ضياء الحكيم
السياسة في نظر البعض هي صخب رخيص وأصوات عالية مأجورة لعمل غير عفيف. والسياسيون يعملون لمصالحهم ومصالح مناصريهم وليس بالضرورة لمصالح وطنهم وشعبهم. فهل هذا صحيح؟
لو أجريتَ مسحاً أحصائياً عراقياً يتعلق بأبقاء أو أنهاء حالة تسلح الفئات السياسية الحزبية والقومية والدينية، فلن تكون النتائج متضاربة كثيراً. فمعظم العراقيين وبنسبة قد تكون مُذهلة، يتفقون على أن التقدم الحضاري لن يتم أِلا بعلاج الترتيبات التي وضعتها لنفسها هذه الفئات السياسية ومليشياتها المسلحة من برامج العنف العقائدي المُزمن. فكيف سيتم أزالة عدم التحزب ونبذ السلاح والأنضمام الوطني الى الصف العراقي والبلد المُوحَد؟
في السياسة، أصوات تعلو وأصوات تنخفض، وجوه تطل ووجوه تختفي. لقد كان العمل السياسي في مختلف عصوره التاريخية يتمتع أما بالنجاح أو يوصف بالفشل وفق الظرف الذي خاضته الشعوب وقادتها في أطر زمانها وثقافتها وثقافة قادتها. فمن حَكَمَ ساسَ الرعية وفقأ لثقافته العامة وخبرة المحيطين به ونسبة ثقافة شعبه.
والسياسة مهنة حياتية جوهرها الولاء الوطني والخدمة العامة، كما أن السياسة هي أدارة فن العلاقات والتفاوض وطُرق المساومة والترضية والخدمة. في عراق اليوم أصبح واقع العمل السياسي، سياسة تتناول النص واللهجة والخطاب وتأهيل الكلمة بقوة السلاح المرافقة لها لتكون مؤثرة وذات غرض يخدم الأعتقاد السياسي ليس أكثر.
ولأيضاح ماتقدم، فقد ثبُتَ بأن بول بريمر الحاكم الأداري الذي كلفته الأدارة الأمريكية لأعمار العراق بعد سقوط النظام لم يكن مُهيئاً لهزة سقوط النظام وهزة أخرى بأختلال النظام الجديد سياسياً وأمنياً وأجتماعياً. فجاءت أدارته وطُرق المساومة التي أتبعها ضعيفة وكان مُرغماً في مغازلة القوى السياسية الجديدة (المُسلحة) ومساندة مصالحها، كما سأوضح لاحقاً.
مالذي تغيّرَ من الأتجاه الفكري السياسي
العراقي بعد 2003؟
الرابطة الوحيدة التي تربطنا برئيس الحكومة الحالية السيد المالكي هي أكثر من مجرد أنتخاب شرعي ديقراطي له، وتشمل مراحل لأعادة البناء الأجتماعي، كما تشمل رابطة نيته الأكيدة في أنهاء حالة تسلح الفئات السياسية الحزبية والدينية التي وصلت الى السلطة خلال كفاحها لأسقاط النظام. كما تربطنا به والمسؤولين المُنتخبين الأخرين في الدولة، مسيرة الأحداث الدامية الماضية التي تعرض لها الكثير من الناس والتسائل الحالي: متى سيعلو في العراق صوت التقدم على صوت التخلف؟
ويتفهم معظم العراقيين أن هذه الفئات كانت مسلحة وبقيت مسلحة وزادت من مظاهر تسلح أفرادها للحفاظ على كياناتها وحماية مواقعها ومناصريها في الداخل وأنصار من دول مجاورة محيطة بالعراق. فالأحزاب السياسية العراقية قومية أو دينية المعتقد تتملك السلاح للتهديد به والدفاع عن معتقداتها، ولاتتجه في تملكها السلاح نحو خدمة الفرد والأسرة والمجتمع بالصورة التي يفهمها الغرب. ويمكن تصور ذلك بالرجوع تاريخياً الى بعض الحالات العراقية لترى أن اعداء الامس هم أصدقاء اليوم، والعكس صحيح أن تطلب الظرف ذلك. وقد يصفي المُتناحرون والمُتنازعون بعضهم بعضا دون شفقة ولارحمة لأسباب قد تكون في أدنى سُلّم التفاهة الحزبية والدينية، كما حصل بكل أسف في نزاع الأحزاب القومية الكردية عام 1992، وألأشتباكات المُسلحة بين منظمة بدر وجيش المهدي، ونزاعات عشائرية أخرى.
