هل هناك شهود على عملية الخلق؟الأسئلة الأولى ميتافيزيقية لاقبل للعلم بتقديم الإجابات الكافية والوافية عليها وتكفلت الأديان بتقديم ما تخيلته بأنها الحقيقة المطلقة التي تمتلكها بهذا الصدد والتي تتناقض جملة وتفصيلاً مع المعطيات العقلية والعلمية التي حاولت الإجابة على السؤال الرابع. يلخص الإسلام الجواب على الأسئلة الثلاثة الأولى في جملة واحدة وردت على شكل حديث نبوي يقول على لسان الله :quot; كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي يعبدونيquot; وقد ورد بصيغة أخرى مشابهة :quot; كنت كنزا خبيئا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وبه عرفتquot;. أما الطريق أمام العلم فمحفوفة بالمخاطر والصعوبات والعقبات والعوائق والاحباطات والمراجعة وإعادة النظرة بالمسلمات والنظريات العلمية دوماً كلما ظهر جديد للإجابة على السؤال الرابع. العلم يقول نعم يوجد شهود على اللحظات الأولى للخلق ولكنهم ليسوا بشراً ولا ملائكة ولا إنس ولا جن بل جسيمات ودقائق أو جزيئات هي من مكونات الكون الأولية الأصيلة والجوهرية أو التأسيسية حيث يحاول العلماء رصدها واكتشافها أو استشعارها في مكان ما في الكون.
قبل خمسين عاماً تخيل الباحثون في الفيزياء الفلكية والفيزياء النظرية وفيزياء الجزيئات، أن الكون كان مليئاً بدفق هائل من النوترينوات NEUTRINOS البدئية أو الأولية الأصيلة، الجوهرية والتأسيسية. وكان تأكيد هذه الفرضية أحد أهم النجاحات التي حققها علم الكونيات المعاصرLa cosmologie moderne. هل لعبت النوترينوات neutrinos دوراً حاسماً في تاريخ الكون؟ وهل هي بأعداد كبيرة لدرجة أنها يمكن أن تعدل التطور الشامل للكون؟ علماً بأن العلماء واجهوا مفارقة جدية في هذا المضمار. كيف أمكن لجزيئات هي الأخف مما نعرفه أن تؤثر على البنيات الكونية الأكبر والأهم؟ ومع ذلك، ومنذ وجود هذه الفرضية لم ينقطع الفيزيائيون عن التساؤل حول هذه الصلة. في سنة 1953، وقبل رصد هذه الجزيئات، اقترح العلماء رالف آلفر Ralph Alpher، وجيمس فولان James Follin، وروبرت هيرمان Robert Herman، من جامعة جون هوبكنز في مايرلاند، فكرة وجود عمق كوني من النوترينوات ناجم عن المرحلة الساخنة والكثيفة جداً التي أعقبت الانفجار العظيم البيغ بانغ Big Bang، وكان ذلك الدفق الأولي الأصلي من النوترينوات يملأ الكون برمته على غرار العمق الكوني الجوهري والتأسيسي من الميكرو موجة Fond cosmologique Micro_-onde الذي اقترحه العالم الروسي جورج غاموف Georges Gamow قبل سبعة أعوام من ذلك التاريخ. وكان هذا العالم قد تنبأ أو تكهن بوجود دفق من الفوتونات في الكون عرفت كذلك باسم الشعاع المتحجر للبيغ بانغ rayonnement fossile du Big Bang.
الفوتونات والنوترينوات.
