الكراهية هي من أسوأ العواطف الانسانية. وجدت مع الانسان يوم وجد على الأرض. ويحدثنا القرآن الكريم عن قتل قابيل لأخيه هابيل، وهما ولدي آدم، بعد أن غضب عليه. لابد ان فورة الغضب تلك نجمت عن كراهية شديدة تملكت قابيل فقتل أخاه. ومنذ ذلك التأريخ والكراهية تعيش بيننا، مسببة للمجتمع الانساني أسوأ الكوارث.

لماذا بقيت الكراهية حية بيننا؟ أسباب ذلك كثيرة منها رفض الحضارات والأجناس والأديان بعضها البعض الآخر. وطبيعي ان الرفض يتغذى على الفروقات ويصبح أساسا للتمييز والانعزال، ومن ثم الكراهية. وتكون الكراهية أكثر خطرا عندما تستعمل القوة، فتصل الى مرحلة لا تصدق من تدمير الحياة. فيتقاتل الناس بشراسة وضراوة، بعد أن كانوا يعيشون بسلام فيما بينهم و مع جيرانهم قبل ان تتمكن منهم الكراهية. لا يوجد أحد محصن ضد الكراهية، فهي معشعشة فى كل مكان، فى بيوتنا وفى أماكن عملنا، وبيننا وبين جيراننا، و بالرغم من أن كل الأديان تذمها وتنهى عنها، يقوم الوعاظ بالدعوة الى المحبة فى نفس الوقت الذى يحرضون فيه على الكراهية، ويتهمون السياسيين بأنهم هم الذين يسببون وينشرون الكراهية، ومع ذلك لا تخلوا خطبهم ومواعظهم منها.

ومثل باقى الناس بل ربما أكثر، فان السياسيين قد يكرهون مناوئيهم ويودون لو يسقونهم السم الزعاف. ولا ريب فى أن السياسيين مستهدفون بالكراهية دائما، ويسهل توجيه الاتهامات اليهم بحق او بدون حق. بعض الناس تنطوى نفوسهم على كراهية عنيفة لا تصدق، بسبب جروح غائرة أصابتهم فى وقت من الأوقات، وآخرين ركبهم الوهم فأصبحوا يرون انهم دائما على حق ويريدون من الآخرين الاعتراف بذلك وان يستسلموا اليهم بدون تفكير، واذا ما فشلوا فانهم لا يعترفون بفشلهم ويلقون باللوم على كل من حولهم. والخوف أيضا يسبب الكراهية، لأنك قد تخسر مالا أو عملا أو منصبا فلا تملك الا ان تكره من تظنه سبب ذلك.

الدين والكراهية
هناك حالتان تكون فيهما الكراهية شرا وخطرا جسيمين، الأولى الدين، عندما تكون الكراهية نابعة منه وحينما يدافع عن ذاته ولقهر أعدائه (مثل آيات السيف فى القرآن الكريم)، والثانية عندما يستغله بعض دعاة الدين للحصول على مكاسب سياسية او مادية خاصة، مبررين تحريضهم على الكراهية والقتال بان ما يفعلونه هم و أتباعهم هو تنفيذ لارادة الخالق وان عليهم طاعة ارادته بدون تفكير، بينما الواقع انهم ينفذون اوامر الدعاة الذين يحلو لى ان اسميهم (مرتزقة الدين).
باسم الدين والدفاع عنه قامت حروب كثيرة ومثال ذلك محاكم التفتيش الكاثولوكية، خاصة فى اسبانيا فى القرن السادس عشر، التى قامت باعدام عشرات الألوف من الناس بتهم معاداة الدين الكاثوليكي. وفى الهند كانت المذابح لا تكاد تتوقف بين المسلمين والهندوس، وراح ضحاياها مئات الألوف وربما الملايين من البشر. وفى العصر الحديث نشبت العديد من الحروب بين المسلمين واليهود فى فلسطين، وبين المسلمين والمسيحيين جنوب السودان.

