تبلغ مساحة ايران ما يقرب من أربعة أضعاف مساحة العراق، وسكانها يقرب عددهم من ثلاثة أضعاف نفوس العراق. يسكنها عدد كبير من القوميات، وتشكل القومية الفارسية 51 بالمائة من مجموع السكان، والأذربايجانيون 24 بالمائة وكيلاكي ومازانداني 8 بالمائة، والأكراد 7 بالمائة والعرب 3 بالمائة، والباقي لور و بلوش و تركمان وأقليات صغيرة أخرى.
حدودنا الشرقية بأكملها (1452 كيلومتر) تطل على الأراضى الايرانية. تربطنا مع ايران روابط دينية وتأريخية وتجارية قديمة قدم التأريخ. عدد الايرانيين الذين يدخلون العراق من ايران للزيارات الدينية والتجارية يفوق عدد جميع من يدخلوه من كل الجنسيات الأخرى، ويصرفون عند وجودهم فى العراق عشرات الملايين من الدولارات، مما يساعد على تشغيل الأيدى العاملة العراقية. ان السياحة فى بعض دول العالم تشكل المورد الأكبر فيها، وخير مثال على ذلك: اسبانيا وايطاليا، ومصر وتونس ولبنان.
كان شاه ايران مثالا للحكام المستبدين، وكان يطمح الى أن يعيد ايران الى ما كانت عليه قبل 2500 سنة، يوم كانت امبراطورية كبرى لا تنافسها الا الامبراطورية الرومانية. لم يكن الشاه متدينا بل كان يجاهر بعدم مبالاته بالدين الاسلامي ويشجع على العودة الى دين الفرس القديم الزرادشتية (المجوسية). وكانت حكومة الشاه قد أقامت العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل التى ارتبط معها برباط ودي متين، مما أثار نقمة شعبه المتدين عليه. فقامت ضده المظاهرات والاحتجاجات العنيفة وازدادت التحديات لحكمه، فاستعمل شرطته (السافاك) لاخماد كل معارضة له بقسوة لم يسبق لها مثيل، فغصت السجون بالمعارضين. وكان رجال الدين على رأس المعارضين يؤلبون الشعب عليه يقودهم الراحل السيد الخميني الذى احتضنه صدام نكاية بالشاه.
وفى عام 1978 اتصلت شرطة (السافاك) بصدام، وكان نائبا لرئيس الجمهورية آنذاك، ليخبروه بوجود محاولة انقلاب عليه فقام صدام باعدام العشرات من الضباط العراقيين. وردا ل(جميل) الشاه فقد أمر صدام بنفي الخميني الذى غادر الى فرنسا، وبقي هناك حتى عاد الى طهران بعد قيام الثورة الاسلامية وهروب الشاه. نقم الخميني على صدام ndash; الذى أصبح رئيسا للجمهورية - حتى انه عندما استلم برقية صدام بالتهنئة رد عليه ببرود خاتما برقيته بعبارة (والسلام على من اتبع الهدى) بدلا من (والسلام عليكم )المعتادة فى مثل هذه الحالة. لم يتحمل صدام هذه الاهانة، وهو الذى كان يعتبر نفسه فوق البشر، وحقد عليه وبدأت الحرب الكلامية بين الطرفين واشتدت حين نقض صدام معاهدة الجزائر التى كان قد عقدها مع الشاه، تبعها القصف العراقي جوا وبرا لأيران يوم 22 ايلول (سبتمبر) 1980، وكان ذلك فاتحة تدهور العراق وبداية المعاناة الكبرى للعراقيين.
استمرت الحرب الجنونية والقتال الشرس بين الطرفين ثمانية أعوام عجاف، وانحازت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الى جانب العراق، وكذلك فعلت معظم الدول العربية. وفقد الجانبان العراقي والأيراني مئآت الألوف من القتلى والجرحى، وانتهت يوم 20 آب (اغسطس) عام 1988، بعودة الطرفين الى الحدود القديمة مع تنازل صدام عن نصف شط العرب وبعض الأراضي الحدودية العراقية.
بالرغم من انحياز امريكا والاتحاد السوفييتي لصدام لم تكف هاتان الدولتان ومعهما اسرائيل عن تزويد ايران بقطع الغيار العسكرية وغيرها، اذ كان غرضهم المشترك هو تدمير الدولتين معا، وهذا ما اعترف به الأمريكان فيما بعد. أما معظم الدول العربية فقد زودوا صداما بما يحتاجه من أموال، لا حبا به بل كانت رغبتهم هى نفس رغبة أمريكا واسرائيل وهى: إضعاف العراق وايران معا.