اعتقد علماء جامعة مايرلاند الثلاثة أن الكون كان يحتوي أعداداً متقاربة من الفوتونات والنوترينوات photons et neutrinos التي ولدت قبل 7،13 مليار سنة وفق السيناريو التالي: خلال جزء لامتناهي في الصغر من الثانية بعد البيغ بانغ الانفجار العظيم، ولغاية 380000 سنة، كان الكون مليئاً بغاز ساخن ومكثف جداً سمي بالبلازما الجوهرية أو الأساسية البدئية plasma primordial حيث تم احتواء الجزيئات والدقائق الأولية particules eacute;leacute;mentaires وجعلها في حالة توازن عبر مجموعة من التفاعلات والتفكيكات والصدامات، وهي المرحلة التي أطلق عليها إسم مرحلة التوازن الحراري peacute;riode drsquo;eacute;quilibre thermique
وبمعرفتنا للخصائص الأولية للنوترينوات والفوتونات والبروتونات والالكترونات وباقي المكونات للبلازما البدئية، يمكننا حساب وفرتها النسبية بدقة خلال تلك الفترة ويمكننا تعميمها extrapoler حتى على فترات أحدث زمنياً. وقد وجد العالم آلفر Alpher وزملائه أنه في بضعة عشرات الآلاف من السنوات الأولى للكون، كانت الطاقة الكلية في الكون موزعة بين الفوتونات بنسبة الثلثين تقريباً والنوترينوات بنسبة الثلث تقريباً، أما طاقة باقي المكونات فكانت من القلة بحيث يمكن إهمالها أي البروتونات والنترونات والالكترونات الخ protons،neutrons،eacute;lectrons، etc.
ولكن سرعان ما طغت أشكال أخرى من المادة على هذه البلازما البدئية في لحظة quot; المساواة بين الإشعاعات والمادةquot; والتي يحدد تاريخها بـ 60000 سنة بعد الانفجار العظيم البيغ بانغ. وانعكس الأمر حيث أصبحت طاقة الفوتونات والنوترينوات، وبالتدريج، هي المهملة مقارنة بالمادة المرئية العادية المكونة من الذرات، والمادة السوداء المسؤولة عن الكتلة الخفية للكون. وبغية تفسير وتقبل حقيقة تسارع توسع وتمدد الكون التي فرضتها نتائج الرصد والمراقبة الفلكية التي تمت حتى نهاية سنوات التسعينات في القرن العشرين، اضطر العلماء إلى افتراض وجود طاقة معتمة أو داكنة ذات طبيعة مجهولة وغامضة ويبدو أنها هي التي هيمنت على الكون منذ مليارات السنين. وبهذا فإن مساهمة النوترينوات الأولية الأصيلة في الطاقة الكلية للكون غدت اليوم ضئيلة لا تذكر قيمتها. وإن توقعات أو تكهنات النموذج الكوني القياسي modegrave;le cosmologique standard، مقرونة بحسابات درجة حرارة العمق الكوني ميكرو موجة، وبمعدلات توسع وتمدد الكون، قد حددت قيمة حد أدنى قدرت بـ 003،0% من الطاقة الكلية. وبإدخال آخر الاستنتاجات وأحدث المعلومات بشأن كتلة النوترينوات، المستحصلة من دراسة ذبذباتها وتأرجحها، وكذلك دراسة صيرورة التفكك والتلاشي للتريتيوم deacute;sinteacute;gration du tritium، يمكن تأكيد هذه النبوءة : إن مساهمة النوترينوات ستكون بين 1،0% و 4%. وأخيراً، ووفق عمليات المراقبة للبنى الكبرى للكون، من المقبول منح نسبة 1% للنوترينوات الأولية أو البدئية التأسيسية من مجمل الطاقة الكلية للكون. وبالمقابل فإن العدد الحالي للنوترينوات الأولية التأسيسية سيظل مهماً ومتوافقاً مع تكهنات العالم آلفرAlpher وزملائه حيث متوسط هذا العدد هو 339 نوتريون في كل سنتمتر مكعب مقابل 412 فوتون.