فأنطلاقة المعارضة كانت مسلحة ومتحزبة قومياً ومذهبياً عام 2003 عندما أطاحت بالنظام الدكتاتوري وبقيتْ مسلحة. وهذه الحالة التنظيمية تُفهم سياسياً على أنها ليست كالأحزاب الغربية المدنية المُعارضة التي تحمل، دون قوة عسكرية مُساندة، سلاح مبادئ الأصلاح والعدالة والمساواة. وقد يسخر الأخرون منّا ويتسائلون، طالما وصلت هذه القوى الى السلطة وهيمنت على الحياة السياسية، لماذا ياتُرى مازال أنصارها يحملون السلاح؟
حملَ الحزبان الكرديان الرئيسيان (الوطني والديمقراطي) السلاح ومازالتْ منظماته تحمله، وحملتْ منظمة بدر الجناح العسكري للمجلس الأسلامي الأعلى وحزب الدعوة السلاح كذلك، كما حملتْ الاحزاب الأسلامية ومنظمات شبه عسكرية أخرى كجيش المهدي للحركة الصدرية السلاح أيضاً. ويبدو أن الجواب الأمني بعدم ثقة بعضها ببعض يعطي المبرر أضافةً الى مواصلة دول الجوار ( حسب عقائدها ونواياها المُبيته ) تزويد خلايا منظماتها الأرهابية داخل العراق بالسلاح دون أنقطاع.
فما الذي تغيَّر في العراق منذ سقوط النظام الصدامي؟ وهل سيأتي اليوم القريب لأنهاء حالة الفئات المسلحة وانسياقها الى لغة السلاح وأنهاء الانقسام المزمن ووجوده ( المضطرب) وأنهاء نظرية المؤامرة وتسلط السلاح في يد غير يد الدولة؟
يتفق المطلعون أن الفكر السياسي العراقي كان قد خطا خطوات الطريق المسلح للسيطرة وفرض الأرادة منذ ثورة الأحزاب القومية ضد الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 وأفكار البعث بالسيطرة على مشاجب السلاح التي سُلِمَتْ الى أنصارها في الحرس القومي. وترسختْ فكرة العمل السياسي المسلح بين أعضاء مدنيين في قيادة القطر الحزبية في بغداد وأحزاب الحركة القومية الكردية في الشمال لأكثر من 60 سنة. وما مجاميع فدائيي صدام وحمل السلاح مع وجود جيش نظامي مُسلح أِلا دليل أخر على الأتجاه الفكري بسيادة السلاح. ففي أعتقاد البعض، السلاح هو صلة الأحزاب الوحيدة في البقاء والأستمرار كما هو صلتها بالجماهير، ودليل أستمراريتها بعد ذلك. وحدث ذلك ثانيةً عند سقوط النظام عام 2003 بالهجوم على المعسكرات ومشاجب سلاح مراكز الشرطة والأمن من القوى المعارضة لنظام البعث.
وفي الحالة الجديدة، لم يعد خافياً أن الحاكم الأداري الأمريكي بول بريمر تهاون في السماح للمليشيات شبه العسكرية بحمل السلاح لأسباب عديدة، ليس أقلها، أعتقاده بأن عنف الأحزاب العراقية هو عنف سياسي سائد في أرضية ثقافية وأجتماعية تحمل نفسية العنف كعقيدة للتخلص من مناوئيها بلا رحمة كي تطمئن للعمل. ثم أنه أعتبرها قوات أحتياطية ذات قيمة معنوية ولوجستيكية لقوات الحلفاء في محاربة فلول القاعدة وخلاياها نظراً لكون القوات الأمريكية التي دخلت العراق لاتمتلك المعرفة الصحيحة The Iraqi Culture للقيم الحضارية والعادات والتقاليد الأجتماعية والعشائرية فيه.
وبذلك ساهم الحاكم الأداري الأمريكي بول بريمر في تقوية الفئات المسلحة، بل حتى العقول المُختلة التي تتحكم بهذه الفئات على أختلافها، وعلى الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة كانت قد أتخذت رسمياً موقف حلّ تنظيمات الفئات المسلحة ونزع السلاح منها والتشديد عليها والعمل على تدريب جيش محترف منظم وقوات أمن موحدة. كما أن الكثير من التوصيات التي أقترحتها قيادات عراقية وضباط كبار في الجيش الأمريكي كالجنرال ديفيد بتريس وقدمتها الى أدارة الرئيس بوش والكونجرس، كانت دعوات مكررة لتهيئة وتدريب جيش عراقي حديث تحت قيادة مركزية موحدة وضم وحدات العناصر الغير ملطخة اليد بالدماء من قوات البيش مركه وبدر والمهدي والقوى الأسلامية النظيفة الى وحدات الجيش الجديد، ألا أن قيادات عراقية متحزبة مُشبعة بأحقاد الأنتقام، زرعها النظام السلبق رفضت ولم ترضخ أو تطمئن للدعوة، كما لم يكن لهذه الخطوة المبدأية أذن مسموعة بين الديقراطيين اليهود في الكونجرس الأمريكي.
ولا أجد ما يستدعيني للكتابة عن الحالة العراقية، والدعوة لإصلاح الحالة السياسية والاجتماعية منها أِلا بعد مارأينا ورأى الجميع أتجاه المجتمع نحو العنف في بلد يُدرَّبُ فيه الشباب لُغة العنف واليأس، ولايتمكن فيه قادته اللجوء الى الحوار عند أختلاف الفكر والرأي والعقيدة. فمازالت خيمة الحوار مُحاطة بلعلعة الرصاص ليستمر قتل الهوية الوطنية وقتل طموحات وآمال جيل المستقبل.
