دلور ميقري من أوبسالا: حالُ الوصلة المثيرة، التي تؤديها الراقصة الشرقية في أيّ فيلم مصريّ، ميلودراميّ، فالصفعة لها الأهمية ذاتها هنا؛ طالما أنّ المُبتغى منها هوَ تزلف ذوق الجمهور ذي الخلفية الثقافية البسيطة أو المعدومة. ميزان هذا الذوق، الشعبيّ، مرجّحٌ غالباً لكفة الذكورة في هكذا مجتمع مسلم، محافظ، ما فتأ يرهن نصفه الآخر، الأنثويّ، لما يُشبه حياة quot;الحرملكquot;؛ أي علاقة السيّد بالجارية. وليس جديداً التنويه بهذه المقولة، المفيدة بأنّ وضع المرأة، سلباً أو إيجاباً، هوَ ما يعكس وضعَ المجتمع ككل. وبما أنّ السينما، طوال قرن من الزمن، كانت بمثابة مرآة المجتمع المصريّ، ولحدّ اليوم بهذه الدرجة أو تلك ، فسنحاول هنا، من خلال ثيمة quot;الصفعةquot;، المُجادَلة بصحّة تلك المقولة، الموسومة؛ وهيَ الثيمة، التي نزعمُ منذ البدء بحضورها القويّ، الضروريّ، في معظم الأفلام الميلودرامية. بقيَ أن نذكّر في هذا المستهل بحقيقة أخرى، لا تقلّ أهمية في الواقع، تؤكّد مدى تأثير الفنّ السابع، المصريّ، على جمهور عريض من محبّيه في منطقتنا وإمتداداً حتى دول شمال أفريقية. ولن نكون مغالين كثيراً إذا ما ذهبنا إلى حدّ التأكيد، على أنّه تأثيرٌ أسهمَ بشكل أو بآخر في تشكيل ذائقة ووعي ذلك الجمهور، بدءاً من عشرينات القرن المنصرم وحتى وقتنا الحاضر. فلا غروَ أنّ تنعت القاهرة بحق بـ quot;هوليوود الشرقquot;.

طقس الإعتراف
الصفعة، سينمائياً، هيَ تجلّ لسلطة الرجل، المطلقة، في المجتمع الإسلاميّ والمُستمدّة غالباً من أحاديث تمّ نسبها للرسول؛ أحاديث إعتباطية،تتمحور على التأكيد بأنّ طاعة الزوج من طاعة الربّ. الجناب الأقصى، للسيّد المذكّر، كان لا بدّ أن يتناهى أنسه في سماء الفنّالسابع،المصريّ، إبتداءً بالفيلم الأول، quot;زينبquot;، المأخوذ عن رواية لمحمد حسين هيكل. ومن المهم الإشارة إلى مفارقةٍ طبَعت هذا الفيلم؛حينما جعلَ المخرجُ بطلته، وبحسب النصّ الروائيّ، الأصل، تهرع إلى الشيخ لكي تؤدي طقس الإعتراف أمامه، مع علم الجمهور لدينا بأنه طقسٌ مسيحيّ وليسَ إسلامياً! وبعد مضي حوالي نصف قرن، تكرر مثل ذلك المشهد الرومانسيّ في فيلم quot;أقوى من الأيامquot;؛ حينما قامت بطلته quot;النجمة نجلاء فتحيquot; بالإعتراف لشيخ البلدة بمأساة إغتصابها. الفترة الزمنية الطويلة، الفاصلة بين ذينك الفيلمَيْن، الموسومَيْن، لم تغيّر إذاً من المفاهيم التي يبثها الفيلم المصريّ، الميلودراميّ، أو على الأقل، من بنيته الفنية. إلا أنه في موضوعنا هنا ،الصفعة، نلحظ أنّ إنتكاسة حقيقية قد جدّتْ، تاريخياً، في سينما موطن النيل. فأفلام مرحلتيْ التأسيس والتأصيل قد شهدَتْ مشاهدَ خالية تقريباً من العنف، المدروس، المسوّق منهجياً ضد المرأة، وعلى النقيض من المراحل اللاحقة، التي كرّست هذا العنف. الصفعة، كرمز، كان عليها أن تضحي إذاً علامة للعبودية، بوصف الأنثى مخلوقاً quot;ناقصَ عقلٍ ودينquot;؛ كما تختزله المقولة الشنيعة، والتي ما زالت تجترّ في هذا الفيلم على الشاشة الكبيرة، أو في ذاك المسلسل على الشاشة الصغيرة.

مرحلة التأصيل
قلنا إنّ الحال إنتكسَ إلى الوراء، فيما يتعلق بموقع المرأة في سينما موطن النيل، قياساً لمراحلها الأولى، الشاهدة على تأسيسها وquot;تمصيرهاquot;. هذه المفردة الأخيرة، تستعمل كثيراً في قاموس نقد السينما وتأريخها على السواء؛ وهيَ تعني بطبيعة الحال مرحلة التأصيل، حينما نهضَ الروّاد من أهل البلد بمهمّة صناعة الفيلم المصريّ، بعدما كانت مقتصرة تقريباً على الأجانب من الجاليات الأوروبية quot; أو quot;الخواجات quot; بالمحكية المحلية. وكانت هذه الصناعة في أوج إزدهارها، حينما قام تنظيم quot;الضباط الأحرارquot; بإنقلاب عسكري وأطاحوا بالملكية في تموز 1952. وليسَ المجالُ هنا معقوداً للتفصيل في تأثير هذه الحركة الثورية على السينما المصرية، مع أننا لن نهوّن من أمر بحثه. وعلى كل حال، فإثر فترة هيّنة من الركود، المصاحب للأشهر الأولى من الثورة، نجدُ الإنتاج السينمائيّ ينصاحُ ثماره من جديد. وعلى الرغم من تشديد الرقابة في العهد الناصريّ، إلا أنه كان يُغض النظر عن العديد من الأفلام الجديّة، الواقعية، غير المتوافقة مع فكر وسياسة هذا العهد. وكان ناصر، في سعيه لتكريس نفسه زعيماً للقومية العربية، قد أدرك بذكاء التأثير الهائل للسينما على الجماهير المهللة لإجراءاته الراديكالية في مختلف البلدان بين المحيط والخليج. وعلى ذلك، فقد أُطلِقَ يَدُ صناع الفيلم، في حريّة نسبيّة، لتكثيف الإنتاج محلياً بدعم وتمويل كبيرَيْن من لدن الدولة، والتي بادرَت لتأسيس المؤسسة العامة للسينما، فضلاً عن إنشاء العديد من صالات العرض والمسارح، إلى الإهتمام بتقوية بثّ الإذاعة لكي يصل صوتها إلى أسماع الملايين في دول الشرق الأدنى.

بروباغاندا غوغائية
وعودة إلى ثيمة quot; الصفعة quot;، المرمّزة لإستعباد المرأة، على رأينا، لنرى أنّ المنقلب الجديد، سياسياً وإجتماعياً، قد أسهم بدخول عناصر إجتماعية، كانت مهمّشة قبلئذٍ، للسينما المصرية: إنهم أبناء الريف، المنتمي إليهم غالبية ضباط الثورة الناصرية، والذين سطعتْ نجومهمإخراجاً وإنتاجاً، علاوة على كتاب السيناريو؛ هؤلاء المُناط بهم التعبير عن مثل العهد الثوريّ وفكره وسياسته. إنّ إدعاء النظام العسكريّ، الناصريّ، الأخذ بالعلمانية والطريق الإشتراكيّ، ما كان إلا شكلياً بأحسن الأحوال؛ فلم يُجد في تاريخه سوى أسلوب البروباغندا الديماغوغية والغوغائية. والحقيقة أنه إذا إستطاع الفيلم المصريّ آنذاك الحفاظ بهذه الدرجة أو تلك على جودته وقيَمه، فما ذلك سوى بفضل عدد من الروّاد المبدعين، المنتمين للجيل القديم؛ من أمثال محمد كريم وأحمد بدرخان وحسين فوزي وهنري بركات وصلاح أبو سيف. في أفلام هؤلاء الروّاد، الكلاسيكية، من النادر أن نعثرَ على لقطةٍ ما، تتقصّد تحقير الجنس الآخر، الأنثويّ. لا بل يحقّ لنا الدهشة، حينما نتابع في الأفلامَ الإستعراضية quot;المعرّفة نقدياً بالسينما التجاريةquot; البطلة المتحدّية أعراف محيطها المسلم، المحافظ، فتنطلق لتحقيق حلمها بأن تصبح مطربة أو ممثلة أو راقصة: وقد جسّد هذا الدور خصوصاً الفنانة الموهوبة نعيمة عاكف، التي جمعت تلك الصفات كلها، وكذلك خليفتها العظيمة؛ الفنانة سعاد حسني. ولكن في العهد التالي، المعقب وفاة ناصر في مستهلّ السبعينات، إشتهرتْ مقولة الرئيس السادات quot;أخلاق القريةquot;؛ هو الذي كان يرمي خصومه السياسيين بإنعدام القيَم، ويدعوهم للعودة إلى الأخلاق الأصيلة، كذا، المُزدهرة برأيه في التربة الريفية. ومن غرائب المفارقات، أن تبرز في أيام السادات كلّ مساويء العهد البائد، الناصريّ، وبالرغم من أنه هوَ من حاولَ، صادقاً، الخلاص من ربقة تركته، الثقيلة. بيْدَ أنّ سيرورة التحولات، المُبتدئة في الخمسينات، كانت في الواقع قد نضجت وقتئذٍ وحان موعد جني نتائجها الإجتماعية والثقافية والإقتصادية.