هل ستصمد هذه النظريات أمام نتائج عمليات الرصد والمراقبة الكونية ؟ لقد تمت مراقبة العمق الكوني التأسيسي ميكروـ موجة fond cosmologique micro-onde سنة 1965 على يد العالماء آمو بنزياس Amo Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson بواسطة راديو تلسكوب أو التلسكوب الإشعاعي radio-teacute;lescope الأمر الذي قدم لنموذج أو موديل البيغ بانغ دليل صحته الناجع والمتألق. بيد أن النوترينوات الأولية الأساسية ماتزال صعبة المنال ويتعذر الإمساك بها، على عكس الفوتونات، وتمتلك إحتمالية هزيلة من الطاقة مما لا يساعدها على الظهور، ولايمكن رصدها مباشرة اليوم. وكما نعلم أن النوترينوات بدون شحنة كهربائية، وذات طاقة قليلة، وأنها حساسة للتفاعلات الضعيفة والثقالية أو الجاذبية، ولكن بمستويات لايمكن الوصول إليها. وإن كتلة النوترينوات من الصغر بمكان أنها عند مرورها بالقرب من جهاز استشعار سيرصد هذا الأخير قوة ثقالة مهملة ومن المستحيل عرضها. أما أجهزة الاستشعار الحساسة للتفاعلات الضعيفة، وعند توجيهها نحو العمق الكوني للنوترينوات، فمن المفترض نظرياً أن تتحرك وتهتز وتتذبذب ولكن بنسبة تسارع 10-26 سنتمتر في الثانية، والحال أن أصغر مسرع استشعار يصل إلى 10-13 سنتمتر في الثانية. فأجهزة رصد واستشعار النوترينوات الحالية تلاحق ثمار التصادمات بين نوتريون وجزيء أولي آخر سواء أكان الكترون eacute;lectron، ميون Muion، أو نوتريون آخر، الذي يمكن أن ينتج، بفضل التفاعلات الضعيفة، جزيئات أخرى يسهل رصدها واستشعارها. وهنا أيضاً لا يمكن لهذه التفاعلات أن تحصل إلا إذا كانت الطاقة الكلية للجزيئتين الأصليتين الأساسيتين تتجاوز حداً معين. وهذه ليست حال النوترينوات الكوزمولوجية أو الكونية التي تكون فيها الطاقة الحركية الـ cineacute;tique أضعف بكثير.
تقرر اللجوء إلى طرق أخرى للرصد والاستشعار المباشر كدراسة تصادم نوترينوات كوزمولوجية مع جزيئات ذا طاقة قصوى تنتج في مسرع أو مصادم للجزيئات. ولكن وللأسف، فحتى الجزيئات التي ستنتج داخل مسرع أو مصادم LHC الأوروبي الشهير على الحدود الفرنسية السويسرية وهو الأكبر والأضخم في العالم، لن يكون لها طاقة كافية، ففرصة الحصول على تصادم واحد خلال سنة هي في حدود واحد من عشرة آلاف. الخيار الأقل فنتازية أو لاواقعية يتمثل برصد تصادمات بين نوترينوات تأسيسية أصيلة مع نوترينوات ذات طاقات عالية جداً تعود للإشعاعات الكونية. ومن المفترض أن يحصل هذا النوع من التصادمات من وقت لآخر داخل الكون. وبهذا الصدد يتعين علينا إجراء مراقبة دقيقة جداً للإشعاعات الكونية التي تصل للأرض ويمكن أن تعطينا نتائج مرجوة.
السنوات العشرين الماضية كرست لعمليات الرصد والاستشعار غير المباشر. هل بالإمكان وضع سمة أو بصمة يقينية لاجدال فيها للعمق الكوزمولوجي للنوترينوات عبر دراسة التطور الشامل للكون؟ وبما أن مساهمتها الطاقوية يجب أن تبلغ حوالي الثلث في الكون البدائي، لذا يتوجب علينا البحث في الكون الفتي الذي يقل عمره عن 60000 سنة بعد الانفجار العظيم للتنقيب عن آثر للنوترينوات الأساسية الأصيلة الأولية.