ولا يخفى على كل ذي عين بصيرة، تشخيص العلل المُخالفة لمنطق الحياة، كظواهر السرقة والانحلال والعنصرية والتحزب في مؤسسات الدولة التي عَمَّت كالسرطان في جسم المشوه. أما الحديث عن طرق الحلول لها فأنها تسبّب تشنج القادة وأتباعهم الموالين، ويتصدرها بدلاً عن ذلك عنها تبادل ألأتهامات القومية والمذهبية، ليتوقف أي عمل أصلاحي عاجزاً أمام أزمات لم تُحل منذ أكثر من 60 عاماً. أما كيف يرضي المجتمع المدني العراقي بشعارات فئات أحزابه المسلحة ووعود التغيير وبناء المجتمع والقضاء على الأفات الأجتماعية والبطالة؟......فذلك أمر مازال يحيطه الغموض.
وللأعتقاد بأن رموز الأحزاب المُسلحة تستطيع أن تخلع عن معتقداتها صفة العنف والتحزب وتلبس لباس الديمقراطية السياسية والمسؤولية التضامنية وبناء مجتمع ينتمي بصلة كاملة الى العراق، فهو أعتقاد يشوبه الكثير من الخيال.
فالمعروف بأنه لأحتلال موضع أمامي في العراق والحصول على أمتيازات غير شرعية، لابد من تهيئة قاعدة فئوية متحزبة مُسلحة في أستطاعتها أشاعة الخوف بين مناوئيها وأنزال عقوبة الموت، أيّ كان موقع أو منصب أعدائها.هذا ماتعلمته القيادات الصغرى الألمانية النازية وهي أيضاً الظاهرة التي أنتشرت منذ عصر صدام الدموي ولتصبح اليوم أحدى المخلفات التي تحتاج الى علاج.
فما الذي يجعل الخطأ صحيحاً والأستمرار فيه؟ أن نقد أحزاب سياسية مُسلحة تؤمن عناصرها بتصفية خصومها بالعنف والأغتيال وهم أبناء وطن واحد لاتفسير لها اِلا في عقول مختلة لاتتعب أو تمل من سرد شعارات مُخادعة قومية أو دينية.
لماذا الحكومة المُنتخبة وليس التحزب السياسي المُسلح
عند أستعراض مقاييس المواطنة بشكل عام نرى أنها:
الأيمان بخدمة الوطن ورفع شأنه، والأيمان بالحكومة المنتخبة بأرادة شعبية. مبدأ المساواة بين المواطنين والأعتراف بحقوقهم وألأيمان بالعدالة الأجتماعية وسلطة الدولة والقانون. التمسك بالعدالة الأخلاقية والتمسك بالهوية الوطنية. فلماذا تختلُ هذه المقاييس وموازينها في العراق؟
كتب أحد المطلعين بالشأن العراقي نصاً يقول فيه (عندما لا يرى أبناء العراق هذه المقاييس أو تُنتزع منهم ويشعرون بالغياب الحقيقي للسلطة وصوتها الموحِد فلن يُمجّوا وطنهم وسيتعصبون لقومياتهم ومذاهبهم فقط ويزداد عصيانهم وتذمرهم. إن قـوة الدولـة والسلطة المركزية فيها سوف تؤدي إلى أن يبتعد الناس عن إنتمائهم العشائري والمذهبي إضافة إلى عـودة الوضع الطبيعي للإقتصـاد وتوفر فرص العمل، فأملنا أن تكون للعراق حكومة قوية لها منهج وهدف واضح وليس حكماً متعدد الرؤوس تضيع فيه الجهود).
والحقيقة أن الأحزاب السياسية ومليشياتها المسلحة بغض النظر عن أنتماءاتها ووطنيتها هي ليس مؤسسات عمل أو شركات بناء وليست مهمتها الأعمار والتشييد، كما أن أستخدام نفوذها للدخول في عقود تجارية مع شركات أجنبية بأبعاد سلطة الدولة وأجهزة المراقبة عنها كُلياً هو خطأ فاضح لا يُليق بصفتها الوطنية، كما أنه جهل بنظم العالم الخارجي السياسية والأجتماعية والأقتصادية.
ودون أي أستثناء، فأن الأحتفاظ بقوات متحزبة تسرح وتمرح في البلاد هي حالة فريدة ليست موجودة في سوريا، الأردن، السعودية،الكويت، أيران، أو تركيا، وتبرير أحقية وجودها ودورها الآن ماهو أِلا النقيض لحاجة العراق الأمنية لوجود القوات المُسلحة التي تقوم بمهمة حفظ الأستقرار. وثباتاً، أرى أن الأبقاء عليها له دور سلبي مؤثر في مُخيلة الناس وصياغة أفكار بعيدة عن التحضر لحالة عنف أستثنائية شاذة مرت بالبلاد.
ضياء الحكيم
ملاحظة: لأسباب تتعلق بأصول النشر، يرجى عدم الأقتباس دون الرجوع الى الكاتب.
التعليقات