ج - توظيف التراث في شعر سامي موريه

عبارة الأم كان محاولة للتكبر على الألم، فحب العراق مزروع في روحها، يجري في دمها، ولم تستطع أن تخفي حبها ؛ لأن عباراتها خانتها في قولها: quot;يا ولدي لا تحزنquot;، والتي هي إسقاط من موريه على عباراتها ؛ لأنه يعرف مدى حبها، ويعلم أن قولها: اللي ما يريدك لا تريده، هو من أثر شعورها بالظلم الذي عبرت عنه بقولها: ظلمونا في العراق، فموريه يعلم أن قدره وقدر أمه في كلمات نزار قباني من قصيدته (قارئة الفنجان)، والتي اقتبس جزءا منها بشكل لاشعوري:
قالت يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
quot;الحب عليك هو المكتوبquot; كان قدر موريه وأمه، فالرحيل لم يُنس أيا منهما حب العراق الذي عاش في وجدانها وذاكرتهما طويلا، وذلك كان مبررا للتضمين الثاني الذي جاء لسان الأم
همست: quot; يا حافر البير quot;
الجزء الأول
quot;بربك قل لي لهذا سبب quot;
فحال موريه هو حال الشاعر الذي قال:
بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام
ويوظف موريه في القصيدة ذاتها هارون الرشيد والتتار من ذاكرتي تاريخ العراق كرمزين، ليعبر بهما عن مفارقة يسقطها على واقع العراق، فالعراق قتل مجده مجد هارون الرشيد واستبدله بالضياع والقتل والدم الآتي إليه ككابوس أيام التتار:
بعد أن قتلوا مجد هارون الرشيد !
ففي كل شبر من العراق لحد
ومياه دجلة والفرات، كأيام التتار
تجري فيها دماء ودموع
في قصيدة (يا نور عيني يا عراق)، يوظف الشاعر من التراث العراقي الشعري قصة ليلى وقيس، يترجم من خلالها قصة حبه للعراق وعشقه لبغداد، فليلى ترمز للحب العذري الذي ينطبق على عشق الشاعر لبغداد ؛ لأن موريه في حالة فراق جسدي عن محبوبته، لكنه في وصال روحي معها، يهذي بها كهذيان قيس، وهي تهمس في قلبه وروحه أملا في اللقاء:
وبغداد تهمس لي،
طال الغياب
فمتى الإياب
عد يا حبيبي إليا
quot; وسلم على ليلى quot;
أما العراق بكل ما فيه، فهو أحضان ليلى، أحضان الحب الروحاني الذي ترمز إليه ليلى، بين موريه العاشق وبغداد المعشوقة، وقد ذكر الشاعر ذلك صراحة في قصيدته:
ونسيم دجلة يوشوش لي
سأسمعك هدوة
تقر بها عيناك
تحت باسقات النحيل
قبيل الرحيل،
فمتى تعود إليا،
وإلى أحضان ليلى.
ويؤكد موريه على ظلال تلك العلاقة مع بغداد بصورة مطابقة لقصة قيس مع ليلى في الموروث العربي في قصيدة مهداة إلى أصدقائه العراقيين، عندما يستعيد من صباه ذاكرة اللقاء عندما كان يعيش في أحضان ليلاه العراق:
بربك كيف تحزن في جنة روحي وحنيني
وأنا كنت في صباها
أضم إلى صدري، قبيل الصبح
أمواج دجلة وعطر ليلاها
وأقبل من بغداد فاها
في القصيدة ذاتها يسجل موريه هويته الممتدة إلى آلاف السنين، في حنينه إلى العراق الذي اعتبره فردوسه المفقود في عندما قدّم إهداءه:
وكيف لا أحن إلى العراق
ومياه أنهار العراق في دمي، مجراها!
فأنا ابن بابل، من سبي أورشليم،
بابلي، عراقي الآباء والأجداد
ويتفاعل موريه مع الأرض تفاعلا إنسانيا كتفاعل المعري الذي ذهب بعيدا في رهافة حسه في بيته:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
فيخاطب شعب العراق في شخص صديقه بأن يخفف من المآسي التي جعلت من وطنه مجرى للدماء والدموع:
بربك خفف الوطء، ولا تجعل ثراها
مجرى للدماء والدموع
فما أشبه اليوم بالأمس عندما شكى المعري من تكالب ذوي الملل على العداء والضلال، فها هو موريه يشكو الآخر مما شكى منه المعري وأدى إلى بيته السابق، الذي جعل المعري في حيرة مما وصل إليه الدين على يد رجاله، فقال حكمته التي تنطبق على زمانه وزماننا:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ويهود حارت والمجوس مضللة
اثـنـان أهــل الأرض ذو عـقـل بلا ديـــن وآخــر دين لا عقل له
وفي قصيدة (يا قمر العراق) يجعل موريه من معلمته فاطمة رمزا لماضي العراق المشرق، وربما تكون رمزا للعراق نفسه الذي كان يحضن بين ضلوعه كل ما فيه من ملل وأعراق، كما يحضن الأب أبناءه، ولا يفرق بينهم، وجاء ذلك على لسانها:
كانت في دروس التاريخ
تطلب أن أروي للطلاب، وهي تقول:
quot; يعني ! ولو هو مو مسلم،
فكلنا أبناء العراق quot;،
وفي القصيدة ذاتها يوظف موريه نصا من كلام الرسولص لعقد مقارنة بين الماضي والحاضر، وهو نص كان موريه يلقيه أمام معلمته، فتصفق له بإعجاب، فمثل النص ماضي العراق الذي كان يهتدي بأخلاق الرسول r، أما اليوم فهو لأعداء العراق، الذين قطعوا الشجر ليحصلوا على متع آنية، فصار شعارهم الغاية تبرر الوسيلة، فضربوا بعرض الحائط كل ما ورثوه من قيم وأخلاق:
quot; يا أيها الغزاة الفاتحون،
بسم الله
لا تقتلوا شيخا ولا تقلعوا شجرة
فتصفق لي بإعجاب !
