أضحت العولمة الـ Globalization، اليوم، حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها، بحال. وما هذا التقارب وسقوط الحواجز بين الثقافات والشعوب، والتأثر، والتأثير المتبادل بين كافة المفاصل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عموم الكوكب الأرضي، إلا تأكيد على هذه الحقيقة الماثلة والفاقعة التي قد تروق، وتريح البعض، ولكنها قد لا تروق، ولا تريح البعض الآخر. ولذا فقد بات السؤال المنطقي هو ليس كيف نوقف هذه العولمة، بل كيف سنسلم بوجودها، وبالتالي سنتعامل معها، وما هي الأدوات والسبل لذلك؟ فهي تتقدم باضطراد مثير، فارضة نفسها على كافة التفاصيل والجزئيات الحياتية، غير آبهة بكافة صيحات الاحتجاج والاستنكار الصاعدة من هنا وهناك، محمولة على روافع قوية وثابتة وضاربة كثورة التكنولوجيا والمعلومات وانفتاح الفضاءات على مصاريعها أمام حرية وتنقل وتدفق تلك المعلومات.
والأزمة الاقتصادية العالمية التي يعيشها العالم اليوم، والتي أظهرت الجانب المرعب والمنفلت للعولمة، وما بدا من وجه رأسمالي بشع، شرس، ومتوحش لها، أفقر أمما وشعوباً ورمى بالملايين في هاويات البؤس والتشرد والإفلاس، وزاد من حدة البطالة، ورفع من أرقامها، وضرب معدلات النمو والازدهار، وأخلّ بالأنظمة المصرفية الـ Banking Systems وعرضها للانهيار مع البورصات ومؤشرات الأسواق، كما حصل مع مجموعات بنكية شهيرة جراء عمليات مجنونة لسحب ودائع بالجملة Mass Deposits Drawing، كما شفطت quot;الآليات الخفيةquot; للرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة المليارات التي تبخرت وطارت في الهواء،( يذكر في هذا الصدد كيف سطا برنارد مادوف مدير ناسداك على خمسين مليار في عملية نصب واحدة)، ووقعت دول وشركات كبرى ومؤسسات عالمية وبنوك متعددة الجنسيات تحت وطأة المديونية والإفلاس وعمليات احتيال، وفقد الملايين الأمل في حياة كريمة وخسروا وظائفهم وأعمالهم وتشرّدوا مع أسرهم في العراء، (أوردت وكالات الأنباء والتلفزة صوراً مؤثرة ومعبـّرة، لأميركيين اضطروا للسكن في الخيام لعجزهم عن الإيفاء بمتطلبات سكن كريم بعد أزمة الرهن العقاري الشهيرة التي نجمت عنquot;متواليةquot; الدَّين الافتراضية التي كانت الشرارة الأولى وراء اندلاع الأزمة الحالية، وتقف وراء ما تشهده معظم دول العالم والاقتصاد العالمي من حالة ركود Recession، يعتقد كثيرون بأنها الأسوأ بعد أزمة الكساد العالمي الكبرى في ثلاثينات القرن الماضي الـ Great Recession، ولذاك فإنه لا بد من إعادة نظر ودراسة جادة لبنية هذه الظاهرة التي هي حتمية عصرية وإنسانية ولا يمكن التعامي عن وجودها، غير أنها تنطوي على مخاطر جمة إن لم يتم ضبطها. وفي شقها السياسي أظهرت أنها، أيضاً، ذات بعد وصائي وعدواني انتقائي شرس، لا يقل عن بعدها الاقتصادي، يستهدف دولاً بعينها، عبر التدخل بشؤونها، والتحكم بمقدراتها وثرواتها، واللعب بمصائرها، ومستقبلها، وأمنها وتعريض سيادتها للخطر، وكياناتها الوحدوية للزوال.
ومع قمة العشرين التي تعقد في لندن،( هذه القمة هي محض فعل عولمي بحد ذاته)، لمناقشة ذيول وعواقب الأزمة الاقتصادية العالمية، واستنباط أنجع السبل لإنقاذ العالم من مغامرات النيوليبرالية المتوحشة وتداعياتها والتقليل من آثارها السلبية الكارثية، فقد كانت هناك فعاليات احتجاجية على هامشها لنشطاء ولسياسيين ولأفراد عاديين وهيئات اعتبارية أخرى من مناهضي العولمة في قلب العاصمة البريطانية لندن، تعبيراً عن رفضهم لهذا الجانب السيء الرأسمالي المتوحش للعولمة، والذي يعتبر quot;ألترا ليبراليquot;، وما فوق نيوليبرالي، وهو الذي أفضى لهذه الكارثة. وأحد تعريفات النيوليبرالية هي تقديس رأس المال والملكيات الخاصة وحمايتها والتحرير الاقتصادي الكامل غير الخاضع لأية قيود وضوابط والحرية المطلقة لحركة الرساميل والأعمال، ورهن الاقتصادات الوطنية بيد مجموعات وهيئات وأفراد تتداخل، بكل تأكيد، مع مؤسسات أخرى متعددة الجنسية ذات انتماءات عابرة للحدود الوطنية.
لا مفر من العولمة والتعولم، ولا مناص من الاعتراف، بنفس الوقت، بوجود وجوه مشرقة وطيبة لها، يمكن استثمارها في رقي ورفعة وازدهار بني الإنسان. فلا يمكن بحال، ومع هذه الفورة العولمية الدافقة، وقف تقدمها، أو إعادة عقاربها إلى الوراء إلى الأزمنة الغابرة أيام الغيتوهات والانغلاق على الذات والانفعال وعدم التفاعل الخلاق. لكن المطلوب وهذه الحال، هو أنسنة هذه العولمة Humanizing Globalization، على الأقل، أي جعلها إنسانية وفي خدمة الإنسان، لا في تدميره وأذيته، ومحاولة نزع أنيابها القاتلة، وضبطها، وكبح جماحها، وقوننتها وتوظيف مكتسباتها ووجوهها المشرقة، والخيّرة في خدمة الإنسانية ونعيمها وازدهارها ورفاهها، وذلك عبر استنباط الآليات والأدوات والتشريعات والسبل التي تكفل تفعيل الجوانب المشرقة منها، وعدم تكرار ما حدث في الأمس القريب من كوارث ومآس اقتصادية، وهذا ما يؤمل من مؤتمر لندن.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات