سـرد العويـل السـريّ
إلى: شهداء الثقافة العراقية

ناظم عودة
-1-
سرد الاعترافات السجينة

المخطوطات التي بين يديّ الآن، هي تدوين لواحدة من أهمّ السير التراجيدية في تاريخ الأدب العراقي المعاصر؛ سيرة كاتب عراقي حُكِمَ عليه بالإعدام في نهاية الثمانينيات بسبب تخلفه عن الالتحاق بالحرب مع إيران لأيام معدودات، ولم تشفع له خدمته العسكرية الفائضة عن المقرر الممتدة من سنة 1976 حتى الشهر الرابع من العام 1987، ولا شفعت له كتاباته وقصصه. ولأولّ مرة يشعر بخيبة الأمل الكبرى واكتشافه زيف الودّ بين المثقف والسلطة، وربما اكتشف للمرة الأولى كذلك أنّ السارد الذي يخلق ويميت أبطاله المتخيلين، تخونه القدرة على التحكم بحبكة حياته.
والمدهش في هذه السيرة هو أنها مجموعة رسائل عفوية مبعوثة إلى أحد الأصدقاء الخلصاء لهذا الكاتب المعدوم، وهو القاص حميد المختار. وهذه الرسائل تخلو من أيّ تزويق أو صنعة مقصودة، إنما هي محض لحظات من الرهبة والحيرة والشك والموت البطيء وانتظار المجهول ومعاشرة الإنسان قسراً لوساوسه ولبرازه وبوله وروائح جسده الكريهة. ومن هنا وقع اختياري على هذا العنوان الذي أخذته من فقرة من هذه الرسائل (العويل السريّ)، وفيها يقف القارئ مصدوماً حقاً أمام حرارة الوقائع، والسرد العفوي الذي يقترب من السرد الأسطوري بثقل مادته، وغرابة أفعاله، على الرغم من أنها قد تكون مألوفة، وهذا ما تجده في هذه الرسائل/ الاعترافات الأخيرة، إذْ تجعلك قبالة نفسك مباشرة، تقرأ معها سيرتك الشخصية كلها، بل تقرأ معها انطولوجيا الكائن البشري في صراعه الأزلي مع السلطة عبر التاريخ. هذا اللون من (السرد السيري) ينطوي على إثارة، لا تنطوي عليها السرديات الأخر، وذلك من جهتين: الأولى، أنه ليس سيرة بالمفهوم المتواضع عليه إذْ اكتسبت السيرة بعض المزايا التي تجعلها جنساً قائماً بنفسه، إنما مجموعة من الرسائل الشخصية فيها تصوير عفوي غير مخطط له لتفاصيل حياة الرعب والهلع لمثقف عراقي ينتظر مصيراً مجهولاً يتراوح بين الموت والحياة. والثانية، أنّ السرد في هذه السيرة التي نلمّ خيوطها من هذه الرسائل، فيه عناصر تتصاعد باستمرار لتحْبك قصّة غاية في الإثارة لرجل يهذي على نحو حقيقيّ، وهذيانه ينبع من أعماقه البدائية الخائفة. والبوح في هذا السرد، يناظر البوح الطفولي الذي يخرج على سجيته بلثغاته، وكسراته اللغوية والدلالية معاً. والمدة التي يستغرقها الخوف عند علماء النفس، زاخرة باللغة؛ أيّ أنها وثيقة تفضح العالم الباطني للكاتب الخائف أو المرتبك، إذْ تزخر بالانزياحات اللسانية الدالّة. ومن يقرأ رسائل حاكم محمد حسين وقصصه معاً، سيقف عند زمرة من هذه الانزياحات الدالة على وضع نفسي وتاريخي، وفيها صورة مقربة عن الوضع السياسي والاجتماعي الذي ساد في ثمانينيات القرن الماضي بالعراق. ولعلّ هذا يفسّر لنا الأغلاط اللغوية المنتشرة في هذه المخطوطات ما بين رسائل وقصص لم تنشر بعد، فهذا القاص يعبّر بلغة سليمة وفصيحة، ذات لمحات بلاغية وأسلوبية، لكنه تحت ضغط الخوف يقع أحياناً في أغلاط لا يمكن تفسيرها إلا أنها نتيجة لهلعه وارتباكه الوجودي؛ لأنّ أغلب هذه الرسائل كُتِبَتْ بعد إعدام مجموعة من الجنود المحجوزين معه، وكان هو يترقّب دوره في لحظات المناداة على الأسماء، لكنه بعد الانتهاء مباشرة يهرع إلى كتابة الرسائل أو القصص لإطفاء شعلة الموت المتقدة في داخله، وفي داخل أصحابه، وربما في داخل بلده كما كشفت عن ذلك بعض قصصه.