ثم كان غزو صدام للكويت الذى كان السبب الأكبر فى سقوطه وانتهاء حزب البعث فى العراق فيما بعد. هذا الغزو الأحمق أثار حفيظة العالم كله عدا كوبا واليمن!!. ايران وقفت متفرجة على اندحار صدام فى الكويت وكأن شيئا لم يحدث، واستفادت من الحصار المضروب على العراق فبدأت بعض السلع الايرانية الصنع تظهر فى الأسواق العراقية بالرغم من الحصار.
وكان دخول جيوش امريكا وحلفائها بغداد فى نيسان 2003 وسقوط صدام وحزب البعث، وما صاحب ذلك من حل للقوات المسلحة والأمن، مما ادى الى حصول فوضى عارمة اغتنمتها ايران للتغلغل فى العراق، فاستفادت من العراقيين الهاربين من حكم صدام الى ايران، وبدأت تتدخل فى شئون الحكومة الجديدة يدفعها عاملان: الأول النكاية بأمريكا، والثانى الحصول على موطىء قدم لها فى العراق. تسبب هذا التدخل فى زيادة المآسى فى العراق التى بدأت بسبب السياسة الأمريكية الحمقاء التى وزعت المناصب الحكومية على اسس طائفية: قومية ودينية، وغض النظر عن ذوى الدراية والخبرة والكفاءات. رفض معظم أبناء السنة المناصب التى عرضت عليهم ولم يشارك أكثرهم فى الانتخابات التى جرت فيما بعد (اشتركوا مؤخرا فى انتخابات مجالس المحافظات). وخشية من انفراد الشيعة فى الحكم فقد قام بعض السنة بالاتصال ببعض الدول العربية، وحصلوا منها على المال والسلاح والانتحاريين، مما دفع بعض الشيعة الى طلب المعونة من ايران. ان هؤلاء (البعض) من السنة و (البعض) الآخر من الشيعة استلموا ونهبوا أموالا تفوق الخيال، أنفقوا الجزء الأكبر منها على انفسهم وعوائلهم وشراء العقارات داخل وخارج العراق وأسسوا شركات كبرى فى الدول المجاورة والبعيدة، و تركوا الشعب البائس المسكين فى أسوأ حال، ما بين مهجر وجائع لا يجد قوت يومه ولا يأمن على حياته. وبسبب هؤلاء (البعض) أصيب العراق بكارثة لم يشهد مثلها فى أسوأ عصوره على مدى التاريخ.
لقد تمادى هؤلاء (البعض) من السنة والشيعة فى غيهم ومزقوا الشعب العراقي شر ممزق، ونشروا الكراهية الفظيعة بين الأخوة بعد أن أججوا نيران الطائفية خاصة بعد أن دخل الى العراق انصار القاعدة الذين وجدوا من يؤويهم ويساندهم من بعض السنة الحاقدين من أمثال حارث الضاري، وغيره من الطائفيين الذين لم يتورع بعضهم من اعلان طائفيته على الناس، أضف الى ذلك بعض المعممين من الشيعة الذين غرروا بالبسطاء من الناس فقتلوا ونهبوا وخربوا. وكذلك فعل البعثيون والمتعاطفون معهم، وآزرهم المجرمون الذين أطلق صدام سراحهم من السجون قبيل سقوط حكمه، وقاموا بتدمير المساجد والحسينيات ونسفوا مرقد الامامين العسكريين الشيعيين فى سامراء، مما أثار مشاعر السخط لدى المسلمين بصورة عامة وايران بصورة خاصة.
واليوم وقد تغيرت الأمور نحو الأحسن، عدا بعض الجيوب البعثية والسلفية هنا وهناك. وكما هو معروف فان العاصفة مهما كانت قوية لا بد وأن تنتهى، ويعود السلام الى أرض السلام، وتعود دول الجوار الى التعايش السلمي الطبيعي المشترك بعد ان تكبدت كل الأطراف المتنازعة أفدح الخسائر والأضرار، وهو ما يحصل فى العادة بين الدول التى لاتحاول أن تحل مشاكلها سلميا. أمريكا ستنسحب من المنطقة ويبقى العراق وجيرانه. اننا نحتاج الى ايران وايران تحتاج الينا، ونحتاج الى تركيا وتركيا تحتاج الينا، ونفس الشيء ينطبق على باقى دول الجوار العربية. ان التهجم على طائفة الشيعة واتهامها بالعمالة لايران ووصفهم بالصفويين(1) والمجوس(2) والرافضة لن يفيد السنة ولن يفيد العراق، ولابد للسنة والشيعة أن يتصالحوا ويعودوا الى العيش معا بسلام ووئام.
