فتحت الأزمة التي أثيرت مؤخرا في الكويت على خلفية محاكمة و إبعاد رجل الدين الإيراني محمد باقر الفالي و ردود الأفعال التي سبقتها و رافقتها و أعقبتها الباب مفتوحا وواسعا أمام مناقشة ظاهرة نمو التيارات التكفيرية من الجانب السني و تيارات الغلو و المغالاة من الجانب الشيعي و هي ظواهر و حالات ليست جديدة بالمرة بل أنها قديمة قدم الصراع العقائدي و المذهبي بأبعاده السياسية و الإجتماعية و الفكرية التي أعقبت مرحلة نمو و إنتشار الدين الإسلامي و دخول حضارات و ثقافات فكرية في المجتمع المسلم التي أدت في النهاية لتلاقح فكري و حضاري و لتأثر و تأثير متبادل بين الثقافات التي ذاب بعضها في الفكر الإسلامي دون أن يتخلى عن أسسه و ثوابته، ثم أن ظاهرة التكفير و قتل المسلم للمسلم قد سبقت بكثير مرحلة نمو و تبلور المذاهب الإسلامية المعروفة التي تأسست بدايتها في القرن الثاني الهجري و أكتملت بنهاية القرن الرابع الهجري، فظاهرة الخوارج الذين كانوا عباد الليل و فرسان النهار و تكفيرهم للمسلمين الذين لا يتفقون مع رؤيتهم للأمور و على رأسهم أمير المؤمنين الخليفة الراشدي الرابع الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هي واحدة من اقدم و أبشع الظواهر الفكرية التكفيرية التي كلفت المسلمين شلالات هائلة و فظيعة من الدماء العبيطة، فنشأة الفكر الخارجي المتطرف كان الظاهرة التكفيرية المتطرفة الأولى في التاريخ الإسلامي و التي أعقبتها ظواهر دخيلة أخرى نشأت بفعل الإتصال الحضاري و التداخل الثقافي مع الشعوب الأخرى التي فتحت حربا أو سلما و التي تسللت أفكارها و ثقافتها السابقة بحكم طبائع الأمور للثقافة الإسلامية و خصوصا من جانب الشعوب الفارسية و الآرية التي دخلت الإسلام وهي تحمل إرثا ثقافيا كبيرا عبر عن نفسه في العصر العباسي الأول الذي شهد حضورا نخبويا فارسيا متميزا في السلطة و المجتمع كما شهد فيما بعد صداما بينه و بين النخبة الحاكمة إنتهى بنتائج مأساوية و هو صراع ذو أبعاد سياسية و فكرية لا تخطيء العين الخبيرة قراءة دلالاته و أسسه كما حصل مع الأسرة البرمكية التي أجهز عليها هارون الرشيد في أخريات أيامه و أنهى فصلا من سطوتهم الكبيرة على الدولة العباسية كما كانت الثورات و الإنتفاضات الشعبية في أقاليم الجبال في طبرستان و خراسان و غيرها من أقاليم المشرق تعبيرا عن الرفض السياسي و المجتمعي لثقافة السلطة الإسلامية و لأسلوب إدارة الإمبراطورية الإسلامية التي بلغت من التوسع مبلغا كبيرا جدا، كما كان الأمر مع ثورة ( المقنع الخراساني ) أو ( سنباذ ) أو ( بابك الخرمي ) في أذربيجان و نواحيها وهي إنتفاضات كلفت المجتمع المسلم خسائر كبرى و لكنها بالمقابل أسست لثقافة التسلل الفكري و الحضاري للمذاهب الإسلامية الناشئة و التي تلقفتها صفوف المعارضة المتنامية في تلك الشعوب و كان من بينها المذهب الشيعي الذي شهد متغيرات و تطورات هائلة إختلفت عن بدايته الفكرية في عصر الخلافة الراشدة، فالمذهب الشيعي هو مذهب إسلامي أصيل ينبع من موازين العدالة الإجتماعية و الوقوف بجانب الشرعية الدينية و الحق و السير على سنة الله و رسوله الكريم و الإقتداء بالسلف الصالح من الأئمة و التابعين و ليس مذهبا تكفيريا يدعو لإباحة دماء المسلمين و حز رقابهم و قد وقف الشيعة الأوائل وقفات مركزية في الدفاع عن الإسلام و الوحدة الإسلامية و رفضوا تمزيق المجتمع المسلم بل و عملوا من أجل التخلص من أساليب الظلم و الإرهاب و كان نموذجهم الأكبر هو الخلافة الراشدة للإمام علي بن أبي طالب الذي نمت في عصره الفتن و توالت المحن و أنقسم المجتمع المسلم لأسباب و عوامل ذاتية و موضوعية و مجتمعية لا علاقة لها بأصل العقيدة الإسلامية التوحيدية، و قد جاهد علي بن أبي طالب كرم الله و