العلم الذي وهبه الله تعالى للإنسان هو علم كسبي وحادث، فالإنسان يولد مجرداً عن العلم الحصولي ثم يبدأ في كسب العلوم تدريجياً بواسطة الحواس والإدراكات العقلية التي عبر عنها القرآن الكريم بالافئدة في قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون) النحل 78.
ثم أوكل الله تعالى مهمة التعليم إلى أولياء الامور، فإن أحسن الولي تلك المهمة التي كلف بها والتي تتمثل في تعليم الطفل في مراحله الاولى فلابد أن يستقيم في المراحل التالية وكما قيل إن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. وكذلك فإن للتعليم في الصغر فؤائد عظيمة قد يصعب الحصول عليها في الكبر، وحصول الإنسان على هذه الفؤائد في مرحلة مبكرة من حياته يجعل لديه ملكة تتعلق بنوع العلم الذي تلقاه في صغره، وذلك لعدة إعتبارات من أهمها سلامة الذاكرة لدى الصغير لعدم معرفته بمتاعب الحياة التي يعاني منها الكبار في الغالب، إضافة إلى إتخاذه نوع العلم الذي يتلقاه وكأنه أحد الهوايات التي يمارسها.
ثم أن الفرق بينه وبين الكبير هو أن الثاني تتطرق إليه بعض المخاوف التي تحول بينه وبين التعليم، ومن أهمها القلق والتوتر الذي يجعله يركز في الجوانب السلبية أكثر من الجوانب الإيجابية، وهذا لا يحصل عند الاول لفراغ ذهنه من الافكار التي تسيطر في الغالب على الكبار.
فإن قيل: وماذا عن الذين لا زالوا في طلب العلم وهم في مراحل متقدمة من العمر؟ أقول: هذا يعود إلى الملكة التي حصل عليها المتعلم في سنينه الاولى، ولو جئت بإنسان لم يتعلم قط وطلبت منه الحصول على ما حصل عليه أقرانه الذين نالوا نصيباً من العلم لكان الامر يشق عليه إذا كان في مرحلة متقدمة من العمر فتأمل.
والاكثر ضرراً من عدم التعليم هو التعليم السلبي لما لهذا النوع من أثر لدى الفرد والمجتمع، وقد يرافق المتعلم هذا النوع من التعليم طيلة حياته ويصبح راسخاً في جميع أفكاره وأنماط عيشه، وبعد أن يتغلغل التعليم السلبي في نفوس الناس يصبح كالافكار الهدامة التي لا يمكن إزالتها من العقول التي إعتادت عليها، وتعد هذه المرحلة من أخطر المراحل بل وتحتاج إلى جهود كبيرة للخلاص منها حيث لا يمكن إخراجها بسهولة ودون عناء.
ولذلك عمدت بعض البلدان إلى عملية غسل الادمغة التي تحصل في السجون ومعسكرات اللجوء والمصحات العقلية التي ترعى أصحاب الامراض النفسية التي لم تتفاقم أمراضهم بعد، وقد سنت بعض البلدان قانون حسن السلوك والتغيير لمن يفرج عنهم بعد عقوبة السجن وذلك لتبديل ما استقر في نفوسهم وطبيعة حياتهم التي إعتادوها في الصغر.
ومن أهم الاسباب التي يقع ضحيتها الشباب تلك التي يزرعها الآباء الذين لا يتمتعون بخبرة الحياة ولم يحصلوا على حقهم في التعليم، فإذا كان الإنسان فاقداً لنوع من العلم فلا يمكن أن يغذي الآخرين إلا بالعلوم التي لا تصلح لهم في دينهم أودنياهم لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك نجـد بعض الاسر التي تـنظر إلى الثقافة العامة وكأنها إثم وإلى الاساطير والخرافات وكأنها من المقدسات التي لا يمكن أن تمس، نجدها قد مهدت لإبنائها أسباب الإنحراف، وجميع هذه النتائج والإثم المتفرع عنها سببه العقد البائدة التي أصبحت إرثاً جماعياً لا يمكن المساس به.
لذا فمن الصعب على الابناء تغيير النهج الذي دأبوا عليه بسبب تقليدهم الاعمى للآباء حتى صار هذا التقليد كالعصبية الجاهلية التي لا تنفك عنهم، ولذلك يحدثنا القرآن الكريم عن هذا النوع من التقليد الذي شرع الله تعالى إزالته عن طريق الرسل كما في قوله: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون***قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون) الزخرف 23-24.
