تظلّل جميزةٌ تخوتَ المقهى الأمامية، تريق الشمس لعابها الصافي على ورقاتها الخضر الزاهية، ورقات الظل والحرور، حصاد السنين الماضية، ورقات الأعوام الستّين، غليان الأباريق والدوارق والمراجل، بخار الشاي، الأقداح الحلوة والمرّة، الانتظار الطويل لبريد الذهاب والإياب، الطفولة والشيخوخة، القدح الأخير. مئات الأقداح تناثرتْ شظايا على بلاط الموقد المشتعل تحت قوارير الشاي.
أنا رجل أسفح يومي على تخت المقهى الأمامي، أتشمّس بعيداً عن ظل الجميزة الوارف، مواجهاً دائرة البريد. ساعة الدائرة الكبيرة تشير إلى الساعة الثانية بعد فوات الظهيرة، موعد عودة ساعي البريد إلى الدائرة. يدلف الساعي بدراجته ذات الجرس المرنان إلى دهليز البريد، ويغيب فيه. الرسائل اختفت، قُرِئت، منذ ساعات، منذ الأمس، منذ ستّين عاماً.
خادم المقهى ذهب للصلاة في المسجد. المقهى مقفر، الطريق خالية، دهليز البريد هامد. فئران الساعة الكبيرة قرضت الرسائل. القهوجي يفُرغ بقيـة شاي الصباح في البالوعة. رنّت قطعة نقود على الطبق النحاسي لدخل القهوجي. عجباً، متى سُمِعَ مثل هذا الرنين المتلاشي في بالوعة المقهى؟ أ في اليوم الذي غُرِست الجميزة في موقعها أمام دائرة البريد، قبل ستين عاماً؟ ومتى دلفت دراجة ساعي البريد إلى دهليز الرنين المصبوب في بالوعة السنين الماضية؟
جرس الدراجة المرنان يحتّ أوراق الجميزة في ظهيرة شباط الباردة، وفئران الساعة تقرض طوالعي المكتوبة على الاصفرار الفاقع للأوراق المتساقطة. خربشة أيامي المتعرجة، سنواتي السـتّون، أطاح بها جرس الدراجة المصلصل، فيما أسـفح يومأً آخر على تخت المقهى، بمواجهة السـاعة العمومية لدائرة البريد.
ولِدتُ في اليوم الثاني من الشهر الثاني في العام الثاني والأربعين من الألفية الثانية. لن تتفق الأرقام في سجل عمر مخلوق إلا بعد مرور ألف عام. هذا ما كشفه لي عملي اليومي في مطالعـة الأبـراج الفلكيــة و حسابها. سيجلس في مكاني رجل في الساعة الرابعة من اليوم الرابع في الشهر الرابع من العام الرابع في الألفية الرابعة، أمام مقهى أو دائرة بريد، أمام صالة ألعاب إلكترونية أو برج إتصالات، ينتظر رسالة أو نداء أو ومضة شعاع من كوكب بعيد، يرحل بعدها ليحلّ محله رجل آخر من الألفية الخامسة أمام شجرة حديدية أو سور مكهرب أو ديناصور آلي. يأتي رجل ويجلس في مكاني منتظراً طالعه الذي ستأتي به رؤياه الألفيــة.
إني محرر باب الأبراج في صحيفة محلية، وهذا هو عملي اليومي، الذي أمارسه بكتمان شديد. لي طريقتي الخاصة في تنبيه الناس على طوالعهم التي تنبيء بآماد رحيلهم الأخير. أمارس عملاً حراً، لذا يجهل الناس شخصيتي، وقلما يجدون من يخبرهم عن حقيقتي عندما يراجعون مكاتب الصحيفة. أفكّ طاولتي المربوطـة حول جذع الجميزة بسلسلة، وأفرش عليها أوراقي وجداولي. أختار عنواناً وأحرر رسالة عاجلة بطالع صاحبه الذي يقرأ فيه موعد أفول كوكبه على صفحة الأبراج في الجريدة. في اليوم السابق أرسلتُ إلى رجل ستّيني طالعه قبل دقائق من موافاة أجله. وفوق هذا، فإني رجل الستّين قد أوجّه رسالتي إلى رجل الستّين الذي يحتل مكاني على تخت المقهى، أمام دائرة البريد أو محطة تأجير العربات والدراجات. إني أؤخر استحقاق أجلي من طالعي ما أمكنني التأخيـر والمماطلة. أخادع نفسـي، فأنـا كما قلت رجل حرّ.
