فهم معادلة النجاح الطالباني عملية أساسية لأي مشروع ينوي الوصول بأفغانستان إلى بر السلام. فلا يمكن لنا أن نتصور فهم الطالبان دون استعراض المهارات الطالبانية في quot;الفقهquot; والتي وظفوها للمحافظة على الولاءات والتحالفات المساندة لهم والتي أوصلتهم إلى الحكم وأبقتهم مهيمنين على الساحة الأفغانية إلى يومنا هذا. علينا رؤية أبعاد الفتاوى الفقهية بشقيها المحافظة والمتحررة التي يعتمدها الطالبان ومقاصدها على المستوى الثقافي-الديني، والاقتصادي، والعسكري. فهناك فتاوى محافظة تقيد سلوكيات المرأة بحيث تتطابق مع العرف القبلي الأفغاني لتكسب الولاء القبلي، وهناك فتاوى أخرى متحررة تجيز زراعة الأفيون لكي تبقي الولاء (بإسم الاقتصاد) من خلال توفير العمل والدخل للطالبانيين والقبائل ومراكز القوى الأفغانية والشبكة العالمية المرتبطة بها من طبقة الأعداء والأصدقاء.

الطالبان: إعادة التفكير1-2: عندما ينقلب الطالب على الشيخ

الفقه يدور حول التـّأطير الديني لعملية انخراط الإنسان في شتى مناحي الحياة ومن خلال أداة الإفتاء تستطيع هذه المؤسسة الفقهية أن تتواصل مع الجماهير الدينية (وغير الدينية). ولأن طبيعة مقتضيات الفقه الإرتباط بالمجتمع سنجد أن من خصوصيات المجتمع الأفغاني التأثير القوي للموروثات الشعبية والعادات القبلية على الخطابات والتـّعابير الإسلامية. نشأ الطالبانيون في بيئة لم تكن تنكر إجازة التـّكسـّب من مهن مثل: طلب الدّيـَة لإعادة المخطوفين، السطو على القوافل ومستودعات التـّجار لإعادة بيعهم في السوق السوداء أو لأجل خلق فرص عمل لمليشيات توفر خدمات الحماية الأمنية لخطوط التموين ومستودعات التـّجار. الطالبان (ومن كان قبلهم ومن هو بعدهم) نشأوا في ثقافة تطبق مبدأ quot;الرزق يبرر الوسيلةquot;. مبدأ كأنه يقول: ما يهمّني هو أن أعيش وأن أُعيـّش أفراد قبيلتيmdash; بشقيها العصبي والأيديولوجي. عند المقارنة نجد أن تعامل الطالبان مع المنكرات يختلف عما سبقهم من المراجع الدينية، حيث أنفرد الطالبان بعبقرية فقهية وأقصد تلك التي شرّعت التكسب من المخدرات فكانت الفتوى المشهورة: quot;تحريم الحشيش على المسلمين وجواز زراعة الأفيون لبيعه على الكفارquot;. فأبعَاد هذه الفتوى كما سنرى وثـّقت ترابطهم مع الجماهير ووفرت لهم المال وأكسبتهم أصدقاء يحمونهم من الفناء. إن إطلاق العنان لزراعة الأفيون أدّى إلى اضطراد في إنتاجه ما بين 1996م إلى 1999م حيث تخطى في عام 1999م حاجز الـ 3000طن، مما وضع أفغانستان في صدارة الدول المنتجة للأفيون حيث أصبحت تنتج 60% من الإنتاج العالمي. جراء العرض الفائض انهارت أسعار الأفيون العالمية وفي نهاية عام 1999م منع الملا عمر زراعة الأفيون مما سبب ارتفاع هائل في الأسعار في عام 2000م. لم تقتصر فائدة تقنين زراعة الأفيون على إعادة رفع الأسعار فقط بل إنها كانت رسالة قوية بثها الملا عمر إلى مراكز القوى وشبكات توزيع المخدرات الواقعة تحت أمرة غير الطالبانيين: أن المحافظة على مكتسباتهم لا تتم إلا من خلال الطالبانيين. وبعد خروج طالبان من الحكم ازداد حجم صناعة الأفيون الأفغانية بنسبة 150%. التقارير التي تخرج علينا هذه الأيام تشير إلى سيطرة الطالبان مع quot;قوى أخرىquot; على احتكار خدمة حماية مزارع ومختبرات تصفية ومعامل إنتاج الهروين وشبكات التوزيع خارج أفغانستان. صناعة تعود على أفغانستان بـ 2.3 بليون دولار كما ورد في دراسة في عام 2004م وتقدر الدراسة أنها تضخ قرابة 400 مليون دولار على الطالبان سنويا. الأفيون ليس مجرد دخل للطالبانيين. بل يعكس فهم عميق لأهمية توفير دخل للجماهير الأفغانية مما يحسس الأفغان باهتمام الطالبان به وعليه تتوطد علاقات الولاء والتقدير بينهما. كما يعكس فهم عميق لضرورة أن يجعل الطالبان (بحماية مزارع الأفيون ومعامل التكرير وخطوط التوزيع) من أنفسهم حلقة نفعية يعي أهميتها لوردات المخدرات ومراكز القوى الأفغانية وحلفائها من المافيا العالمية فيقدموا على حمايتهم من الفناء ويمدوهم بالسلاح والمعلومات المهمة ليتابعوا دورهم.

