لمعرفة ماهية التطورات التي تحدث فيها، هل يمكننا طرح سؤال : ما الذي يجري في تركيا؟
مبدئيا لا يسمح تشابك الملفات سواء تلك العالقة او تلك التي على وشك الحل في منطقة الشرق الأوسط بطرح مثل هذا السؤال وكأن كل دولة تعيش مشكلاتها باستقلالية عما يجاورها. وبالتالي تنطبق هذه الفرضية على تركيا كما على غيرها من الدول في الشرق الأوسط، وعليه فإنه لا يوجد ملف أو قضية ما تتمتع بالحكم والادارة الذاتية في تطورها تجاه التأزم أوالحل. وهذا ما ينطبق على القضية الكردية التي تشهد مقاربة رسمية تركية تجاه حلها حسب التصريحات التي أطلقت مؤخرا بدءا من رئيس الجمهورية عبد الله غول إلى رئيس حكومتها رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته احمد داوود اوغلو. حتى الان يمكن وضع هذه المقاربة الجديدة في خانة التصريحات التي يمكن المماطلة والتراجع عنها بسهولة ولأردوغان عدة سوابق تخص القضية الكردية باستخدامها في الاستحقاق الانتخابي.


لا يختلف حتى المعلقون الأتراك في ان زحمة التصريحات الرسمية غير المسبوقة من جانب الحكومة التركية هي محاولة لقطع الطريق على خارطة الحل المرتقب التي سيطرحها عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني من سجنه في جزيرة ايمرالي منتصف شهر آب الجاري، وهو توقيت له دلالته العميقة بالنسبة للعمال الكردستاني الذي بدأ كفاحه المسلح في 15 آب 1984. هذا الاعتراف بدور مشروع الحل الذي سيطرحه الزعيم الكردي يدلل أن الرجل رغم شح المعلومات التي ترده إلى السجن خلال لقاءات القصيرة مع محاميه او الصحف المقتطعة والقديمة التي تسمح إدارة السجن باطلاعه عليها بأنه أكثر من يقرا الأحداث التي تشهدها المنطقة وملاءمتها لانفراج في القضية التي تكلف كلا من تركيا والأكراد مليارات الدولارات سنويا سواء على شكل قروض يمول بها الجيش عملياته العسكرية او التدمير الذي تسببها العمليات عدا عن الغابات التي يتم حرقها من قبل الجيش لإجبار بعض عناصر العمال الكردستاني على الخروج. من هذه الرؤية الشاملة لمنطقة الشرق الأوسط فإن الحكومة التركية مضطرة على القبول بالحل لأسباب سنذكرها، وهي بدلا من ذلك تقوم بطرح وجهة نظرها للحل لتفادي الاعتراف بالجهة التي سيتم التباحث معها من الطرف الكردي المتمثل بالعمال الكردستاني وحزب المجتمع الديمقراطي الكردي ( 21 نائبا في البرلمان)، ومنذ فترة ليست بالقصيرة بدأ رؤساء تحرير الصحف التركية سواء تلك التي تؤيد الحل الذي يطرحه اوجلان كصحيفة طرف او راديكال والصحف التي تعارض رؤية أوجلان كجمهورييت وحرييت وزمان فإن تصريحات اوجلان أصبحت متناقلة على صفحات هذه الصحف بعد ان كان يتم تجاهلها لسنوات طويلة من سجنه.


الرؤية التركية الرسمية، وحسب مصادر مطلعة و مقربة من العمال الكردستاني، تعتمد على طرح حل مجتزأ للقضية الكردية ليتم الترويج له بأنه حل شامل، مثل فتح فروع للدراسة باللغة الكردية في بعض الجامعات، وهذا من شأنه ان يؤزم القضية اكثر لأنه لا يعترف بأي طرف عن الجانب الكردي، أي طرح احادي. فكيف سيعترفون بالحقوق الكردية وهم لا يعترفون بوجود مخاطب كردي يتفاوضون معه؟ هذه الرؤية تعتمد على معادلة ابتكرها وزير الخارجية احمد داوود أوغلو بأن أفضل طريقة لتجنب الجلوس مع ممثلي حزب العمال الكردستاني وبالتالي الاعتراف به هو حل المشكلة بدونهم.