السبيل الأول أو الأثر الأول للتحقيقات مرتبط بالتفاعلات النووية التي حدثت بين الثانية الأولى والثانية بعد الانفجار العظيم حيث ولدت العناصر الخفيفة الأولى الهدروجين، الدوتيريوم، الهليوم، الليتيوم، الخ.. hydrogegrave;ne،deuteacute;rium، heacute;lium، lithium ومنذ انتهاء تلك الفترة المسماة مرحلة التركيبة النووية nucleacute;osynthegrave;se التأسيسية الأصلية أو الجوهرية، كان الكون من البرودة بمكان لم يكن معها ممكناً حدوث تفاعلات نووية عدا تلك التي تحدث عادة في قلب النجوم. وفي البنيات العذراء لجميع الجزيئات التي تتولد داخل النجوم، بقيت نسبة التمايز ثابتة ومستقرة. والحال أن الـ cineacute;tique أو حركية التفاعلات الجوهرية تعتمد على أو تتبع معدلات توسع الكون، المرتبطة بدورها بكثافة الطاقة. فأية زيادة في الطاقة على شكل نوترينوات يتعين ان يكون لها تبعات على الوفرة النسبية لتلك العناصر الخفيفة. بيد أن التحليل الطيفي Analyse spectroscopique للبنيات مثل غيوم الغاز الفلكي بين المجرات nuages de gaz intergalactiques تسمح بالحصول على تلك الكميات. ومنذ سنوات التسعينات من القرن الماضي، أصبحت النتائج في توافق مع النماذج التي تدخل في صلبها النوترينوات بالنسب التي تم التكهن والتنبوء بها منذ العام 1953. وبذلك تم العثور على نوترينوات العمق الكوزمولوجي. الدليل غير المباشر الثاني يأتينا من دراسة مراوحات أو تماوجات وتذبذبات العمق الكوزمولوجي الميكرو موجة. وحسب الاتجاه المرصود، فإن دفق الفوتونات يتسم بتنوعات طفيفة للطاقة أي بالحرارة مما يعطينا كنزاً من المعلومات حول تركيبة وتكوين تطور الكون لاسيما بين بضعة آلاف من السنوات و 380000 عام بعد البيغ بانغ الانفجار العظيم. ومنذ خمسة عشر عاماً نصبت أجهزة ومعدات على مسبارات فضائية وأقمار صناعية مكرسة لتحقيق خرائط للكون بانتظام من جميع الزوايا. وبشكل خاص منذ شباط 2003 بفضل تلسكوب الفضاء الأمريكي المتطور جداً Wilkinson Microwave Anisotropy probe- WMAP تم الحصول على خرائط دقيقة. وإن التحليل الإحصائي لتلك الخرائط يعطينا قياس لكثافة الطاقة في الكون البدائي. وقد جاءت النتيجة لتؤكد التنبوء النظري الذي يقول أن كثافة فوتونات العمق الكوزمولوجي لاتكفي. هناك عمق أو جوهر آخر من الجزيئات بدون تفاعلات يجب أن يكون موجوداً بعد الانفجار العظيم بنسبة حوالي ثلثين إلى ثلث. ومن المتوقع أن يثبت القمر الصناعي الأوروبي بلانك Planck هذه النتيجة ويكرسها بعد إطلاقه في الفضاء في نيسان 2009. إذا كان هناك من يشك في وجود نوترينوات العمق الكوني فعليه أن يفسر غياب هذه الجزيئات في البلازما الجوهرية أو الأساسية plasma primordial، وغيابها من معطيات التركيبة النووية الجوهرية أو الأصلية التأسيسية nucleacute;osynthegrave;ses primordiale ومن التماوجات والتذبذبات لعمق أو جوهر الميكرو موجة fluctuations du fond micro-onde مما يعني أننا سنضطر لافتراض وجود مكون غريب ومجهول آخر بديل لديه نفس الخصائص الأولية للنوترينوات الأصلية التأسيسية أو الجوهرية تملأ الكون بنفس النسب. وهكذا فإن الوجود غير المباشر للنوترينوات الجوهرية الأصلية والتأسيسية أعتبر أحد أهم نجاحات علم الكونيات المعاصر. وقد ولدت هذه الفرضية منذ المراهنات الأولى بشأن نموذج أوموديل البيغ بانغ وتمت صياغتها سنة 1953 وسيكون لها انعكاسات ونتائج مهمة بالنسبة لعلماء الفيزياء. وهؤلاء مايزالون يتعثرون بخصوص الكتلة المطلقة للنوترينوات لأن التجارب على تذبذب النوترينوات لاتشير إلا لاختلافات وتنويعات في الكتلة. ويمكن لحساب أو قياس مطلق أن ينجز في السنوات العشرة المقبلة بفضل المراقبة الدقيقة والدءوبة للسماء وإن رسم خرائط مجسمة للكون على أوسع مستويات ممكنة، سيعطينا المعلومات الدقيقة حول الجزيئات الخفيفة. وإن مطاردة النوترينوات الأولية الجوهرية الأصيلة الشاهدة على ولادة الكون، مايزال مجالاً مفتوحاً وواعداً في العقود القادمة.
د. جواد بشارة
باريس
[email protected]
التعليقات