بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ودخول البريطانيين العراق وطرد الجيوش التركية العثمانية منه، كانت الموصل هي أول مشكلة حدودية تحصل للعراق فى عهده الجديد. فقد طالبت بها تركيا لأن القائد البريطاني الذى وصل الى مشارف الموصل بعد توقيع قرار الهدنة أصر على احتلالها، ولولا اصرار بريطانيا لكانت الموصل الآن جزءا من تركيا. أما فى الجنوب فقد قامت بريطانيا بفصل الكويت التى كانت تابعة لولاية البصرة تحت الحكم العثماني، فصلته عن العراق كجزء من سياسة استعمارية بعيدة المدى، وأسست قواعد على السواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية (عمان والامارات وقطر والبحرين والكويت).

بعد ذلك بسنوات قليلة بدأت مطالبة ايران بشط العرب، وتجددت غزوات القبائل الوهابية من الجنوب، ولم تستطع الدولة العراقية الفتية عمل شيء لايقاف الطامعين عند حدهم، واستعانت ببريطانيا على حفظ حدودها. كل هذا والجهلاء من العراقيين يخرجون الى الشوارع فى مظاهرات صاخبة، مطالبين باخراج القوات البريطانية من العراق. ومن الهتافات التى اشتهرت فى ذلك الوقت (فرنسا وانكلترا والقندرة) و (طوابنا عند العجم وبارودنا هسه يجى) وتعنى: مدافعنا فى ايران والبارود سيصل قريبا!!!
وحتى بريطانيا نفسها لم تكن قادرة على حماية العراق من الجيران وحدها لو لم يقف الشعب العراقي آنذاك يدا واحدة وقلبا واحدا ضد مطامع ايران وتركيا.

وبنظره الثاقب، كان الراحل السياسي المخضرم نورى السعيد يدرك ان العراق الضعيف ستتقاسمه الدولتان الجارتان الكبيرتان تركيا وايران، فقوى علاقات العراق ببريطانيا التى كانت تحتفظ بقواعد عسكرية لها فى العراق، مثل الشعيبة فى الجنوب والحبانية فى الوسط.

نشبت الحرب العالمية الثانية وبدأ بعض السياسيون العراقيون الكارهون للبريطانيين باثارة الرأي العام ضد بريطانيا والانحياز الى ألمانيا النازية، فقامت ثورة رشيد عالى الكيلاني وهربت العائلة المالكة الى البصرة، ثم عادت القوات البريطانية تؤازرها قوات اردنية واحتلت بغداد وأخمدت الثورة. وبعد فترة وجيزة صرح نورى السعيد بأنه لا يعتقد بانتصار الألمان فى تلك الحرب وانه يراقب الأوضاع، فان مالت الكفة لصالحهم وأصبح نصرهم مؤكدا فسوف يعيد النظر فى موقف العراق. وصح حدسه وخسرت ألمانيا الحرب. وعاد العراقيون وبتأثيركبير من الحزب الشيوعي العراقي يطالبون بجلاء القوات البريطانية. وخلال تلك الفترة الحرجة وقعت معاهدة بورتسموث، وثارت ثائرة العراقيين وقام الاقتتال بين الشرطة والمتظاهرين وسقط عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين، وسادت الفوضى لبضعة أيام قبل أن تخمد وتذهب المعاهدة الى طي النسيان.

كان الأكراد المطالبون بالانفصال فى الشمال يغيرون على قوات الجيش العراقي والشرطة كلما اتيحت لهم الفرصة، واستنزفوا الكثير من الموارد البشرية والمالية للدولة العراقية، وكان شاه ايران الذى ما زال يطمع فى شط العرب يقوم سرا بتقديم الاعانات للأكراد. فقرر نورى السعيد اقامة حلف بين العراق وتركيا، الذى أصبح نواة لحلف بغداد فيما بعد، ودخلت فيه ايران وباكستان وبريطانيا، وبذلك ضمن الحدود الشمالية والشرقية (تركيا وايران).

وقامت ثورة الرابع عشر من تموز التى أعادت زعماء الأكراد المنفيين الى خارج العراق، ولكن بعد فترة وجيزة عادوا الى القتال. أغتنم شاه ايران الفرصة وحشد بعض القطعات العسكرية مقابل شط العرب ولكنها توقفت عند الحدود عندما حشد الزعيم عبد الكريم قاسم قواته العسكرية فى منطقة شط العرب ووجه مدافعه الى مصافى النفط فى عبدان وهدد بتدميرها كليا فى حالة نشوب الحرب بين الطرفين.

