمنية في العراق، تعززت مكانة حكومة المالكي في إدارة الحكم. بالرغم من أن العراق ما يزال يحتاج إلى دعم تأييد من الولايات المتحدة ، سيما في المحافل الدولية، إلا أن حكومة المالكي ترغب في زيادة مستوى المطالب العراقية وحق الحوار الصريح بشأن العلاقات بين البلدين، لتحمى مصالحها الوطنية الخاصة بشكل أفضل، لذلك تأمل بتحقيق شروطها في هذا الاتفاق.
عند إمعان النظر في نص الاتفاقية المنشور مؤخراً، نرى أن الطرفان تنازلا، كل على حدة عن بعض الشروط التي كان متمسكاً بها. ويرى المحللون انه لا تزال هناك تناقضات عديدة بحاجة إلى معالجتها في المستقبل القريب قبل أن تتم المصادقة على الاتفاق وتأمين أكثر من نصف الأصوات في البرلمان العراقي. على سبيل المثال، إذا وافقت الولايات المتحدة على أن الاتفاق يتضمن جدولا زمنيا للانسحاب، فإنها تريد تضمن أن تواصل بقاء قواتها بدعوة تقدم لها من الحكومة العراقية. وسيقع الاحتكاك بين الطرفين في مسألة شائكة تتعلق بكيفية معالجة حق القوات الأمريكية بالعمل العسكري الحر دون قيد أو شرط داخل العراق ، وضمان حصانة المقاتلين المخالفين للقانون والمقاولين والمتعاقدين والشركات الأمنية في مرحلة ما بعد توقيع الاتفاقية.
إضافة إلى ذلك، هنالك أسئلة لا تزال مبهمة ويلفها الغموض واللبس من قبيل: هل ستستمر القوات الأمريكية بنفس جاهزيتها ومهماتها السابقة في العراق ، وكيف سترد الدول المجاورة للعراق مثل إيران على ذلك، وهل سيثير ذلك المزيد من الهجمات من جانب تنظيم القاعدة والقوى التكفيرية المسلحة المتحالفة معه، وهل سيعيد جيش المهدي، الذي كان يدعو إلى انسحاب القوات الأمريكية دائما، نشاطه العسكري بذريعة مقاومة الاحتلال كما هدد زعيمه من مخبئه في إيران،؟ مما لا ريب في أن هذه العوامل ستحدث تأثيرا في الوضع الأمني المستقر لكنه الهش في العراق في المستقبل المنظور.
يتفق المراقبون على أن السيد نوري المالكي مستعد لإبرام الاتفاقية ولكن مع الرئيس الأمريكي القادم بعد الموافقة على المطالب العراقية التي تحفظ حقوق العراق وسيادته. فالحكومة العراقية الحالية ترغب كما يبدو في الحد من مجال مناورة وتحرك الجيش الأمريكي داخل أراضيها بعد 31 ديسمبر القادم وهو تاريخ انتهاء الترخيص الدولي الممنوح لهذه القوات للعمل والبقاء في العراق بتفويض دولي . هل ستقبل الحكومة العراقية ببقاء الـ 140000 جندي أمريكي فوق أراضيها لغاية نهاية عام 2011 كما تطالب إدارة بوش والمرشح الجمهوري للرئاسة جون ماكين أم ستستغل رغبة الطرف الأمريكي الآخر وتشرع في سحب أغلب هذه القوات تدريجياً من الآن ولغاية الثلاثين من حزيران عام 2010 تلبية لمطلب المرشح الديموقراطي باراك أوباما؟ يتوجب على الحكومة العراقي أن تدير دفة المفاوضات بذكاء وفطنة لتلعب على هذا التناقض والاختلاف في المواقف الأمريكية وتظهر أمام شعبها بمظهر الحريص على استرداد السيادة الوطنية كاملة وبدون تنازلات مهينة.
العديد من القوى السياسية مقتنعة أن بوسع العراق الحصول على أفضل الشروط مع إدارة أمريكية ديموقراطية جديدة. ولا توجد قوة سياسية واحدة، عدا الأكراد بالطبع، لأسباب يطول شرحها ولا يمكن التطرق إليها الآن، مستعدة أن تعلن صراحة أنها مع بقاء ومواصلة الاحتلال لأمد طويل. ويبدو أن حكومة السيد المالكي أفلحت في أن تنتزع من الأمريكيين الموافقة على بند يحدد شرعية تحرك القوات الأمريكية التي لن يكون من حقها ابتداءاً من الأول من يناير/ كانون الثاني 2009 أن تشن أي هجوم مسلح داخل العراق بدون إذن مسبق من بغداد ولا اعتقال أي مواطن عراقي لأكثر من 24 ساعة بدون أمر قضائي عراقي يأمر بذلك، كما لايمكنها اختراق الأجواء العراقية وعبور الحدود الوطنية العراقية بدون طلب رسمي من جانب الحكومة العراقية لأن ذلك بات من صلاحيات السيادة الوطنية العراقية البحتة والخالصة. وسوف لن يكون بوسع القوات الأمريكية تنظيم دوريات أو مراقبة مناطق أو اقتحام قرى أو مدن ولا الدخول إليها، ابتداءاً من 30 حزيران 2009 بدون ضوء أخضر من قبل الحكومة العراقية، وسيختفي مفهوم الاحتلال رسمياً من قاموس المصطلحات السياسية فيما يخص تواجد القوات الأجنبية في العراق. وقد اجتمع المجلس السياسي والأمني العراقي الذي يضم رؤساء الكتل السياسية والرئاسات الثلاثة أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان لمناقشة مستجدات الأوضاع السياسية ومضمون الاتفاقية الأمنية كما قدمها الجانب الأمريكي بصيغتها الأخيرة التي لن تتراجع عن سطر واحد منها بعد الآن حسب التصريحات الأمريكية الأخيرة بهذا الصدد، قبل عرضها على البرلمان للمصادقة عليها. العامل الأخير الذي قد يقلب الأمور كلها على عقب هو موقف المرجعية الدينية في النجف من هذه الاتفاقية فهل ستباركها أم تلعن من يوقع عليها.

د. جواد بشارة

باريس
[email protected]