لكن من خلال مراجعة اللقاءات الأخيرة لأوجلان مع محاميه نجد ان تجنب الحكومة للحل الذي يطرحه يعود للرؤية الشاملة التي يتضمنها حل اوجلان، فهو لا يهمل رؤية مصطفى كمال اتاتورك تجاه منح الأكراد للحكم الذاتي في الدستور الذي طرح عام 1923 وفي الميثاق المللي، ورغم اتهام جهات كردية عديد لأوجلان بان أصبح كماليا (نسبة لكمال اتاتورك) إلا أنه استطاع الكشف عن الجانب المحرج من شخصية اتاتورك للقوميين الأتراك والكماليين، بحيث لا يجرؤ احد منهم على القول ان اتاتورك كان على خطا لو فكر بذلك. وبالتالي الفرق بين حل الدولة الذي يعمل عليه أردوغان وخارطة الحل التي سيطرحها اوجلان قريبا أن الأول سيعتمد على تنفيذ إصلاحات تدريجية وتحت إشراف الدولة مباشرة دون السعي لطرح دستور بديل وعصري يعترف بالاتحاد الاختياري بين الشعب التركي الذي كان سيكون محمية يونانية وايطالية في الحرب العالمية الاولى لولا حرب التحرير التي قادها اتاتورك من المناطق الكردية حتى تحرير ازمير. وهذا ما يطرحه اوجلان. اماعن سر تهافت كل من الجانب الكردي او التركي على هذه التوقيت بالذات لطرح الحل، فيعود لعدة عوامل داخلية وإقليمية:


اولا : اقتراب موعد الانسحاب الأميركي من العراق الذي سيخلق فراغا امنيا كبيرا مما يؤثر سلبا على سيطرة تركيا على جوارها الاقليمي المحاذي لكردستان العراق والتي ينشط فيها حزب العمال الكردستاني إضافة إلى معظم الولايات الكردية داخل تركيا.


ثانيا : إن طرح الحل الذي لا يمكن ان يكون كاملا من الجانب التركي بسبب السرعة التي سيتم من خلالها تنفيذها، يهدف لاقناع الجانب الأميركي أن حزب العمال الكردستاني أصبح عائقا امام استمرار الحل المطروح، وبالتالي ستلجا لاقناع القوات الأميركية لتوجيه ضربة للعمال الكردستاني شبيهة بتلك التي حدث لنمور التاميل في سريلانكا مع فارق كبير في الجغرافيا والامكانيات لصالح الكردستاني.


ثالثا: الكشف عن شبكة أرغينكون التاريخية في تركيا ومسؤوليتها عن الكثير من الجرائم التي ألصقت بحزب العمال الكردستاني رفع من مصداقية الأخير سواء في الاوساط الكردية المعارضة له او حتى من جانب القوميين الأتراك الذين يشعرون بالحرج لوجود تنظيم أسوأ بكثير مما كانوا يصورن به العمال الكردستاني لأنصارهم.
بالنظر إلى التضحيات الكبيرة التي قدمها العمال الكردستاني إلى حد زعزعة ثوابت الدولة التركية الرسمية حتى أعلى المستويات، فإنه من المستبعد نجاح أي حل احادي الجانب من الحكومة دون القبول بزعيم الحزب او ممثلي حزب المجتمع الديمقراطي كطرف كردي يمر الحل من خلالهم وليس من فوقهم او تحتهم، وهو ما وصفه أوجلان بأنه لو حدث ذلك ستكون تعبيرا عن quot;انعدام للأخلاق السياسيةquot;.

حسين جمو