يبدو أن أهم التداعيات الإيجابية لتقرير جولدستلين في مجلس حقوق افنسان التابع للأمم المتحدة هو أشتراك القطبين الفلسطينيين المتنازعين، فتح وحماس، في الترحيب بهذا التقرير، الأمر الذي لم يتم منذ سنوات عديدة. وفيما عدا ذلك فقد شهدت فترة صدور التقرير ومن ثم تأجيل مناقشته مرحلة مشبعة بالتراشق المخجل بالاتهامات بين فتح وحماس، والدول والأطراف المؤيدة لإحداهما.


في البداية رفضت حركة حماس، على حق، هذا التقرير عند صدوره، باعتباره قد ساوى في حكمه بأن الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قد ارتكبا quot;جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانيةquot;، ثم عادت حركة حماس، بعد قرار مجلس حقوق الإنسان بتأجيل بحث التقرير واتهام السلطة الفلسطينية بالتواطئ في قرار التأجيل، للتمسك بالتقرير بالرغم من الإدانة الواضحة والظالمة لها والتي تساوت مع الإدانة التي وجهها التقرير لإسرائيل نفسها. ومن ناحية أخرى ظهرت السلطة الوطنية في البداية، مرحبة بتحفظ بتقرير دولي يناقش حرباً لم يكن للسلطة فيها ناقة ولا جمل خاصة وأنه كان متوقعاً أن تحصد حركة حماس النتائج الإيجابية لمقاومتها على الأرض وعلى فوائد الإتهامات التي ستوجه إلى إسرائيل بسبب وحشية حربها التدميرية ضد الشعب والأرض الفلسطينية في غزة، وتصاعد تعثر وارتباك أداء السلطة الفلسطينية بعد تقديم تقرير غولدستون إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي بشكل أوحى بعدم مبالاتها واهتمامها، بحيث صدر قرار مجلس حقوق الإنسان الدولي بتأجيل عرض التقرير على أعضاء المجلس للتصويت عليه وإصداره رسميّاً. ولقد قيل الكثير عن موقف السلطة الوطنية والرئيس عباس حول موضوع التأجيل بحيث يبدو من العبث أن يعاد نكأ الجراح التي طالت كل الفلسطينيين والعرب. والحقيقة أن السلطة الفلسطينية، والدول العربية السبع أعضاء مجلس حقوق الإنسان، لم تكن قادرة ولا تملك الأصوات الكافية في المجلس لتمرير القرار بالإجماع كما كان مؤملاً.


وفقاً لتقاليد عمل اللجان، خاصة تلك التابعة للأمم المتحدة، فليس من صلاحية أي رئيس لأية لجنة إتخاذ قرار منفرد ببحث أو عدم بحث أو تأجيل أو اعتماد أي تقرير أو دراسة أو قرار دون استشارة أعضاء اللجنة ومعرفة اتجاه التصويت أو مواقف الدول أعضاء اللجنة. ومن المؤكد أن هذا تماماً هو ما تم القيام به من قبل رئيس مجلس حقوق الإنسان الدولي قبل إصدار قراره بتأجيل عرض التقرير. ومن المتبع عادة أن يتشاور رئيس اللجنة، أية لجنة دولية، مع كافة أعضاء اللجنة وايضاً مع طرفي أو أطراف النزاع أو الموضوع المتعلق به التقرير حتى ولو لم يكن أحدها عضواً في اللجنة المعنية، تماماً مثل السلطة الفلسطينية بالنسبة لمجلس حقوق الإنسان الدولي، التي لا زالت تمثل فلسطين quot;الكيانquot; في الأمم المتحدة على الأقل.


ومن الواضح خاصة بعد ظهور نتائج التصويت الأخير، الذي حسمته الأحداث والضجة الإعلامية والغضب الشعبي والرفض العالمي للحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة والذي لم يصل مع كل ذلك لدرجة الإجماع، أن رئيس اللجنة في حينه قد وصل إلى قناعة بأن الاتجاه العام لأعضاء مجلس حقوق الإنسان الدولي كان مؤيداً لتأجيل عرض القرار على المجلس، وهذا ما ابلغه رئيس المجلس للمندوب الفلسطيني. إن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه السلطة الفلسطينية في ذلك الوقت، على بساطته وسهولته، لم يكن أنها وافقت أو تواطئت أو خانت وإنما كان أن أحداً من مسئوليها، سواء الرئيس عباس أو وزير الخارجية أو أحد المستشارين الكثر للرئيس عباس، لم يستشعر النتائج السلبية لذلك القرار والتي كان من الممكن تجنبها، على الأقل بالنسبة للسلطة الفلسطينية، عن طريق إصدارها بياناً صحفياً قصيراً ترفض فيه قرار التأجيل وتحذّر من نتائجه.
جاء تقرير اللجنة الدولية التي رأسها السيد غولدستون، صاحب الخبرة الكبيرة في لجان التحقيق الدولية والمدعي العام لمحاكمات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، شاملاً ومفصّلاً وواضحاً وعادلاً في تبيان الممارسات الإسرائيلية ليس أثناء حربها الإجرامية الأخيرة ضد قطاع غزة فقط، بل وبالنسبة للحصار المفروض على القطاع وكذلك الأسرى والمعتقلين وتهديم البنية التحتية والمؤسسات العامة ومراكز الحكومة والمجلس التشريعي الفلسطيني. كما أورد ما اعتبره مخالفات من الجانب الفلسطيني فيما يتعلق بإطلاق الصواريخ ضد أهداف مدنية إسرائيلية، وعدم الاهتمام بتأمين سلامة المواطنين الفلسطينيين أثناء المعارك، كما تطرق التقرير لممارسات حركة حماس ضد مناصري حركة فتح اثناء وبعد الحرب وكذلك ممارسات السلطة الفلسطينية ضد مناصري حركة حماس في الضفة الغربية.
تأتي أهمية تقرير غولدستون من أنه التقرير الدولي الأول، الذي تبنته إحدى مؤسسات الأمم المتحدة، الذي يبيّن ويصف، بإسهاب وتركيز، ممارسات إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني خاصة فيما يتعلق بالحرب الأخيرة. وبالرغم من ذلك خلص التقرير إلى نتيجة تدين الطرفين بشكل متساوي وبتعبيرات متشابهة تماماً بارتكاب quot;جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانيةquot;. ومن ناحية أخرى أكثر أهمية أدرج التقرير توصيات محددة أهمها طلب مجلس حقوق الإنسان من الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، تقديم تقرير ذاتي عن الاتهامات التي وردت في تقرير غولدستون، وفيما لو لم تستجب الاطراف لذلك أن يقوم مجلس حقوق الإنسان الدولي بتحويل الموضوع لمحكمة العدل الدولية للتحقيق في الاتهامات الواردة في التقرير.
ولقد نصبت أقواس الأفراح العربية والفلسطينية بعد إعلان نتائج التصويت في مجلس حقوق الإنسان الدولي، وتسابق الخبراء والمتخصصون والسياسيون والإعلاميون في إبراز الإنتصار المدوي، وتبنت كل من السلطة الفلسطينية وحركة حماس والدول العربية ومحطات التلفزيون الفضائية هذا النصر المؤزّر. بالرغم من معرفتنا جميعاً أن هذه هي ليست المرة الأولى التي يدين فيها تقرير دولي إسرائيل على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني ولكنها المرة الأولى التي يتهم فيها فلسطينيون بارتكاب جرائم حرب في أي تقرير يصدر عن إحدى مؤسسات الأمم المتحدة منذ إنشائها.


دون التقليل من أهمية ما تضمنه تقرير غولدستون فقد يكون من المهم أن نورد هنا ما كانت إسرائيل تتخوف منه منذ البداية. وأول تلك التخوفات كان معارضتها الشديدة لإرسال (لجنة تحقيق دولية) للتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية أثناء حربها الأخيرة على قطاع غزة، يتم بالتالي عرض تقريرها على (محكمة دولية لجرائم الحرب) كما تم في حالة يوغسلافيا السابقة وغيرها. واستطاعت إسرائيل وحلفائها تجنّب ذلك بقيام مجلس حقوق الإنسان الدولي، وليس مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، بإرسال لجنة غولدستون وهي (لجنة لتقصي الحقائق) تم عرض التقرير الذي توصلت إليه على مجلس حقوق الإنسان الدولي الذي اعتمد ذلك التقرير بتوصياته في هذا الشأن التي لم تتعدى الطلب من الطرفين تقديم نتائج تحقيق لجان ذاتية (إسرائيلية وفلسطينية)، يعرف الجميع منذ اللحظة ما سوف يرد فيهما من نفي للإتهامات وتحميل الطرف الآخر المسئولية كاملة. هكذا انهى تقرير غولدستون التخوف الإسرائيلي الأول من تشكيل لجنة تحقيق دولية.


والتخوف الإسرائيلي الثاني كان نابعاً عن إمكانية قيام محكمة جرائم حرب دولية بالتحقيق مع مسئولين إسرائيليين، سياسيين أو عسكريين، وإدانتهم بسبب جرائم الحرب المرتكبة في حربهم الأخيرة ضد قطاع غزة. وقد انتهى هذا التخوف ايضاً، وفق توصيات تقرير غولدستون، الذي جعل سقف الاحتمالات الممكنة هو تحويل الموضوع، دون تقرير من لجنة تحقيق دولية ووفق تقارير ذاتية من الطرفين، إلى محكمة العدل الدولية.


وأول دفع بعدم ولاية محكمة العدل الدولية هو ان تلك المحكمة متخصصة على سبيل الحصر بالنزاعات بين (الدول) اعضاء الأمم المتحدة، وفلسطين ليست حتى تاريخه (دولة) عضواً في الأمم المتحدة. إضافة إلى أن هناك شبه استحالة بالحصول على قرار من مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة باستحداث محكمة جرائم حرب لمحاكمة المسئولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في حرب غزة الأخيرة.


يتحتم علينا العمل منذ الآن، بتكاتف فلسطيني وعربي، باعتبار تقرير غولدستون بدايةً وليس نهايةً لعمل جدي لتصعيد التعاطف والتأييد الدولي الخجول من أجل الوصول لقرارات دولية جادة وفاعلة لوقف الطغيان الإسرائيلي الآخذ بالامتداد والتصعيد. وأول هذا العمل هو إعادة اللحمة للأرض والشعب الفلسطيني، المهمة الأصعب والأكثر أهمية وتحدياً لكافة الفلسطينيين وقياداتهم.


كاتب فلسطيني