تحظى بعض الأسماء الأدبية والثقافية لدى أممنا المشرقية بالإحترام والتكريم، لما قدّمته من إنجازات ثقافية ومعطيات فكرية وأدبية. والأمر إلى هذا الحدّ جد ُّ طبيعي، إذا اكتـُفـِيَ بوضعه في موضعه العادي، البعيد عن المبالغة والإطراء الزائد. لكنه يتحول إلى تعبير صارخ عن النفاق والتزوير، عندما يحاول من يحاول، تصوير هذه الأسماء بهيأة غير هيأتها الحقيقية، وإضفاء مسحة من الروح النضالية والطباع الجهادية عليها، بينما هي غير مختلفة عن غيرها من الكثير من بني البشر، في حبّ المغانم وإن أتت من يد العدو، وقبول المناصب الحكومية رغم أن الإذلال والإهانة هو الطريق الوحيد إليها!


والعجيب، أن أممنا التي يتخبط الكثير من أبنائها في ظلمة الجهل، تطلق على هؤلاء المتملقين الكبار أكبر الألقاب، وتمنحهم أفضل الدرجات، التي لايراد لها أن تتغير مدى الدهر، بل وتصل في تعظيمهم إلى درجة التقديس. ولو أراد أحد نقدهم بموضوعية بادرت جموع الدهماء والغوغاء إلى سلقه بألسنة حداد!
فهذا الدكتور طه حسين، الذي يسميه المصريون quot; عميد الأدب العربي quot; يتذلـّل إلى الملك المصري السابق فاروق، ويصف أسرته الملكية بما قد يكون أكبر من حجمها، رغم خدماتها التي لا تـُنكـَر للبلاد، كل ذلك لمجرد الفوز بحقيبة وزارية.


فعندما عرض مصطفى النحـّاس ( باشا ) في سنة 1950 أسماء الوزراء الذين رشحهم للاشتراك معه في الوزارة التي عـُهـِد إليه بتأليفها، على رئيس الديوان الملكي حسين سرّي ( باشا )، ليقدمها إلى الملك فاروق، كان من بين تلك الأسماء اسم الدكتور طه حسين كمرشح لتولـّي رئاسة ( وزارة ) المعارف. ولأن رئيس الديوان كان يعرف رأي الملك فاروق بالدكتور حسين، فقد نصحه برفع اسمه من قائمة الترشيحات. وعندما استفسر النحاس باشا عن سبب اعتراض الملك على استيزار طه حسين، قال رئيس الديوان الملكي إن الملك يعتقد أن للدكتور طه حسين أفكارا ً يسارية.


وأصرّ مصطفى النحـّاس على استيزار طه حسين وقبل الملك بذلك بعد إقناع مستشاره الصحفي كريم ثابت له بأن يقبل حسين وزيرا ً تحت الإختبار.
ويقول حلمي سلام في كتابه quot; فاروق.. نهاية ملك quot; ndash; دار الهلال ndash; القاهرة - الطبعة الثانية ndash; بدون تاريخ ndash; ص 83 و 84 و 85 ان وزيرا وفديا سابقا كان عضوا في وزارة النحاس هذه روى له ان الملك انتهز فرصة اجتماع الوزراء به في مناسبة حلف اليمين الدستورية، ووجـّه الكلام للدكتور طه حسين على مسمع من الوزراء جميعا ً، قائلا ً: ياحسين باشا ndash; متجاهلا ً الإسم الأول للرجل، ومتجاهلا ً كذلك لقبه العلمي ndash; أنا أعطيتك فرصة للإختبار.. ولمـّا نشوف حتنجح والاّ لأ!