إنّ الشيء الغريب في هذه الرسائل والقصص غير المنشورة، هو المادة التي كتبت عليها، وهو ما يتجانس تماماً مع الوضع الواقعي الذي كتبت فيه هذه القصص والرسائل/ السيرة، وإذا كان القارئ سيعجب من كلام يدوّن الآن مثلاً على جلود الحيوانات، أو جرّيد النخل، أو الحجر، كما كان في الأزمنة الغابرة، كذلك سيعجب عندما يتسنى له قراءة مجموعة قصص ورسائل لأديب أُعدِمَ، كان قد كتبها على ظهر السليفون الداخلي الأبيض لعلب السيجائر (الدخان)، وعلى الوجه الأبيض للعلبة نفسها، ومن هنا كان العنوان الفرعي لهذه الدراسة: مخطوطات الدخان. لكنك، أيها القارئ، ستصاب بالغثيان حتماً، عندما تشرع بقراءة عويل تراجيدي لمثقف يعي ملابسات الواقع العراقي وإشكالياته السياسية والاجتماعية في عَقْدَي السبعينيات والثمانينيات، ومحاولات السلطة للإجهاز على هويته وحريته المدنية، وترى بأمّ عينيك خذلانه، وانكساره، وحيرته في زنزانته المجردة من غذاء الثقافة، إذْ منعت عنه أدوات القراءة والكتابة، بحجة أنها جارحة، وترى بأمّ عينيك العويل الذي يستجدي فيه قلماً واحداً، وبضعة أوراق للكتابة، ومجلة (الطليعة الأدبية) التي تضمّ دراسة للناقد (باسم عبد الحميد حمودي) كان ذكره فيها، ومجلة (الأقلام) العدد الخاص بالقصة، ورواية (طريق الفلامندرة). ومهما كان نوع الدراسة التي تكتب عن هذه الرسائل، ففي ظني أنها لن تبلـُغَ ما بلغته من بلاغة لا تنتمي لعالمنا نحن، إنما لعالمه هو؛ ذلك العالم الغريب مثل عالم الموت، الذي ظلّ طوال حقب التاريخ تجربةً متخيلة، يلجها الإنسان ولا يلجها لسانه الفصيح، يلجها جسده العديم الحركة، ولا تلجها لغته إحدى أبرز مزاياه في حياته المثيرة. ومن هنا، ظلت هذه التجربة غامضة تمام الغموض، وكلّ التجارب المأساوية ليست سوى مدخل من مداخل هذه التجربة العصيّة على التسجيل، والتوثيق، والوصف، والبوح. تجربة توصف من الخارج، ولم تستطع كلّ الوسائل البشرية أنْ تكسر هذه القاعدة الوجودية.
