د. محمد بن صنيتان
لعلى أقدم مقاربة فلسفية في ما يتعلق بهندسة المجتمع. فالتحولات العالمية التي تنقلنا من عصر الخليفة و الوالي و عصر البطانة التي ندعو لها بالصلاح والتقوى عقب كل صلاة إلى عصر الأفكار والرؤى والمقترحات والدراسات التي تفكر للمجتمع think tank و تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني كل باختصاصه حتى تصبح معين من الرصيد المعرفي و التراكم العلمي ترجع له مؤسسات القطاع العام والخاص في كل ما استجد فى شئون الدولة من أمور.
و لهذا فالسؤال الكبير الذي يلح فى طلب الإجابة ماذا قدمت الحكومة السعودية من إنجازات فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية ، و ما هي العقبات الاقتصادية و السياسية و الإدارية و الثقافية و الاجتماعية التي واجهت المجتمع السعودي و كيف عالجتها الحكومة ؟
1- هندسة المجتمع.
فعندما أراجع مسيرة المجتمع السعودي منذ تأسيس الدولة لم أجد أي اجتهاد يتعلق بهندسة المجتمع. وقد يكون قبل أربعين سنة لا يحتاج المجتمع إلى مثل هذا الهندسة لصغر المجتمع والتعايش اليومي بين القيادة والمؤسسات الحكومية و المجتمع.
أما بعد ما فاجأته الطفرة و ما صحبها من الرغبة الملحة على الاستحواذ على المال العام من قبل البيروقراطية وكافة الفاعلين فيها وما لازمها من آثام و أضرار اجتماعية لمعايشتها لظاهرة الوافد من عربي و مسلم وغير مسلم. مما جعل المجتمع يتباعد بعضه عن البعض الآخر و تدخل فيه أفكار وافدة على قدر الوافدين ثقافة و جغرافيا ثم ما جاء من ثورة إعلامية و معلوماتية لم تجعل أية حدود بين ثقافة العالم.
مما جعل من الضرورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التطلع إلى ما يعرف بالتنشئة الاجتماعية و الهندسة الاجتماعية التي لم أجدها ضمن الجردة السنوية فى أداء الدولة و على مدة من العقود المنصرفة.
القراءة الاجتماعية والسياسية للمجتمع السعودى تؤكد أنه يعانى من أزمة الثنائي الاجتماعي البدوي و الحضري و الثنائي الجغرافي النجدي و الحجازي و التعدد الثقافي إلى سني و شيعي. و السني إلى علماني و متشدد و متصوف وجامبي ومقدسي و سلفية اخطبوطية ذات أرجل وأيادي كثيرة ومتنوعة و فروع أخرى كثيرة ومتعددة. مما يؤكد أهمية هندسة المجتمع ولعلي أتناول في نقاط بعض ما يجب على السياسي و الاجتماعي فعله من وجهة نظر خاصة دون التوسع في التفاصيل.
2- الانصهار والذوبان الاجتماعي.
فالإستراتيجية السعودية لصهروذوبان
المجتمع السعودي يستحسن أن تبدأ بالانصهار الثقافي لا أقصد وحدة الثقافة بمذهب معين بل تتعايش المذاهب وفق المشترك من المواطنة الذي لا يلغى الحقوق و الواجبات و لا يصادر الحق في ممارسة المعتقد المذهبي وهذا يتطلب أولاً إصلاح المؤسسات الدينية و إعادة هيكلتها مما يجعلها إذا لم تكن رافعة التطور لم تقف في وجه التقدم والتحديث. مع قبول مذاهب الأقلية ضمن هياكل المؤسسة الدينية فيما يتعلق بالوقف و الأحوال الشخصية. وبناء دور العبادة وأداء الشعائر بحرية تامة وهذه فرصة للتعايش مع المذهب الأوسع في المجتمع
وكذلك تقنين القضاء ليعلم كل مواطن ومقيم ماله وما عليه. ووضع نظام للقضاء يوضح فيه حقوق وواجبات المواطن والمقيم والعابر في بنود و مواد معلومة للجميع بصرف النظر عن مذهب القاضي وميوله الأيديولوجية. ًفهو ملتزم بدستور القضاء في الخصومات و الوقف و الأحوال الشخصية. ولا يوجد اختلاف فيما أعلم بين المذاهب المسلمة إلا في الأحوال الشخصية و الوقف وكيفية أداء الشعائر الدينية وكل عموم المسلمين لا يختلفون على أركان الإسلام و أن اختلفوا في كيفية الممارسة.