الكراهية بين المسلمين واليهود
قد تكون الكراهية بين المسلمين واليهود أشد انواع الكراهية على وجه الأرض. يعود تأريخها الى بزوغ فجر الاسلام، ومع ان كل الاديان التى سبقت الاسلام تصدت للدين الجديد، ألا أن كثرة عدد اليهود فى بعض المناطق من شبه الجزيرة العربية، مثل المدينة وخيبر، جعلت اليهود من أشد الناس عداوة للاسلام و المسلمين. كان اليهود يشتغلون بالتجارة والربى بالدرجة الأولى تليها الزراعة. ولما جاء الاسلام وحرم الربى تأزم الوضع بين الطرفين، وأخذ اليهود يدسون الدسائس لأضعاف المسلمين ومن ثم القضاء على الدين الجديد. وحدثت المعارك بين الطرفين فى المدينة وخيبر. لابد وان الآيات التى القرآنية التى نزلت بحق اليهود قد زادت من كراهيتهم للمسلمين مثل:
آية 51 من سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا من اليهود والنصارى أولياء).
وآية 64 من سورة المائدة (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا)
وآية 82 من سورة المائدة (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنو اليهود والذين أشركوا)
وتمر السنون والقرون والكراهية بين الطرفين فى صعود وهبوط، وكان لليهود عصورهم الذهبية فى أسبانيا تحت حكم المسلمين بعد ان سامهم المسيحيون قبلهم سوء العذاب. وسكنوا بأعداد كبيرة فى الهلال الخصيب بين المسلمين. واستمر ذلك الى ان بدأ اليهود بالتخطيط لاقامة دولة لهم فى فلسطين، مما أثار المسلمين عليهم وعلى بريطانيا التى ساندتهم بوعد بلفور، واشتدت الكراهية أكثر بعد اقامة دولة اسرائيل وطرد الفلسطينيين منها. ثم قامت الحروب بين اليهود والعرب وكلها انتهت بفوز اليهود بسبب تأييد الغرب لهم.

الكراهية بين المسلمين وأميركا
لم تكن هناك كراهية تذكر بين أمريكا والمسلمين قبل وعد بلفور البريطاني حول انشاء كيان صهيوني فى فلسطين، وسارعت أمريكا وبتأثير شديد من اللوبى الصهيوني فى أمريكا بالاعتراف باسرائيل وساندتها بالمال وبالسلاح. لم يستطع قادة العرب أن يكسبوا أمريكا الى جانبهم لتفرق صفوفهم وتعدد أهواءهم ولجوئهم للتهديد والعربدة، ولكن اليهود كسبوها بوحدة كلمتهم وجدية قادتهم وتمسكنهم وتظاهرهم بالضعف. وهكذا تصاعدت كراهية العرب والمسلمين لأمريكا، وانسحبت بريطانيا بهدوء حتى نسي الناس او كادوا ان ينسوا وعد بلفور البريطاني. ثم ظهر قادة بين العرب، لا توجد لديهم مؤهلات تذكر واستولوا على السلطة باسم تحرير فلسطين والقضاء على اسرائيل. ان مجرد اعلانهم برمي اسرائيل فى البحر ألب العالم الغربي عليهم وصار الغربيون ينظرون الى العرب والمسلمين على انهم عدائيون وقتلة، بينما اليهود كانوا يكسبون الرأي العام العالمي بدعوى انهم مستضعفون ولا يريدون الا العيش بسلام فى الأرض الموعودة. وكانت الطامة الكبرى فى يوم 11 ايلول/ سبتمبر 2001 يوم اختطف مجرمون من القاعدة وبتوجيه من اسامة بن لادن الطائرات وحطموها على
المركز التجاري العالمي فى نيويورك وأهداف اخرى فى الولايات المتحدة قتل من جرائها ما يقرب من ثلاثة آلاف انسان من مختلف الأجناس والأديان.
وأصبحت هذه العملية الاجرامية الحمقاء سلاحا جديدا بيد اليهود ولم يعودوا بحاجة الى ان يبرهنوا للعالم بأن المسلمين اناس عدائيون قتلة لا يؤمن جانبهم. وهكذا كسب العرب والمسلمون أعداء جدد نتيجة لذلك، وأصبحت الكراهية عامة ضدهم. وبالرغم من ذلك ما زال فى الغرب من يتفهم ما يجرى وأن المسلمين ليسوا كلهم مثل القاعدة وبن لادن.