أوزع الطوالع على الأطفال المولودين في ظلال الجميزات المعمرة، أرامل الحرب، ضحايا الخداع السياسي، وأخيراً الشيوخ الراحلين بعربات سريعة إلى ما وراء الألفيات الأرضية، فهؤلاء موضوع رسائلي الأثير. أخربش أفلاكهم وأشيعهم حتى المنزل الستين من منازل البريد اللانهائية. أتهجّى اسم المنزل من فرجة الميزان، وقرني الجدي، وفكيّ السرطان، ومخادع العذراوات، وأقواس زحل. أختار أحياناً أسماءً فلكية وألحقها.. أبو الطيب، المعرّي، طاغور، بوذا، جبران، أخماتوفا.. أسماء اجتازت عربة البريد المسرعة منازلهم الألفية، وما أسرع ـ أواه ـ رحيلهم! أما أولئك الضحايا المحليون، أصحاب السنوات الستين، فإن دراجة ساعي البريد قد تتكفل بإيصال الصحيفة إلى منازلهم بعد تعثر طويل، لكنهم يرحلون أيضاً.
أعود إلى ساعي البريد. عندما تنقطع الرسائل، وتقفر دهاليز الدائرة، يذهب الساعي إلى الحمّام العمومي المتواري في زاوية السوق، ويغطس في أحد أحواض الماء المرمرية الموزعة في أرجاء قاعة الحمّام الفسيحة المقبَّبة بالبخار، مع أمثاله من السـاعين بين الألفيات، القادمين من مهمات بعيدة. أشعة هابطة من من كوى القبة الشاهقة تخترق البخار وتسقط على السعاة المنغمسين في الأحواض الدافئة. يمد السعاة سيقانهم خارج الأحواض الدائرية، يحيطهم ضباب البخار، وفي يد كل واحد منهم صحيفة بلاستيكية يطالع فيها طوالع الأعوام الستينية، التي حان أوان ختامها. في الساعة الثانية، من ظهيرة باردة في شباط، يقرأ هؤلاء السعاة نبأ رحلتهم إلى ما وراء الألفية الثالثة، يغيبون في الضباب. وفيما ينتشر عبق الطبخة المسائية للشاي في أرجاء المقهى المواجه لدائرة السعاة، تجتاز عربات البريد السريعة منازل أخرى في بلاد الوجوه الضبابية. باسترناك، عبد الملك نوري، البريكان... كلهم انتظر غياب كوكبه، حملته عربة مسرعة إلى صحراء الأعمار القرعاء.
آخر برقية طالعٍ حررتُها في هذا الصباح، تحت جميزة المقهى، تسلّمها الساعاتي الكهل الذي نصب الساعة الكبيرة على واجهة دائرة البريد. منذ أعوام وقلب السـاعاتي ينبض بانتظام مؤقتاً ساعة البريد عن بُعد. ما أن يقرأ الساعاتي طالعه، سيرتبك توقيت عقارب الساعة، ثم تتوقف تروسها عن الحركة بعد دقائق من اجتياز العقرب الكبير رقم الساعة الثانية للظهيرة. يقرأ الساعاتي خربشة طالعه صباحاً في الصحيفة، فيمتطي عربته ويجتاز بوابة المنزل الستّين. بعد هذه المهمة، سيطول احتباس السعاة في الحمام العام، ويتوقف توزيع الرسائل إلى أمد غير معلوم، وأفقد عملي في الصحيفة. ما أفدح الأخطاء التي يجرّنا إليها تحرير الطوالع والخواتم، والسفر بين منازل البريد الألفية!
بقيتْ في حوزتي رسالة طالع واحدة، ولا أعرف متى سأحرر خاتمتها. ذا نهار سيدور ظلّ الجميزة، وينجرف إلى بالوعة المقهى رنين قطعة نقود فوق طبق القهوجي النحاسي، فيبتلع الحوتُ اسمي في جوفه الصامت، أتصفح عنوانَ منزلي الأخير، وأسجد لرؤياي.