جهه لقمع فئات و جماعات مغالية ظهرت في زمنه زعمت بأن الإمام علي قد تجسدت فيه الربوبية و قام بحرق أولئك و معاقبتهم وهم جماعة ( الراوندية ) و الذين كما يبدو من إسمهم بأنهم من سليلي ثقافات شرقية مليئة بخرافات و أساطير قديمة لا علاقة للإسلام البسيط النقي و دين الفطرة بها أبدا، لا بل أن الإمام علي و هو يقاوم المحن التي طرأت زمن خلافته قد حدد مسبقا معالم الطريق الإنقسامي الذي دخل فيه المسلمون بقولته الشهيرة : ( هلك في إثنان، مبغض قال، و محب غال )!! أي أن الذين أبغضوه قد شتموه على المنابر فيما بعد لعدة عقود من السنين!! لم يوقفها سوى الخليفة الأموي المصلح و العظيم عمر بن عبد العزيز ( رض ) في نهاية القرن الهجري الأول، أما الذين أحبوه فقد رفعوه و مجدوع لدرجة الألوهية و العياذ بالله و هو ما طفح اليوم من أحاديث الغلاة و رواياتهم التي وضعت فيما بعد خلال العهد الصفوي في إيران خلال القرن السادس عشر الميلادي و حيث تناسلت الخرافات و أندست وسط أكوام الكتب العقائدية لتنتج تخاريف هائلة كان علماء الشيعة و مجتهديهم على معرفة حقيقية و راسخة بها فقد كان الخطيب المرحوم الدكتور أحمد الوائلي يردد على الدوام قولته الشهيرة : ( بأننا نضرب ثلثي كتاب الكافي للكليني بعرض الحائط لأنه يتضمن روايات خرافية من الإسرائيليات أو غيرها من الروايات الموضوعة التي لا تتفق أبدا و العقيدة الإسلامية )!! و لكن رغم ذلك كانت و لا زالت لتلك الأفكار حواضنها الشعبية و البيئية و مريديها بل و المتعصبين بها و ما نسب للسيد الفالي من حديث حول رواية إلقاء الله سبحانه و تعالى الشعر في تسمية الإمام علي بن أبي طالب هي واحدة من بين آلاف الروايات الموجودة في بعض المصادر الدينية، و الطريف أنني بالأمس القريب و عن طريق الصدفة إستمعت لأحد الشيوخ من الذين يتبنون الأفكار المغالية و يدعون إليها ومن إحدى القنوات الفضائية المذهبية الدينية حيث أساء بالصوت و الصورة و هو يتحدث عن مأساة الإمام الحسين ( رض ) في كربلاء لأبناء كبار الصحابة كعبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر الخطاب و عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهم أجمعين ) بقولته إن نقطة من دم الجندي الإفريقي ( جون ) الذي إنشق عن الجيش الأموي و قاتل بجانب الحسين و أهل بيته هي أطهر من كل أولئك الصحابة الأجلاء!!!! و هو تخريف خطير و كذب على التاريخ و تجاوز على الحقائق، فاولئك الصحابة قد نصحوا الإمام الحسين بعدم الذهاب للعراق لأنه سيخذل هناك لا محالة!! و هو ما حدث بالفعل فقد خذل قبله شقيقه الإمام الحسن بن علي ( رض ) كما خذل قبلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ذاته!! إضافة إلى أن الصحابي الجليل و أبن الصحابي عبد الله بن الزبير قد أستشهد فيما بعد على يد الحجاج بن يوسف الثقفي و علقت جثته على جدران الكعبة في موقف تاريخي لا ينسى؟ فهل يستحق أولئك الإهانة التي وردت من الشيخ؟ و العجيب أنني قد إستمعت سابقا لنفس الشيخ وهو يتقول بأحاديث غريبة عن السيدة فاطمة الزهراء ( رض ) بقوله أنها نجمة في السماء!!! تتبع أحاديث المغالين و فتاوي التكفيريين من المسائل التي ينبغي لبعلماء الطائفتين الكبيرتين التصدي لها عبر مؤتمر إسلامي جامع ينقي العقيدة من الخرافات و يضع الأسس الحقيقية لمصالحة تاريخية و تقارب حقيقي عبر نبذ الغريب و الطاريء و تبني الفكر التوحيدي الجامع المتخلص من غبار القرون و الدعاوي القومية و العنصرية المبطنة و من الروايات الإسرائيلية التي أحدثت خرابا عميقا في الفكر الإسلامي وهي مهمة صعبة للغاية و لكنها ليست مستحيلة فيما لو توفرت الإرادة لذلك، و الوقت لا يرحم و الفتن القادمة أشد سوادا من قطع الليل المظلم.

داود البصري

[email protected]