هذه الوقائع المستمدّة من مخطوطات الدخان، هي التاريخ السرّيّ للثقافة العراقية، وربما الثقافة العربية التي لا تختلف معاناتها مع نظم سياسية شمولية، أو تقليدية متخلفة. في هذه المخطوطات، سيطّلع القارئ على صغائر الأمور التي يفكر فيها هذا المثقف، الذي وضعه القدر في نزاع مأساوي بين البقاء والزوال، ولم يكن يملك سوى (التخيّل)، و(أحلام اليقظة)، و(السرد)، وأوراق الدخان، للتغلّب على ذلك النـزاع. وفيها سيكتشف سيرته وهو يصرخ من قرارة قوته وتحديه وهزيمته وانكساره، ينشج بألم متقطّع لإنقاذ حياته. وسوف نعجب حقاً عندما يبلغ به الانكسار أنْ يستنجد بجلاديه، يستنجد بحميد سعيد، ويلتمس (رئيس الجمهورية)؛ أي: صدام حسين، يوم كان رئيساً للعراق، وقائداً أعلى للقوات المسلحة العراقية، التي تشتبك مع الجيش الإيراني في حرب ضروس، خلَّفت أكثر من مليون قتيل. يقول في رسالة مؤرخة في 19/2/1989، يحث فيها صديقه القاص (حميد المختار) على تنفيذ فكرة الاستنجاد هذه، إذْ يقول: يبقى مشروع الذهاب إلى الأستاذ حميد سعيد مع نخبة من الأصدقاء، والتطرق إلى إسهاماتي وخدمتي الطويلة من قبل حتى عام 1987، وإنه الهروب الأول سيخدمني، لأنّ حميد سعيد عضو مكتب بغداد الذي يتولى إصدار الإعدامات، لذا أحتاج منك جهداً استثنائياً ومظاهرة حقيقية وخلال هذه الأيام قبل 1/3/1989 لأنّ هذه الأيام خطيرة، أنا أنتظر جهودك، وحفّز الأصدقاء لأنها فرصتي الأخيرة. ويقترح في إحدى رسائله غير المؤرخة من حميد المختار، أنْ يقوم بهذه الزيارة إلى حميد سعيد لأنها المنقذ الوحيد في نظره، فيخاطبه: ما رأيك بأنْ تزور الشاعر حميد سعيد ـ أنت وبعض الأصدقاء ـ بعد إقناعهم بالأمر، فتشرحوا له الأمر، ويؤثروا عليه، ليقدّم التماساً باسمي إلى (رئيس الجمهورية) فهو الوحيد القادر على إنقاذي.. المسألة تبدو سهلة لكم إذْ تنتخب مجموعة وتتحدثوا معه [ أي مع حميد سعيد، وليس مع رئيس الجمهورية لأنّ ذلك المحال بعينه] باسم الأدباء الشباب، وتذكروا له خدمتي الطويلة من 1976 حتى الشهر الرابع من 1987، إذْ إنني سقت للخدمة مع تولّد 1957 الثالثة، والدولة ووزارة الدفاع تعرف هذه الأمور تماماً، وإنّ هروبي هذا هو الأول، وبهذه الحالة يستطيع حميد سعيد ـ بصفتي أديباً شاباً، وكتبت عن المعركة، ولي كتابان ـ أنْ يطرح قضيتي، وبذلك يخففوا الحكم.. إنها بسيطة لو أردتَ إنقاذي.. وبهذه الحالة سأتحمل رؤيتك المستقبلية نحوي كرجل ضعف أمام الموت، ولكنني أريد أنْ أموت من أجل قضية أخرى وليست هذه.. وهذا هو دفاعي الوحيد أمامكم.
بعد هذا التشبث بالحياة، والهلع من الموت الذي دفع به إلى الاستنجاد بجلاديه القساة، سوف تبكي أيها القارئ السابح بالشمس، عندما تطّلع على سيرة هذا المثقف الذي يفتش بمرارة عن ثقب صغير يرى من خلاله الشمس، هذه التي ما تنفك تحرق رؤوسنا فنشكو من فائضها وفائض حرارتها، لكنك ستراه يفتح جزءاً صغيراً من عينه في ثقب عثر عليه في صفيح السجن، ليرى تلك الشمس ناثرة شعرها فوق الناس والأرض والشجر، هذه المساحة التي بحجم حبة العدس تستحيل إلى مساحة بحجم الحياة لدى رجل أطبق عليه الظلام من كلّ حدب وصوب في معتقل من الصفيح الدامس. ولكن، على الرغم من كلّ هذا، إلا أنه توصّل إلى حقيقة مرة، وهي تتلخّص في قوله: إنّ ما كتبته في (ثقب المسمار) لا يبلغ يوماً واحداً أعيشه الآن.
-2-
التضمينات السيرية في سرده القصصي

ترسم مجموعة القصص المنشورة وغير المنشورة لحاكم محمد حسين، أفقاً مخصوصاً تتسلل منه ذات المؤلف الحقيقي إلى أفكار وسلوكيات ومكابدات وتطلعات شخوصه القصصية المتخيلة. وما تفسير هذا التسلل الذي يحدث لدى معظم كتّاب العالم في القصة القصيرة والرواية على حدّ سواء، سوى لخضوع هؤلاء الكتّاب إلى طائفة من الضغوط السيكولوجية أو الأيديولوجية. ومن هنا فإنّ مَنْ يُعْـنَى بتجميع خيوط سيرة كاتب من هؤلاء، فسوف يعمد إلى القيام بعملية لصق هذه التضمينات والصور إلى بعضها، في محاولة لاستكمال النقص المفترض في السيرة، أو استكمال النقص المفترض في النصّ القصصي ذاته. ولعله قد تنبّه إلى هذا النقص، فكتب قصةً فيها محاولة تجريبية هي قصة (عصير الفئران)، ذكر فيها المرجعيات الواقعية لشخصيات قصصه.