ويبدو أن الدكتور طه حسين قد راح يحاول من ناحيته ndash; يقول حلمي سلام ndash; أن ينجح في هذا الإختبار الذي تفضـّل به الملك عليه، فانتهز فرصة خطبة كان مقررا أن يلقيها بصفته وزيرا للمعارف، في حضور الملك فاروق بمناسبة افتتاح معهد فؤاد الأول للصحارى في 20 كانون الأول ( يناير) العام 1950 واستهل ّ تلك الخطبة بقوله:
quot; ذكر هيرودوت المؤرخ الإغريقي القديم أن مصر هبة النيل، لكنني بهذه المناسبة أقول، على خلاف ماقال به هيرودوت ( إن مصر إنما هي هبة أسرة محمد علي ) quot;!


وكان طبيعيا ً جدا ً، والقول مازال لحلمي سلام، بعد هذه الكلمة الجريئة والعجيبة، التي استهل بها طه حسين خطبته، أن بعتبره فاروق قد اجتاز الإختبار بنجاح ليس مثله نجاح، فرضي عنه وأنعم عليه برتبة الباشوية!


وحتى لا أ ُتـّهم بمعاداة quot; الحاميـّة! quot; أسوق مثلا ً عراقيا ً بعد المثل المصري. فالتملـّق ظاهرة مشرقية، ليست لها جنسية ولا جواز سفر. فشاعرنا العراقي الذي نعدّه كبيرا ً، جميل صدقي الزهاوي، قال في ممثل الإحتلال البريطاني بالعراق مالم يقله مالك في الخمر، تماما ً كالذي قالته القرعاء وأم الشعر في الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش في نهاية عام الحذاء.


فقد نشرت جريدة quot; الشرق quot; ( التي كانت تشرف على إصدارها سلطات الإحتلال البريطاني في بغداد ) في عددها المرقم 29 الصادر بتاريخ الثاني عشر من تشرين الأول ( أكتوبر ) العام 1920 الخطاب الترحيبي الذي ألقاه الشاعر جميل صدقي الزهاوي لدى استقبال السير برسي كوكس المندوب السامي البريطاني ( في عودته الثانية إلى العراق بعد أن عمل سفيرا في طهران، وقبلها حاكما عسكريا في العراق ) بكامله، مع جواب كوكس.
أستهل ّ الشاعر جميل صدقي الزهاوي خطابه بالبيتين التاليين:
عـُد للعراق وأصلح منه مافسدا / واثبت به العدل وامنح أهله الرغـَدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد ٌ / فيما يكون كما قد كان معتمدا
وبعد الترحيب قال:
... إنما جئت َ في أبان الحاجة إليك، فخذ ياطبيب الأمم بيد العراق، وجسّ نبضه لتعلم درجة اضطراب قلبه الخافق من حرارة حمـّى الثورة [ يا سبحان الله.. فقد غدت ثورة العشرين التحررية حمـّى! ] فتسقيه من سلسبيل سياستك كأسا ً تعيد إليه مافقده من الصحة، وتخفـّف آلامه، فقد زال أيها الأب المشفق بعدك الأمن الذي وطـّدته في ربوع العراق، وأخذت الفتن والإضطرابات والمخاوف ياللأسف تحل مكانه.


... إني أيها المندوب الجليل أؤكد لحضرتك أن القلاقل التي ثار ثائرها في الأطراف لم تحدث إلا من سوء التفاهم، وإن المتفكرين من الأمة قد ذمـّوها في أبانها، فإذا علم الناس من منشوراتك عليهم فيما بعد بنيات الحكومة العادلة تسابقوا إلى السلم وعرض الولاء الذي كانوا يظهرونه في سنوات الإحتلال السابقة.


... ثم أنهى قوله هاتفا ً: فليحيا المندوب السامي برسي كوكس الأفخم quot;!! ( العراق في رسائل المس بل ndash; ترجمة جعفر الخياط ndash; الدار العربية للموسوعات ndash; الطبعة الأولى 2003 ndash; هامش ص 222 ).
متملقون كبار أقمنا لهم أوثانا ً في مشهدنا الثقافي وهاقد آن الأوان لتحطيمها!

علاء الزيدي

www.elaphblog.com/alzeidi