وهكذا يظهر للقارئ فطنة الطالبان الرفيعة في إدارة quot;ماذاquot; وquot;متىquot; وquot;كيفquot; يطبقون quot;الفتاوىquot;. الطريقة التي يـُفهَم بها الإسلام في أفغانستان طريقة تنتهج مرونة متميـّزة في قضايا الأرزاق، ولكنها أيضا تعكس فهم ضيق لإسلام لا يقبل دخول آراء إسلامية أخرى تختلف معه خصوصا عندما يلزم المرأة لبس عباءة الشادري متغاضيا عن فتاوى تجيز كشف الوجه، ويحرمها من الدراسة متغاضيا عن فتاوى تجيز تعلمها، ويفرض عليه وظيفة الإنجاب وتربية الأولاد مجبرا إياها البقاء داخل جدران البيت. ترتـّع quot;الفقهquot; الأفغاني في واقع جغرافي منعزل ضمن له انغلاق السـّنة الأفغان شبه التام على المذهب الحنفي مما ورّثهم فهما خاصا به، وعزز عدم إطلاعهم ونفورهم من مواقف أصحاب المذاهب الأخرى.
عند تأمل الفتاوى الخاصة بالمرأة الأفغانية نجد أن الطالبان أجاد فن مراعاة ميول الرجل القبلي الرافض لأي دور للمرأة يخرج على مهمة الإنجاب وتربية الأطفال. فنجد الطالبان يصدرون الفتاوى المناسبة لذلك مع تطبيق قصاص قاسي ضد أي امرأة تخالف رغبة الثقافة القبلية. مجارات الذهن القبلي عنصر فعال يبرر استمرار ولاء القبائل لطالبان بإسم الدين.

هناك ميزة أخرى انفرد بها الطالباني عما سواه من المنافسين الدينيين على الساحة الأفغانية وهي مرتبطة بكونه خريج الكتاتيب وليس الجامعات الدينية. الطلبة السنـّة البشتون منذ بداية 1990 عادوا بعلوم إسلامية بسيطة تعلموها في الكتاتيب الباكستانية. فهمهم البسيط هذا لم يمدهم بالأدوات الفكرية اللازمة لإعادة تقييم مثالب ثقافتهم التي تنشئوا فيها. بل نتيجة عدم مفارقتهم لثقافتهم أصبحوا بعد التخرج وبإسم الدين الجنود الحماة للعادات والتقاليد الأفغانية بكل محاسنها وسيئاتها. كما أن فهمهم البسيط لم يمدهم بمفردات دينية واسعة فلم يتطور خطابهم الديني كثيرا عن خطابهم المستخدم للحياة اليومية. عدم وجود فجوة علمية كبيرة بينهم وبين العوام عزز قدرتهم على التحدث بلغة مفهومة وبسيطة مع العوام مما جعل تأثيرهم أوسع على الجماهير من ما يمكن أن يحدثه الشيخ المتخرج من محافل علمية رفيعة.

لا يمكن للفقه من أن ينتشر بدون تلقين طلبة يحملونه ويطبقونه في المجتمع. وجد الطالبان أن ما اكتسبوه من سيادة شرعية المتأتية من كونهم خريجي الكتاتيب الباكستانية قد عبـّد لهم الطريق للسيطرة على الكتاتيب الأفغانية. تتوزع الكتاتيب (المدارس الدينية) على شكل شبكة عنكبوتية مبثوثة في شتى أنحاء أفغانستان الوعرة وقد استفاد منها الطالبان من عدة مستويات.


1) على المستوى محلية المدرسة: فمن خلال مؤسسة المدرسة يتعرف المدرس الملة على أفراد القرية مما يتيح له بتشعيب العلاقات مع المجتمع المحلي الصغير. ومن خلال خدماته في حضور مراسيم الأفراح والأحزان من أن يكون مؤثرا في بث معاني الدين التي يعرفها هو دون منازع.
2) على المستوى المناطق: تحافظ المدرسة بعلاقات قوية مع مدارس أخرى خصوصا تلك الإدارات الإقليمية التي تمدها بما تحتاجه من كتب وقرطاسيات لازمة لتعليم الطلبة.
3) على مستوى الطرق التجارية: تمكن الطالباني من معرفة مواقع المدارس والطرق المؤدية إليها لنقل ما تحتاجه من لوازم دراسية. ولكن هذا يعني أن الطالبانييون ليسوا فقط ملمين بطرق التموين بل يسر علمهم هذا بالسيطرة على طرق التجارة. بمعنى آخر تمكنهم من إلحاق أضرار اقتصادية بأي جماعة لا تتعاون معهم.
4) وفي مستوى الكادر: فعلى عكس تماما، حيث المدة الزمنية الطويلة اللازمة لتخريج أي شيخ فالطالب لا يستغرق وقتا طويلا لتخريجه من المدارس. وباختصار مدة الدراسة ساعد الحركة على توفير قيادات وسطى وأتباع بسرعة وبأعداد كبيرة.

5) وعلى المستوى الترابط القبلي: عمل الطالبانييون على ضمان الترابط الاجتماعي بين فروع قبائل البشتون وحلفائها فحببوا مع شباب الطالبان من التزوج من بنات العائلات البشتونيـّة وحليفاتها من القبائل الأخرى. ومثل هذا الترابط الاجتماعي جعل من عملية خروج الأسر على الطالبانيين أكثر تعقيدا.

كلُّ هذه العوامل التي توفرت للطالبان وفَّرت لهم القوة، وجعلت منهم واقع لا يمكن تجاهله. ومثل أنه لا يمكن تجاهل الطالبان فإنَّهُ، أيضا، لابد من أن quot; يتم الاتفاق معهم على القبول بالتغيير quot; إذا أردنا الوصول بأفغانستان إلى بر السلام.

مدير مركز التنوع الثقافي للاستشارات الثقافية
المحرق ndash; البحرين

[email protected]