الكراهية بين العراقيين
كان القضاء على الحكم الصدامي فى العراق نعمة لمعظم العراقيين ان لم يكن كلهم، ولكن لسوء حظ العراقيين فقد ظهر فيه من يسمون انفسهم بالمقاومين وعلى رأسهم مقتدى الصدر بالنسبة للشيعة وحارث الضارى بالنسبة للسنة. ونسي العراقيون ان أمريكا حررتهم من الدكتاتورية ndash; وان كان ذلك لمصلحة امريكا بالدرجة الأولى- وبدأوا بالتحريض عليها. أما الطائفيون من السنة فسرعان ما صوروا للناس ان سقوط صدام يعنى انتهاء حكمهم، وانهم سيقاسون تحت الحكم الشيعي الذى يمثل الأكثرية. واستعانوا بالسنة المتطرفين فى البلدان العربية وبدأ الانتحاريون يتوافدون الى العراق بحجة مقاومة الأمريكان ولكنهم يقتلون خمسمائة عراقي معظمهم مدنيين مقابل كل أمريكي يقتلوه. وبدأت ايران تدخل فى اللعبة نكاية بالأمريكان، فزودت بعض الشيعة بالمال والسلاح. وهكذا بدأ الاقتتال بين السنة والشيعة ونسوا انهم ابناء بلد واحد وتربط الكثيرين منهم وشائج القربى الناتجة عن الزيجات المختلطة بين الطائفتين، والصداقات الحميمة والجيرة. وبدأت ترتفع حمى الكراهية، و لكن لحسن الحظ لم تصل الى حد الحرب الأهلية الشاملة. ولكن وبعد ان دمر البلد وهاجر
أهلوه بالملايين خلال أربع سنين من القتال بدأوا يفيقون من غفوتهم ليروا الأجانب من كل الأجناس يفرقون بينهم ويسعون لتحقيق مصالح بعيدة كل البعد عن مصلحة الشعب العراقي. ووجدوا ان اولئك الأجانب يفجرون انفسهم بين المدنيين ويخربون البنية التحتية للبلد، وغص البلد بجيوش اليتامى والأرامل والثكالى والمعوقين، وساد الجوع والفقر والمرض و البطالة وفقدان الأمن. وأصبحت حالة المواطن العراقي يرثى لها، ولا يحصل الا على النزر اليسير من ماء الشرب، وساعة او ساعتين كهرباء فى اليوم الواحد.
ان الأموال لاعادة الاعمار موجودة، ولكن لا اعمار بدون امان. الأمل كبير ب(الصحوة) ان تطرد الغرباء شرط ان لا يستمعوا لمن يحرضهم على الكراهية والعدوان.

الكراهية بين العرب والأكراد

ان الأكراد فى العالم أكبر قومية بدون وطن خاص بهم. ولا أظن انهم سيتخلون فى يوم من الأيام عن مطاليبهم باقامة ذلك الوطن. المشكلة هى ان الأكراد موزعون على عدة دول كلها ترفض الاعتراف بهم ولم يحصلوا على الحكم المحلي الا فى العراق. وبسبب موقعهم والحروب الكثيرة بينهم من جهة وبين تركيا وايران وسوريا والعراق من جهة اخرى، والتى امتدت عبر قرون طويلة، سببت الكراهية بينهم وبين شعوب المنطقة جمعاء. فى العراق ثاروا عدة مرات على الحكم الملكي، ثم على حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم، ثم على الحكم العارفي، بعدها حصلت مأساتهم الكبرى على يدي صدام حسين أول رئيس دولة فى العالم يستعمل الغازات السامة لقتل أبناء شعبه.
بعد سقوط صدام وحكمه اتيحت لهم الفرص فى اقامة دولة لهم من ضمن دولة العراق، وهم يعرفون جيدا ان الحكومة الحالية لو منحتهم الاستقلال التام والانفصال عن العراق فستنشب معارك دامية فى المنطقة يكون أكثر ضحاياها من الأكراد انفسهم. ينسون او يتناسون وضعهم وكل يوم يطلعون بمطلب جديد، اليوم يطالبون بكركوك وغدا يطالبون بالموصل وقد يطالبون بعد ذلك ببغداد. وفى هذه الأيام بالذات يشعر العراقي العربي الذى يذهب الى كردستان وكأنه يدخل الى دولة اجنبية بوليسية لشدة المعاملة التى يلقاها منهم. مثل هذه التصرفات تزيد كراهية العراقيين العرب لهم، وهذا لن يكون فى مصلحتهم. لقد عانى الأكراد العراقيون ربما أكثر من العرب من حكم البعث، وتشتتوا فى أرجاء العالم مثل باقى اخوانهم من العراقيين، وهم يدركون جيدا ان معظم العراقيين ينظرون اليهم على انهم شركاء فى هذا الوطن. يأتى الأكراد للتبضع فى اسواق الموصل وبغداد والبصرة، وفى كل صيف يذهب أبناء الوسط والجنوب لينعموا بالضيافة الكردية والمناظر الخلابة لكردستان العراق،
ويعودون بأحلى الذكريات. وهكذا تتكون صداقات حميمة ndash;كما كانت ابدا- بين الجميع، وكما يجب ان تكون عليه العلاقات بين افراد الوطن العراقي الواحد.