مفهومات بالية
إن ترييف المدينة، بدرجة أولى، كان أبرز آثار العهد الثوريّ، الناصريّ، وخلفه العهد البراغماتيّ، الساداتيّ، بكل ما يعني ذلك من هيمنة للمفاهيم البالية، المتخلفة؛ من عادات الثأر والإنتقام إلى تقاليد تحقيرالمرأة وإستصغار شأنها. من ناحية اخرى، نجدُ الأفلام العائدة لذينك العهدَيْن تدخل، بمناسبة وبدونها، حجرةَ النوم الزوجية مصوّرة، مواربة ً أو بشكل مكشوف نوعاً، ما يجري ثمة. وقل الأمر نفسه فيما يخصّ اللقطات السينمائية المطوّلة، المثيرة للنفور، المصوّرة مخاض المرأة وولادتها، حيث يعلو صراخها، الممثلة طبعاً، بأسلوب هستيريّ، فجّ. هنا وهناك، كان يُراد بتلك اللقطات إزدلاف الرغبة المكبوتة للمشاهِد، دونما أيّ غاية معرفية، مشروعة. على ذلك، فالمرء يعجب من حقيقة، أنّ أيّ فيلم لم يتناول ظاهرة ختان الإناث، المقيتة، المخلفة أسوأ الكوارث على نفسية المرأة. ومن المعلوم الآن، أنّ هذا التقليد، الشائع في عموم الريف المصريّ، هوَ الممارسة الأكثر قسوة في المجتمع: وبإعتقادي، فهنا يكمنُ ليسَ أساس ظاهرة quot;الصفعةquot; حسب، بل وأساس المفارقة، التي أشرنا إليها فيما سلف؛ عن إنحدار مفاهيم السينما خلال العهد الناصريّ، المدَّعي العلمانية والتقدم، وأيضاً خلفه العهد الساداتيّ / المباركيّ، الداعي للحرية والتعددية. فترييف المجتمع، على جميع الأصعدة، كان من نتائجه الكارثية هيمنة مفاهيم جديدة / بالية، كان من أشدها مضاضة تحقير المرأة والحط من قيمتها، كما سبق وبيّنا. إنّ من يجد ذوقه في الأفلام المصرية، الكلاسيكية، سيلاحظ بسهولة أدواتها الراقية، إن كان على صعيد النصّ المُخاطِب أو اللقطات المصوّرة. فبالرغم من قيام الكثير من تلك الأفلام بتقليد مثيلتها، الهوليوودية، إلا أنّ المرء لا يني اليوم منبهراً بمدى مساحة الحرية التي كانت متاحة للمرأة زمنئذٍ قياساً بمنقلبها الفاجع في زمننا هذا، المتأخر. وبقيَ أن نقول، بأنّ هذه الحرية تحديداً مُستهدَفة حالياً على الفضائيات العربية، الخليجية بمعظمها، المخصصة للأفلام الكلاسيكية: فلن نستغرب، والحالة كذلك، أن تغيّب هذه القنوات أفضل ما أنتجته السينما المصرية في تلك المراحل ولصالح تكرار ممل لأفلام سفيهة كان يتعهّد بطولتها مهرّجون على شاكلة إسماعيل ياسين؛ فيما أنّ خليفته، محمد هنيدي، يُحتفى بأفلامه يومياً على الفضائيات الأخرى، المنذورة للأفلام الجديدة.
Dilor7@hotmail.