وبعد الانقلاب البعثي فى عام 1963 وبعده الحكم العارفي، ثم عودة البعثيين لحكم العراق، عاد القتال بين الأكراد والجيش العراقي، وعاد الايرانيون الى تزويد الأكراد بالسلاح، وبدأ الجيش العراقي يتكبد الخسائر الكبيرة، فاضطر صدام حسين الى توقيع معاهدة مع ايران فى الجزائر، تخلى فيها عن مساحات واسعة من شط العرب وبعض الأراضي العراقية. وما ان وقعت تلك المعاهدة حتى توقفت المعارك وفر زعماء الأكراد من العراق.

قامت الثورة فى ايران، وبعد حوالى السنة اجتازت القوات العراقية الحدود الايرانية بعد ان أغارت الطائرات وقصفت عدة أهداف داخل ايران. وهكذا بدأت حرب الثمانية أعوام، وقتل مئات الألوف من العراقيين. واحتاج صدام الى المزيد من الأموال لأدامة تلك الحرب الحمقاء، فتنازل عن بعض الأراضي للكويت لقاء مساعدات مالية. وانتهت الحرب مع ايران واضطر صدام الى قبول معاهدة الجزائر وتنازل عن اراض عراقية شاسعة على الحدود مع ايران وشط العرب. أصبح العراق على رأس قائمة الدول المفلسة، فقد تبددت ثروته على الحرب الايرانية واصبح مدانا لدول الخليج التى كانت الحرب بدفع منها ولحمايتها، بالاضافة لبعض الدول الاوروبية والاتحاد السوفييتي.

أصاب الحكام الكويتيين الغرور بعد ان شاهدوا ضعف العراق، فلم يكتفوا بالأراضى التى تنازل لهم عنها صدام، فقاموا بالتغلغل لما وراء الحدود الجديدة وقاموا بحفر آبار النفط فيها بالطريقة المعتادة (العمودية) اضافة للحفر المائل، وبدأوا يطالبون العراق بالقروض التى دفعوها لصدام، وأخذ ساستها يسخرون منه مما أثار غضبه، فدخلت قواته الكويت على حين غرة وبكل حماقة وغباء دمرها ونهبها وشرد أهلها، وهربت العائلة الحاكمة الى السعودية. وهذا كان متوافقا مع ما أرادته امريكا التى بدأت بحشد قواتها وقوات حلفائها فى السعودية على حدود الكويت الجنوبية. وحصل ما حصل بعد ذلك من تدمير للبنية التحتية للعراق والدمار الشامل لكل مرافق الحياة فيه.

ولم نسمع فى الفترة التى تلت غزو الكويت وحتى سقوط حكم البعث وهروب قائده، لم نسمع عما حصل فى الأراضي العراقية التى استولت عليها ايران والكويت، ولا يخامرنى أي شك فى انهم استمروا على سرقة النفط والحفر المائل يساعدهم اللصوص والعملاء من داخل العراق، ولم ينبس صدام ببنت شفة حول الموضوع حفاظا على كبريائه وعنجهيته، فقد كان عاجزا عن فعل اي شيء وكل ما يهمه هو سلامته وسلامة حكمه.

الجيران قبل غيرهم يعرفون حق المعرفة ان الشعب العراقي كان مغلوبا على أمره فكل من يعارض الطاغية يستأصل هو وعائلته ومعارفه. وبعد أن سقط حكمه استمر العربان بالمطالبة بتسديد ديون صدام واستيفائها - وأغلب الظن ان معظمها لا صحة له- بينما أسقطت الدول (الكافرة) الديون أو أسقطت معظمها، وأصر (الأخوة العرب) عليها وعلى تعويضات الحرب فى الوقت الذى أصبح فيه العراقي لا يجد ما يسد رمقه بعد ان فقد البلد أكثر من عشر سكانه ما بين قتيل ومفقود، وخمس الباقين ما بين جريح ومعوق ومريض، بالاضافة الى جيوش الأرامل واليتامى والعجزة. ويقف بعض الأخوة من النواب الكويتيين فى مجلس النواب مصرين على استيفاء التعويضات والديون مع الفائدة.

ومنذ أيام بدأت الأنباء المتضاربة تتحدث عن سرقات النفط العراقي والاستيلاء على بعض الآبار العراقية من قبل ايران والكويت مباشرة أو بواسطة لصوص عراقيين ماتت ضمائرهم وعمى بريق الذهب أبصارهم. وسواء صحت تلك الأنباء او لم تصح فالعراق قد سقط فريسة للصوص من الداخل والخارج، ينهبونه نهبا ولا تأخذهم رحمة ولا رأفة بشعبه الأعزل الممزق بين عصابات من السياسيين والمعممين من مرتزقة الدين، وقطاع الطرق والقتلة واللصوص والانتحاريين المجرمين القادمين من وراء الحدود، ولامن معين له لا فى الأرض ولا فى السماء، ولن ينقذه الا اتحاد أبنائه ووقوفهم صفا واحدا لحماية وطنهم الذى فيه من الخير ما يغنى الجميع.

عاطف العزي