لنا مع ايران والأيرانيين تأريخ طويل وحافل كما ذكرت فى بداية المقال، وتربطنا معهم روابط دينية واقتصادية كبيرة لا يمكن تجاهلها. قد لا يعجبنا النظام الحالي فى ايران ولكن الحكومات تأتى وتذهب والشعوب هي الباقية، وسنتمكن من ايقاف تدخلاتهم فى بلدنا متى ما بدأ الشيعة يجدون من السنة تقربا واحتراما لحقوقهم، ومتى ما وجد السنة من الشيعة تقربا واحتراما لحقوقهم ايضا، وينضم اليهم شركاؤنا فى الوطن الاخوة الأكراد والتركمان وسائر القوميات والأديان والطوائف الأخرى، فعند ذاك لن يكون أمام ايران ولا غيرها من دول الجوار غير اعادة النظر فى علاقاتهم مع العراق المتآخى المتحد.
أما مسألة العراقيين من أصل ايراني (او صفوي أو مجوسي كما يحلوا للبعض تسميتهم) فهذه مسألة قانونية بحتة، فالعراقي هو عراقي مهما كان أصله، طالما كان حاصلا على الجنسية العراقية، أما العراقي الذى يسبب الضرر للعراق فان القانون وحده يشخصه ويعاقبه بغض النظر عما اذا كان أصله عراقيا أم غير عراقي. اما اللجوء الى شرعة الغاب وأخذ القانون بأيدينا فلن تكون نتيجته سوى زيادة فى القتل والخراب والدمار، ولن يكون هناك منتصر سوى العدو المتربص بنا.
واذا ما حل السلام وعاد الأمان فسوف يعود ملايين العراقيين المهاجرين والمهجرين الى بيوتهم وأعمالهم، وتعود معهم الخبرة ورؤوس الأموال، ويقدم المستثمرون الأجانب على الأستثمار، فترد الى العراق مليارات الدولارات، اضافة الى الموارد الهائلة من تصدير النفط الخام ومنتجاته، ويصبح العراق درة الشرق الأوسط، وتعود بغداد كما كانت فى عهودها الزاهرة، مركزا علميا وثقافيا وتجاريا لكل العالم.
عاطف العزي
أهم المصادر :
بغداد مدينة السلام : ريتشارد كوك ndash; ترجمة الدكتور مصطفى جواد و فؤاد جميل
دليل خارطة بغداد المفصل : الدكتور مصطفى جواد والدكتور أحمد سوسة
(1) الصفويون أصلهم سنة تركمان، حكموا ايران حوالي 223 سنة، وفرضوا عليها المذهب الشيعي بعد أن كانوا سنة متشددين، وذلك على عهد مؤسسهم اسماعيل الصفوي الذى احتل بغداد فى عام 1508 م، ومجموع سني حكمهم للعراق لم يتجاوز 39 سنة وعلى ثلاثة أدوار ثم اخرجوا من العراق نهائيا سنة 1638 م. ودام حكمهم فى ايران الى سنة 1723 حيث غزاهم الأفغان وأنهوا حكمهم. حكم الأتراك السنة العراق حوالي 576 سنة (سلاجقة وقرةقوينلو وآق قوينلو والأتراك العثمانيون) وانتهى حكمهم سنة 1917 عند دخول الجيش البريطاني بغداد قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى.
(2) المجوسية (الزاردشتية) ديانة فارسية قديمة، جاء ذكرها مرة واحدة فى القرآن الكريم فى آية 17 سورة الحج :( ان الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا ان الله يفصل بينهم يوم القيامة ان الله كان على كل شيئ شهيد). الاحصائيات الأخيرة تظهر أن عددهم فى جميع أنحاء العالم لا يزيد عن 200 ألف. وبقي منهم فى ايران 32 ألف يزاولون طقوسهم الدينية خفية. وهناك تفاصيل كثيرة ومصادر متعددة يمكن للباحث الرجوع اليها عن طريق الانترنيت.
التعليقات