إنّ القصص التي بين يديّ، سواء في مجموعته الأولى (مساحة بيضاء) الصادرة في العام 1987 ببغداد، أو التي في هذه المخطوطات السيليفونية، تنبئ عن ميلاد موهبة جديدة في القصة العراقية القصيرة الزاخرة بالكتّاب الكبار، وصاحب الموهبة قاص شغوف بعالم القصة وتقنياتها الفنية، وتكنيكها الذي يخلق لها إثارة ضرورية في جمهور القراء. وتكشف رسائله عن تشبث كبير بكتابتها على الرغم من الهلع الذي كان يعيشه، ومن طريف هذا الشغف، أنه أوضح في إحدى رسائله من معتقله أنه كتب إحدى قصصه في ذاكرته لعدم السماح له باستعمال القلم والورق، يقول عن ذلك: أنا فرح الآن أنّ الأحلام لا تباع فبوسعي يوماً الاستغراق بأحلام اليقظة حتى في قمة الفوضى التي تلمّ المكان، وتحت هذا السقف الرؤيوي الجديد كتبت في ذاكرتي قصة سأحاول تدوينها بأية طريقة كي أكمل مجموعتي الثالثة (ترميم). طبعاً، هذه المجموعة التي كان يعوّل عليها كثيراً، ويعتقد أنها مفتاح نجاحه الجديد كما يقول: (أخال أنني سأنجح في هذه المجموعة الثالثة ترميم)، لم تَـرَ النور، كما لم تَـرَ حياته النور في سجنه الذي أودى به إلى التهلكة. كما لم يَـرَ النور ذلك الإهداء، الذي أراد أنْ يوشّح به صدر هذه المجموعة، والموجَّـه إلى حبيبته (مريم): إلى مريم... وتلك الأخطاء الرائعة.
من الطبيعي، أنْ يلجأ كاتب مرّ بتجربة قاسية، كتجربتَي الحرب الشرسة، والسجن بانتظار الإعدام، إلى تضمين كتاباته بعضاً من صور هذه التجربة. وهذا ما حدث مع حاكم محمد حسين، ففي قصته غير المنشورة (مصرع الكركدن) المكتظّـة بالرموز الخطرة، ثمة هيمنة للذاكرة الثقافية التي تسللت إلى هذه القصة عبر مجموعة من الأفكار المتشكلة حديثاً في ذهن المؤلف، مثل إنجاز دراسة عن الكتابات المدونة على جدران المراحيض، وما فيها من بوح صادق عن انفعالات تنتسب إلى لا شعور الإنسان، وعوالمه الباطنية. وما هذه الفكرة، سوى فكرة مستحدثة في نهاية الثمانينيات من لدن كاتب عراقي، بات يُعْـنَى بالمتون الهامشية للسلوك الإنساني، كفكرة الكتابة على هذه الجدران، التي تعدّ وثيقة حقيقية لحركة الواقع الاجتماعي، وهو ما يسعى هذا القاص إلى رصدها على الرغم من حداثة تجربته القصصية. وفي قصة (العواء الأخير) من مجموعة (مساحة بيضاء)، كان يرمز به إلى ذاك (العويل السريّ) في سجن الإعدام، الذي كان يسيطر على كلّ الجنود الذين كانوا ينتظرون آجالهم بصمت مطبق، وهو ما أشار إليه في إحدى رسائله، إذْ قال: الآن وهنا بالذات تنتابني الرغبة للانطلاق نحو عوالم جديدة وأليفة، ليست لها أسوار، وخالية من شوائب العالم، بيد أنّ هذه الرغبة تبددها صافرات الحرس وصراخ السجناء، وعويل الأنفس الحائرة التي تنتظر أحكامها المجهولة.. هل سمعت بالعويل السريّ للأنفس الحائرة؟ إنه كعويل الكلاب المصابة بالداء ياللهول.. هل للحرية حجم.. أعتقد لا، خاصة حين تشمّ برازك وتستنشق رائحة بولك. [ من رسالة مؤرخة في: 29/9/1988]. ولعلّ في (الكلب المسعور) كناية إلى (الحرب)، التي تنقل سعارها إلى الجميع، وهو ما حدث فعلاً في هذه القصة، إذْ لم يقتصر الداء على الرجل المصاب، إنما أصبح سكان القرية كلهم واقعين تحت أذى هذا الداء، فاشترك الجميع في حملة إبادة الكلاب، بعد أنْ هيمن عليهم الخوف، وبعد أنْ أصبح جزءاً من تفكيرهم اليومي. وفي قصة (ثقب المسمار) تقمصٌ للمكابدات القاسية التي كان يشعر بها هذا القاص في زنزانته الدامسة، وهو ما اعترف به على النحو الذي أشرنا إليه سلفاً. وانطوت بعض مَشاهِد الجنس المحتشم، على إشارة إلى شخصيته الخجولة والمكبوتة معاً، وما تناثرَ من تلك الصور في قسم من قصصه، إنما كان رغبة في التطهير من هذا الكبت. ويبدو أنه في مرحلة من مراحل تكونه الثقافي، أخذ يعنى بنظريات التحليل النفسي، وهو ما تقمصه في قصة (مصرع الكركدن)، من خلال شخصية الزوج الذي كان مكلفاً بإعداد بحث في ميدان علم النفس، الذي أفضى به إلى كتابة بحث الكتابة على جدران المراحيض. وعلى الرغم من سقوط قسم من قصصه المكتوبة عن الحرب العراقية الإيرانية التي اندلعت في مطلع الثمانينيات، في إثارة مسائل مباشرة ليس فيها تكنيك قصصي عالٍ، إلا أنها كانت ترسم شيئاً من سيرته الحقيقية في جبهات القتال الشرس في تلك السنوات. وقد كان أحياناً، ينصاع للثقافة المتداولة عن تلك الحرب، التي تكونت بفعل عوامل كثيرة، يقف في مقدمتها العامل التعبوي، وهو ما شكّل نقطة ضعف في قسم من قصصه عن الحرب.
-3-
خصائص شخوصه القصصية

يقترب البناء الفني لقصص حاكم محمد حسين، من التكنيك السردي لتيار الوعي الذي كان ناشطاً في التأثير على القصة العراقية في مرحلة الثمانينيات، ولو قمنا بتصنيف وصفي لقصصه فسوف نكون أمام مجموعة من الأبطال القصصيين المتوحدين مع ذواتهم، المرتدين إلى عالم الشعور الداخلي لمعالجة المشاكل والأحداث التي تعرضوا لها. في كلّ قصة، ثمة بطل يشعر بغربة عن محيطه، ويعتقد أنّ منطق عقله الباطن، إنما هو المنطق الحقّ. ولعل تفسير ذلك، يندرج في عدم قدرة العقل الواقعي الذي تتحكم به ظروف غير موضوعية على صياغة منطق ذي قدرة على وضع الحلول الناجعة لمشكلات الواقع التاريخي والاجتماعي. فما الارتداد إلى الذات، سوى محاولة في الإنصات إلى العوالم الطفولية والبدائية، لعلها تقدر على بلوغ الحقيقة في الخلاص الاجتماعي والروحي معاً.
لقد كانت القصة العراقية المعاصرة، على يد محمد خضير على وجه الخصوص، تميل إلى أسلوبية الكتابة بالصورة الوصفية الدالة على رمز معين، وتكثّف من هذا التصوير ليكون كناية سردية بديلة عن الخوض في التفاصيل. وكان محمد خضير يشكّل مدرسة قائمة بذاتها في تكنيك الصورة السردية، وهو ما مكّنه من التمويه على الرقابة القاسية للسلطة. وكنت أتوقع أنْ يكون حاكم محمد حسين تلميذاً نجيباً لهذا القاصّ المبدع، لكنه اختار طريق الغوص في أعماق شخوصه، الذي هو غوص في أعماق نفسه في حقيقة الأمر.