لذا فإن المسؤولية التي تقع على عاتق الآباء وأولياء الامور في تربية الابناء تعد من المسؤوليات الجسام التي سوف يسألون عنها أمام الله تعالى وأمام الإنسانية، حيث أن التعليم على طاعة الله تعالى والتربية الحسنة تكون نتائجها إيجابية في جميع مراحل الإنسان، علماً أن تقديم التربية الصحيحة للأجيال أصعب من توفير المستلزمات المادية لهم، فمن الاخطاء الفاحشة التي يقع فيها أولياء الامور تلك التي تجعلهم يقومون بتلبية إحتياجات أبنائهم المادية وفي نفس الوقت تجدهم يقصرون في تلبية الحاجات المعنوية والاخلاقية التي تتناسب والفترة المعاصرة لأبنائهم.
ومن الطبيعي فإن الطفل إذا اعتاد في مرحلة مبكرة على العادات الحسنة فقد تصبح جزءاً لا يتجزء من حياته المقبلة، علماً أن تلك العادات الحسنة التي تـنظم حياة الطفل لابد أن تتأثر في السلوك الذي دأب عليه الآباء أنفسهم، حيث يكون تقليده لهم كالسنة العملية التي يعتمدها في مراحله القادمة.
لذا فإن الشارع يحث على إصطحاب الاطفال إلى المساجد التي يذكر فيها إسم الله تعالى وليس المساجد التي تروج النفاق والحقد على الآخرين أو تصدر الجهل والخرافات بمختلف الوسائل المعتادة لديهم، ولا بأس من إصطحاب الاطفال إلى المراكز الثقافية والمكتبات والاندية الرياضية إذا علم الآباء أن ليس هناك ما يتسبب في إنحراف أبنائهم، أما في حالة علم ولي الامر بأن في تلك الاماكن ما يخالف الدين والاخلاق الحميدة فعليه منع الاطفال من الإلتحاق إلى تلك المراكز حتى وإن كانت تحت مسمى الإصلاح والعبادة.
وبناءً على مامر يصبح التعليم الذي يتخذه الطفل في صغره ملازماً له في كبره دون أن ينفك عنه بحال من الاحوال، ولذلك نجد أن الشباب الذين إعتادوا على مواصلة الصلاة بصورتها الصحيحة لابد أن يكون لهم أصل وجذور في هذا الجانب فتعليم الصلاة وأخذها كعبادة راسخة تحت عنوان العلم بها وما تؤول إليه نتائجها هو الذي يجعل إستمرارها من الامور المسلمة ولا يحسن ذلك الإستمرار مالم يشفع بالخشوع الناتج عن علم الإنسان بأهمية العمل الذي يقوم به، فقد تكون الصلاة كالعادة أحياناً ولا تؤدى إلا كالحركات الرياضية، وقد تكون إجبارية لدى بعض الاسر التي تعتقد أن الصلاة تلازم الإبن إذا إعتادها عن طريق القوة وهذا من الاخطاء الشائعة وقد تنتهجها بلدان بأكملها إلا أنها لاجدوى منها.
ومن هنا فلابد أن يكون النهج المتبع في تعليم الصلاة قد بني على قواعد راسخة يحافظ الإنسان عليها في مراحله القادمة التي تؤسس لديه الخشوع لذكر الله تعالى وهذا الخشوع لا يتأتى إلا بالتعليم الذي تأصلت لديه جذوره منذ الصغر حتى يبقى في تواصل مع هذا النهج الذي يجعله يقشعر حين تتلى عليه آيات الله تعالى التي تجعله يعيش بين الخوف والرجاء كما قال عز من قائل: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) الزمر 23.
وعند التعمق في معرفة أصحاب هذا النهج نجد أن الدعوة الإيمانية التي ألقيت على عاتقهم تجعلهم في مواظبة دائمة على إقامة الصلاة بكامل أركانها وشروطها حتى تصبح كالاصل الراسخ الذي لا يفارقهم في جميع مراحلهم وتوجهاتهم، أما الذين جانبوا هذا النهج ولم يراعوا حقوق الله تعالى في أداء الصلاة، فلا جرم أن هذا الصنف لا تؤثر فيهم الإرشادات والنصائح لتأصل الرفض فيهم منذ المراحل الاولى من حياتهم بل حتى عند قيام الساعة وشدة الاهوال، تراهم حين يدعون إلى السجود يكون من الصعب عليهم تنفيذ هذا الامر الذي يجعلهم شهوداً على أنفسهم.
وما رفضهم للسجود في الدار الآخرة إلا بسبب إستقرار ملكة العناد في توجهاتهم ونفوسهم، وأنى لهم الإستجابة في يوم تشخص فيه الابصار وتتفاقم فيه الشدائد والاهوال، ويشتد فيه الامر ويعظم فيه الخطب، وتكشف القيامة عن أمر غاية في الهول والكرب، فترى العصاة ومن على شاكلتهم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، كما قال تعالى: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) القلم 42.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات