ركزت بعض وسائل الإعلام العربية أثناء لقاءاتها الميدانية مع سكان غزة على شخوص شرًعت صدورها أمام الهجوم الإسرائيلي،كان المتحدثين يهزؤون بفكرة الموت ويصفون أنفسهم بالمرابطين الذين ينتظرون الشهادة ومرافقة الأنبياء،فهل بات الموت هو الخيار الوحيد الذي يواجهه سكان قطاع غزة!!


اختطفت وسائل الإعلام إنسانية الشعب الغزاوي،وسمحت لنفسها بالتدخل في خيارات الشخوص وكأننا في مسرح دراماتيكي يوحي للمشاهد بعبثية الحياة وعدميتها،يتساءل الفرد عن نوع هذا التعاطي الفج مع المشهد الغزاوي،هل فعلا لا يكترث أهالي غزة بضربات الجيش الإسرائيلي هل فعلا كما يقول من تم انتقاءهم بعناية أن الخوف لا يجد طريقه إليهم وأنهم مرابطون ينتظرون الشهادة؟
لم لا نرى مثل هذا المشهد خلال نزاعات مسلحة أخرى في بقاع مختلفة،هل تم حشو العقل الفلسطيني بمثل هذه الخيارات (مرابط،موت،شهادة)،أم أن اللجوء إلى المزايدات البطولية تستمر حتى في أحلك المواقف إنسانية،في ظل حصار ممتد لما يقرب العام فقد الإنسان الغزاوي كل معنى للحياة وبات مرابطا ينتظر شهادته.


كعادة وسائل الإعلام العربية التي تبحث عن ما يزيد العقل العربي الجمعي انهيارا وشللا متلاعبة بعصب العواطف والعروبة والشهادة،لتزيد المشهد المأساوي قبحا،لا يهمني حقيقة كيف ينعكس ذلك على رؤية المثقف الغربي للمقهور العربي حيث أنه يعلم أكثر من غيره ما تعرض له الإنسان العربي من قمع وهدر معنوي ومادي أدى به إلى تنفيذ حكم إعدامه بيديه فالحياة باتت عنده مثيلة للموت الذي يبدو الخيار الأكثر راحة له من عذاباته المتواصلة.


تنقلت الكاميرا العربية بين أهالي غزة الذين ينتظرون الشهادة وبين جحافل المتظاهرين في العالم العربي الذين لم يكتفوا بالتنديد بآلة القتل الإسرائيلية بل توعدوها بالانتقام والتنكيل،هكذا بكل بساطة يتحول التعاطف الوجداني إلى ساحة للمزايدات والعنتريات الخيالية.
المزعج في ذلك المشهد هو التواطؤ الفاضح بين وسائل الإعلام المرئية العربية على نزع إنسانية المواطن المحاصر بكافة أنوع الانتهاكات في غزة،والمزايدة على قضيته الأولى وهي المعاناة الإنسانية واستبدالها بقضايا بطولية مزيفة وحسابات سياسية معقدة حافلة بالتصفيات الأيدلوجية،كما عمدت إلى تصعيد التوترات السياسية كما حدث مع الموقف المصري السياسي بغض النظر عما يحدث على حدوده مع قطاع غزة عبر معبرها رفح الأكثر إثارة للجدل،وبدلا من التركيز على ما يحدث أثناء العبور وهل أتمت شرط العبور الآمن والإنساني مع الهاربين من جحيم النار أم مارست أصنافا من الإهانات لكرامة المواطن الغزاوي كعادة المعابر الحدودية في الدول العربية أثناء السلم فما بالكم أثناء حرب شديدة الهمجية يمارس خلالها تجويع وقتل واستبداد لا مثيل له من كلا الطرفين المتحاربين.


بدا الإعلام العربي هشا وتافها بشكل منقطع النظير ومثيرا للريبة والتقزز من جهة أخرى،كما فشل في معركته الأيدلوجية ضد الطرف المضاد مراهنا على ديماغوجية من يقودون الشارع العربي نحو الحضيض تحت شعارات المقاومة والأخوة الدينية والدم العربي.
كان من الممكن أيضا أن يتم نقل تعنت وبراغماتية العسكري الإسرائيلي دون الحاجة للصراخ البدائي من قبل المذيعات والمذيعين العرب مع من يتم استضافته من الجانب الإسرائيلي خلال النشرات الإخبارية أو البرامج الحوارية،بدا المشهد المتنقل بين القنوات الإخبارية كساحة صراع على من يرفع صوته أكثر على الضيف الإسرائيلي ليكسب تعاطف الشارع العربي،ويحظى بعبارات الإطراء على موقفه البطولي على الهواء مباشرة !


وتتكرر المهازل الإعلامية والتسابق اللامعقول في رسم مسحات الحزن على قسمات مذيعيها وتكفينهم باللون الأسود طيلة هذه الأزمة للتأكيد على مدى التصاقها بالشارع العربي في أحزانه ونكباته،في حين أن قنوات غربية يتم اتهامها بالتعصب الشديد والانحياز إلى الطرف الإسرائيلي أدت الدور الإعلامي بشكل جيد دون حاجتها لوضع مساحيق مزيفة ترثي بها الضحايا الإسرائيليون في المستوطنات التي دأبت صواريخ كتائب القسام على قض مضاجعهم بها.


لا يوجد علاج ناجع يتم وصفه لصقل المهنية الناقصة لدى الإعلام العربي، إذ أن هذا التواطؤ السلبي يتشارك مهامه الصحفية - مع المتلقي - في صناعة الخبر وصياغته وتحديد مساراته في خطاب شديد السريالية والخيبة.


إيمان القحطاني

صحفية سعودية
[email protected]