وسط أحداث سياسية، وتطورات جسام، تعصف في منطقة الشرق الأوسط، وتحولات أخرى ليست أقل إثارة على غير صعيد عربي وإقليمي، وفيما كانت العيون شاخصة، بالذات، لمتابعة أحداث قمة العرب، جاء أمس، وبصمت، خبر رحيل الفنان الكبير ناجي جبر أبو عنتر، ابن شهبا في جبل العرب الأشم، عن عمر ناهز الرابعة والستين عاماً. ويعتبر هذا الفنان الكبير من جيل الكبار والرواد العمالقة السوريين الذين أسسوا لما نشهده اليوم من طفرة درامية سورية متميزة، تحمل عبق سورية وروحها الأصيلة، وكيمياء شعبها الحضاري، ومصطلحاته العفوية البسيطة، إلى العالم قاطبة.

وضم ذاك الجيل، فيمن ضم، كل من الأستاذ دريد لحام، بشخصيته الفذّة والعبقرية الشعبية المحببة غوار الطوشة المشاغب وأبو المقالب الكبار، والمرحوم نهاد قلعي quot;حسني البورظانquot; الهدف الاستراتيجي الدائم لاعتداءات ومغامرات غوار وتطلعاته العدوانية بلغة أهل السياسة، وعبد اللطيف فتحي، أبو كلبشة والمسؤول الأمني مطلق الصلاحية في حارة quot;كل مين إيدو ألوquot;، والمرحوم الفنان المبدع محمود جبر الذي احترف الكوميديا ووصل لعضوية مجلس الشعب السوري، وأبو صياح رفيق السبيعي الرجل quot;المعدّل والراكزquot; وشيخ الشباب، وياسين بقوش quot; الصبي الذي يجسد شخصية الأبله والأهبلquot; عديم الشخصية، وزياد المولوي عبدو صبي القهوة الساذج، وفطوم حيص بيص....إلخ، والذين اعتمدوا في فنهم العظيم على تقمص تلك الشخصيات البسيطة الشعبية المحببة والقريبة من القلوب والتي نصادفها يومياً في الشارع والحارة الشعبية السورية بهمومها البسيطة البعيدة عن تعقيدات العصر ومشاكله، وأزماته الكبرى.

ولا أنسى حين كنت أعمل في التدريس في بداية الثمانينات في تلك الدولة العربية البعيدة، والخارجة من القرون الوسطى، كيف كان الطلاب يسألونني، بكل براءة، أستاذ هل تعرف غوار؟ وهل تعرف أبا عنتر، ويرددون كليشاته المعروفة وجمله الشامية المحببة على القلوب (ناكتة، وعرضية، وما لها فكاهة، وما لها مازية..إلخ)؟ وهل ترى أبا رياح وحسني البورظان يا أستاذ...؟ لظنهم أن سوريا هي حارة صغيرة، وكلنا نرة بعضنا كل يوم من الكبير للصغير. غير أن هذه الأسئلة البسيط كانت تنم عن شيء آخر أكثر أهمية وإثارة، وهو مدى تغلغل تلك الشخصيات السورية البسيطة في وجدان وعقل وقلب هؤلاء الفتية الصغار، وكيف يوحد الفن المشاعر والعواطف واللغة والوجدان...إلخ؟ ولأن المسلسل البسيط والسهل الممتنع استطاع أن يكون عابراً للحدود الوطنية بلغته البسيطة والسلسة والسهلة وأحداثه العادية التي تحدث في حارة صغيرة ومغلقة تحولت إلى نطاقات عولمية وحاملة لثقافة ونقل منظومة سلوكية ولغوية إلى عوالم أخرى بعيدة.

ولعل شخصية أبي عنتر ابن الحارة القبضاي وquot;الزكرتquot; المحافظ على الشرف والأخلاق والذي لا يهادن في قضايا الرجولة، والشرف، والإباء والتي جسدها باقتدار الراحل الكبير والتي زرعت البسمة والفرح والتأمل والإعجاب على غير محيا وشفة، وصارت كليشاته يرددها كل لسان، وهي واحدة من أبرز الشخصيات وأكثرها قرباً من القلوب نظراً لما تستجيب لعمق ونوازع ومكنونات لدى المتلقي من ميل غريزي للفتوة والقوة وحب الخير والبطولة ونصرة الضعفاء، ورغم أنها كانت تظهر، أحياناً، جانباً من quot;الرعونةquot; والطيش والتهور البريء المضحك، ويتم استغلالها لغايات شخصية وأحياناً شريرة من قبل العاشق المتيـّم غوار في تحقيق هدف سياساته ودبلوماسية المشاغبة والرامية فقط إلى هزيمة البورظان، والفوز بقلب فطوم حيص بيص. واحتلت، لذلك، مفارقاتها وتصرفاتها، مكاناً عزيزاً في قلوب الكبار والصغار في عموم هذه المنظومة الشرق أوسطية الناطقة بالعربية.

ولن ننسى، في أيام تلفزيون الأبيض والأسود، والبث المحصور بساعات معينة، كيف كنا ننتظر بلهفة وشوق، ومن أسبوع لأسبوع، أحداث الحلقة التالية من ذاك المسلسل الرائع، وحيث كنا نتسمر، تاركين اهتماماتنا الأخرى وواجباتنا المدرسية الثقيلة وراءنا، أمام شاشات التلفاز وفق طقوس عائلية، وشخصية خاصة، تغمرها حالة عالية من الاندهاش والترقب والاهتمام، لولا أن لذاك المسلسل وتلك الشخصيات سمات وخاصيات وروح ونكهة مميزة جعلتها تسيطر على العقول والأفئدة والألباب وتستأثر بكل تلك المتابعة و الاهتمام، ولولا تلك العبقريات الفنية التي استطاعت أن تتقمص بحرفية ومهنية واقتدار تلك الشخصيات، وتوقظ بعمق وتنقر على وجدانيات وطنية ومحلية، ومن دون أي تكلف وتصنع، مستبطنة في العقل الباطن للناس.

وحرّي بنا ونحن نعبر هذا الزمن، وفي هذه اللحظات التي تعج بالأحداث الصاخبة،أن نقف للحظات، وقفة تحية وإجلال واحترام، استذكاراً وفاءً وتقديراً لهذه العبقرية الفنية السورية الفذة التي دخلت في الخيال واللاوعي لطيف واسع وشرائح غير محددة من الناطقين بالضاد، وكل من عرف هذه الشخصية الفنية الفريدة في تلك الحقب الخوالي الجميلة الهادئة، التي أصبح استذكارها مهمة شاقة بين ركام الرثاثات، والابتذالات، والسلفنات الطافية على سطح هذه الجغرافيات، وحلت محل كل ما هو جميل، ورائع حفل به ذلك الزمن الرومانسي الطفولي البديع الطيب الأخـّاذ.

وهكذا هو، دائماً، رحيل العمالقة والعظماء، حياة حافلة مليئة بالعطاء والتدفق والإبداعات، ورحيل بهدوء وصمت، وبعيداً عن الضجيج والأضواء.

للفقيد المغفرة والرحمة، ولآله، ولعموم الأسرة السورية الكبيرة، جميعاً، الصبر والسلوان.

نضال نعيسة
[email protected]