وكلّ أعماله القصصية، تعدّ مقدمات لأعمال روائية لما تنطوي عليه شخوصها من تركيب سيكولوجي، يصلح أنْ يكون مادة لتوسيع مساحة الزمان والمكان في هذه القصص، وخاصة في قصّة (الوسيط)، و(ومصرع الكركدن)، و(لون الرائحة). وتكشف طريقته في رسم شخصياته، عن مصدر من مصادره الثقافية، وهو قراءته المتمعنة لنجيب محفوظ، وإفادته من طريقته في رسم شخوصه، وهو ما تجلى في قصة (الرجل الأبيض) التي تقترب في بنائها الفني من قصة نجيب محفوظ (زعبلاوي). وعلى الرغم من التفاوت في المغزى الرمزي بين القصتين، إلا أنّ فيها ترميزاً إلى (المستحيل) الذي صار جزءاً من واقعنا وحياتنا، فثمة أحلام نراها دون أنْ تكون لنا القدرة على تحقيقها، وثمة ذكريات وتاريخ وماض ضائع، لا سبيل إلى بلوغ أهدافنا في ظل وضع تاريخي ملتبس، نظراً للصراع العنيف بين السلطة [ صاحبة الحقّ في الإبادة] والإنسان [ صاحب الحقّ في الدفاع]. وفضلاً عن هذه الفحوى التي ترمز إلى المستحيل، فثمة استثمار لطريقة نجيب محفوظ في بناء الزمن، واختيار الشخوص من الأماكن الشعبية، والطبقات المنسحقة اجتماعياً، كما تجلى في قصته: (لون الرائحة)، إذ قدّم عالماً صغيراً اشتهرت به الحياة البغدادية، وهو النـزل المشترك، ويسمى (الخان)، وهو سكن الفقراء والمشردين، وقد استثمر عالم الخان في كتابة عدّة أعمال قصصية وروائية عراقية؛ لأنه يعدّ نموذجاً ممثَّلاً لعدّة سلوكيات، وعدّة أفكار، وأفعال، وهو ما صورته هذه القصة، في مسعى من الكاتب لتقديم عالم مصغّر يكون نظيراً لعالم الواقع الأكبر، ومن هنا يتعيّن أنْ لا يُنظر إلى الأحداث نظرة محايثة، مغلقة على جدران هذا المنزل الذي تملكه أرملة يتصارع عليها عدّة أشخاص طامعون في مالها وجمالها. هذا الـمُلْك [المنـزل، أو الأرملة] الذي يتعارك عليه أشخاص غير شرعيين، هو الكناية السردية التي اشتغل بها هذا القاص لنقد الواقع على نحو غير مباشر.
وهو يحرص على أنْ يكون شخوص هذا الواقع المنسحق، من ذوي المزايا غير المنصاعة لشروطه التاريخية، شخصيات نافرة في كلّ صورة من صورها، يصوّر هذا في قصته (ظلّ الأمكنة المستريحة):... فأقتحم المقاهي والأسواق وألتفّ على أعمدة شارع الرشيد وألج المباغي وأزقة لم تصلها الشمس وجوامع تاريخية وفنادق كانت بيوتاً عثمانية وأختلط بنساء تزوجن في الحرب العالمية الأولى وأنجبن في الفيضانات وعشقن في الوباءات وشيوخ ازدحمت وجوههم بالأوردة النافرة وأدباء ما عادوا يكتبون وصيارفة ما عادت لديهم عملات وتجار فقدوا أرصدتهم.
ثمة قاسم مشترك آخر بين شخصياته القصصية، يتمثل في مناهضة الوضع السياسيّ والاحتجاج على بعض الممارسات السياسية عن طريق الرفض في أنّ يكونوا جزءاً من اللعبة السياسية، حتى لو استدعى الأمر الإقدام على وضع حدّ لحياتهم بالموت القسري، كما في انتحار العقيد العسكري في قصة (شمال شرق- جنوب غرب)، كذلك انتحار أحد شخوص قصة (لون الرائحة). وتكررت هذه الموضوعة في قصّـتَي: (الوسيط)، و(عصير الفئران)، بالإضافة إلى موضوعة (الجنون)، وهما يرمزان إلى التمرّد، وعدم الانصياع إلى شروط الواقع التي أنتجها النظام السياسي.

[email protected]