وفي هذا المقام أود أن أعود بالقاري إلى الحرب العالمية الثانية ، فبعد نهايتها اجتمع تشرشل رئيس وزراء بريطانيا بحكومته لتقييم الأضرار الناجمة عن الحرب وكانت تقارير الوزراء جدا مرعبة. فسأل تشرشل ما هو حال القضاء؟ فقالوا بخير فقال إذا بريطانيا بخير. ومن الممكن إصلاح كل شيء.
و من ضمن نجاح الهندسة الاجتماعية ألا تكون المواقع في المؤسسة الدينية و لا غيرها من دوائر الدولة امتياز خاص لمذهب معين أو إقليم أو عائلة معينة. كما من المفروض أن لا يكون التعيين لأشخاص من المذاهب الفرعية بتدخل سياسي يفرضه الواقع المعاش. وإنما لابد أن تكون المسئوليات سواء سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها لأهل الاختصاص و الجدارة و الكفاءة و الاستقامة و أصحاب الصفة المشهود لهم بالفضل والعفة و الخصال الحميدة وفق آلية عادلة بصرف النظر عن مذهبه أو منطقته أو قبيلته أو عائلته على أن يلتزم الجميع بدستور الدولة سواء في الإمامة أو القضاء أو الإفتاء أو مجلس القضاء الأعلى أو هئية كبار العلماء. ولا سيما أن الدستور المقترح سيراعى الفروق المذهبية فيما يختص بمعتنقي المذهب فقط.
ولابد من تحديث الخطاب الديني بثقافة عصرية تغير المظهر دون الجوهر و المضمون سواء في الماديات أو الروحانيات و السلوك باعتبار سنة الرسول صلى الله عليه وسلم و الخلفاء وجمهور المسلمين مرجعية أساسية في ما هو من الدين بالضرورة كما أمرنا بأننا أعرف في أمور دنيانا. ولا شك أن معرفة الدنيا تتجدد بتجدد الزمان والمكان و التحولات العالمية و المستجدات المعرفية فديوان الجند معرفة مستجدة في عصر الخليفة عمر بن الخطاب وأخذ بها كما أن عمر بن الخطاب ألغى مفعول نص قرآني يتلى في المؤلفة قلوبهم و أقره عموم الصحابة.وسحب إقطاع الرسول ( ص) للمزني وقال لك ما أحييت. ومن هذه الحادثة نستدل على أن إقطاع ولي الأمر للأحياء وليس للتملك إلا بعد الإحياء. بعكس ما هو معمول به الآن ، فالأرض تباع عشرات المرات وهي بيضاء جردا لم تمسها يد إنسان. مما مكن المتنفذين من الأستحواذ على الاف الكيلو مترات سنوات كثيرة حتى تأتي الفرصة في بيعها على مشاريع حكومية او تخطيطها وبيعها على المحتاج للسكن في مبالغ مرتفعة جدا.
وأستغرب من الذين لاتفوتهم شاردة أو واردة إلا أفتوا فيها حتى في دم البعوض. ويكلفون المسمين شططا في كثير من فتاواهم ، ويسوقون الناس زرافات ووحدانا إلى الديون ثم السجون ببدعة الفتوى في التعاملات الإسلامية وهي أس الاستغلال الذي هو العلة في تحريم الربا. ولا يلتفتون إلى هذه الظاهرة التي حسمها الفاروق منذ أكثر من 1400عاما. لأننا انشغلنا بالنقل عن العلماء المعاصرين وفي العصور الوسطى ونسينا الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وسنة معلم الإنسانية وهادي البشرية نبي الرحمة المهداة محمد بن عبد الله ( ص ).
فالمرجعية الموجبة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم و عمل الخلفاء الراشدين دون الوسطاء من المعاصرين ومن العصور الوسطى الذين بدأنا نسمع النقل عنهم أكثر مما نسمع عن الرسول و صحابته ، إلا أننا نحتاج لاجتهادهم وفق شروط الاجتهاد ومبرراته في التوسيع على المسلمين و ليس تضييق الواسع من الدين مع التركيز على مضمون الإسلام وفهمه وفق مقتضيات العصر وفقه الواقع وفقه الأزمات و فقه الضرورات. دون أن يوقع هذا الاجتهاد المسلمين في حرج في دينهم أو دنياهم أو يجرهم في مغامرات غير محسوبة مع القوى العظمى. والحديبية أعظم درس سياسي للمسلمين.
التعليقات