السياسة والكراهية
يستغل بعض السياسيون الكراهية لأغراضهم السياسية، فيؤججون هذه العاطفة ليملأوا قلوب الناخبين (فى حالة الانتخابات) غيظا وحقدا على منافسيهم، وهؤلاء لابد ان يدفعوا الثمن لأن الكراهية سيعود وبالها عليهم من الجهة المقابلة. يجب عدم الخلط بين المنافسة السياسية والكراهية. ان كل مواطن له الحق فى ان يتعرف على وجهات نظر السياسيين المتنافسين فى الانتخابات مثلا، من خلال خلق المناخ الملائم للمواطنين والأحزاب السياسية للحوار البناء بدون كراهية. وبعكس ذلك فان الطريق سيكون ممهدا أمام الطغيان والعشائرية.
أما ما حدث فى العراق بعد سقوط البعث، هو انه ما ان بدأت القوات الأمريكية وحلفاؤها بالتحشد فى الكويت، حتى بدأ السياسيون يخططون للعهد الجيد. وهذا أمر جيد ولكن بالاضافة للسياسيين فوجئنا ببروز معممين من كل الأنواع والأشكال ونافسوا السياسيين وأزاحوا كل من يعترض طريقهم للاستيلاء على الحكم. وظهرت على شاشة التلفزيون (قوات بدر) العائدة من ايران- حيث تلقت تدريبها هناك-، وهذا أيضا لا بأس به، حتى رأينا بعض الجنود فى المقدمة يحملون صور السيد الخميني. ألا يدعوا ذلك السنة الى التحسس وثم الكراهية؟ وقام بعض قادتهم ليملأوا الدنيا صراخا وزعيقا بأن الصفويين سيستولون على الحكم وينتقموا من السنة، وكأن قوات بدر تمثل كل الشيعة فى العراق. برز منهم حارث الضاري الذى سارع بانشاء ما يسمى ب(هيئة العلماء المسلمين) التى اوقفت نفسها لمحاربة الشيعة، وبدأ جولاته الى الدول العربية طلبا لمساعدتها فساعدوه بالمال الوفير والسلاح والدعاية الواسعة. ورفض هو والعديد من السياسيين من السنة الاشتراك فى العملية السياسية وقاطعوا الانتخابات، وكان ذلك اول نذير بتشقق العراق، فلو شاركوا فى الانتخابات التى تمت
تحت الاشراف الدولي، لما حصل ما حصل من قتل ودمار، وسادت الفوضى.
وقام معمم آخر أنزل بالبلد أشد الرزايا، وكل مؤهلاته انه ابن الامام محمد باقر الصدرالذى أحبه معظم العراقيون، والذى قتله صدام. وتبعه الجهلاء وانصاف المثقفين واندس بينهم (فدائيو صدام) وغيرهم من العاطلين وشذاذ الآفاق، وأمعنوا بالقتل والاختطاف والنهب والسلب. وبعد يوم واحد فقط من سقوط بغداد قام مقتدى الصدر بالايعاز بقتل رجل الدين المعتدل السيد عبد المجيد الخوئي، فقتل شر قتلة عند ضريح جده وسحلت جثته ومثل بها. وتغير اسم مدينة الثورة الى مدينة الصدر، التى أصبحت وكرا لأشرار ما يسمى ب(جيش المهدي) الذين يرتدون السواد ويحملون السلاح ويرعبون الناس.
وفى جنوب العراق ظهرت عصابات جديدة يرأسها معممون اختصاصهم سرقة وتهريب البترول العراقي غير مبالين بالشعب الجائع المسكين، فكدسوا ملايين الدولارات فى حساباتهم فى ايران وسويسرا. وسرعان مااشتد الخلاف بينهم على الغنيمة وبدأ التقاتل يحصدهم حصدا.
وفى وسط العراق برز سياسيون جدد، منهم عسكريون متقاعدون، او كانوا أعوانا لصدام، أو طائفيون (بالخلقة) مثل ذلك الذى أعلن بسوط عال عن طائفيته فى مؤتمر باسطنبول. وهكذا تناوب كل هؤلاء على بث الكراهية بين العراقيين. وبات الوضع ميئوسا منه خاصة بعد ان بدأت بهائم الانتحاريين ترد الى العراق من كل حدب وصوب، بحجة الدفاع عن أهل السنة وقتل الأمريكان، ودمروا حتى الجوامع والعتبات المقدسة. واشتد اوار الكراهية أكثر وكاد ان ينال بن لادن مايريد لولا ان بدأ العراقيون يدركون حقيقة ما يدور حولهم من ان أعداء العراق لا يميزون بين سني وشيعي ومسيحي وصابئي وغيرهم، فانتفضوا وأخذوا يطاردون هؤلاء الغرباء، ولن يمضى وقت طويل قبل يقضوا عليهم قضاء مبرما، ويعود العراق للعراقيين وحدهم.

عاطف العزي