واليوم، أعداء العراق، يا معلمتي !
إذا أردوا الثمرة
قطعوا الشجرة !quot;
وما كان بحث موريه عن معلمته فاطمة إلا بحثا عن ماضيه وماضي العراق المشرق، الذي يأمل أن يلقاه، ويرى فيه المستقبل المنشود لأطفال العراق
قولوا لها، يا معلمة
ما زلت العمر كله
أفتش عن معلمتي السمحة
الست فاطمة، الجميلة كالقمر،
يحبها، يعشقها كل أطفال العراق
وهكذا يسبح موريه في عالم الرموز، كما يهيم عاشق وراء حبيبته الراحلة، فتضحي الرموز تذاكر سفر إلى الماضي يحاول فيها ابتعاثه ؛ ليحيا من جديد.
د - الحضور والغياب في شعر سامي موريه
يقوم عالم سامي موريه الشعري على ثنائية طاغية لا تنفك منها أي قصيدة من قصائده، ألا وهي ثنائية الحضور والغياب، فالشاعر عالق في ذكريات ماضيه، في وطنه العراق مسقط رأسه ومربى صباه وعمق تاريخه، وذلك هو الحضور الذي يطغى على عوالم شعره، فالعراق حاضر في روحه وذكرياته وعالم أفكاره وأحلامه، في مقابل غيابه عن حاضر الشاعر وواقعه.
تشكل ثنائية الحضور والغياب محورا أساسيا في بنية ونظام قصيدة الشاعر، يوظفها لتكثيف مأساته في الرحيل عن العراق، وتتفرع عنها ثنائيات عدّة كثنائية الماضي والحاضر، واللقاء والفراق، والرحيل والحنين. ففي قصيدة (نار الحنين) يأتي الماضي على صورة صوت يناديه ؛ ليعود إليه، ومن هنا أتت حيرة الشاعر أمام هذا الصوت، إلا أن كل الصور التي حاول من خلالها أن يحدد هوية الصوت تقود إلى مصدر واحد هو الماضي، فالأم وثرى وادي الرافدين ووشوشات النخيل كلها تحيل إلى ماضي الشاعر في العراق، والذي لم يبق منه غير صوت يظلّ يلاحقه:
أي صوت هذا؟
أهذا صوت أمي يناديني؟
أم صوت ثرى
طال عنه الغياب
ثرى وادي الرافدين؟
وادي العذاب
أم وشوشات النخيل
عطشى على الضفاف؟
هذه الحيرة التي غلبت على الشاعر في الأبيات السابقة عكست حالة الهذيان الذي تحول بينه وبين اليقين، ولكن هذا التيه لا يمكث طويلا، لأن طول الفراق، وبعد العهد بالوطن، لم يحولا بين موريه وبين تحديد هوية الصوت، فكل الصور التي فسر بها الصوت كانت تصب في مصب واحد هو العراق وطن الشاعر: ( أنا ماضيك، أنا الماء الفرات). لا يترك الشاعر هذا الصوت يمضي دون أن يمسك بخيوط الحاضر الذي خيم عليه الحزن ؛ ليعزف هو الآخر فيه لحن الحنين المرير إلى وطن جريح:
هذا صوت عرفته
عراقي الصدى
صوت وطن حزين
أحن إلى واديه!
إن كان الماضي هو المسيطر على مناخ القصيدة، فإن ذلك لم يمنع أن تتفرق في سمائه بعض من سحب الحاضر، فوشوشات النخيل العطشى والفرات الذي جف ماؤه العذب صورتان من حاضر العراق، وهناك مفارقة في الصورتين، فكيف تكون وشوشات النخيل عطشى وهي على ضفاف الرافدين، فهل جف الفرات من البكاء !
موريه يستحضر (يؤنسن) المكان عندما يجعل من الفرات مجرى دمع لوطن حزين هو العراق جف فراته من البكاء، وفي هذا التصوير تكثيف للمعنى وتعميق للحزن، لأن العراق يبكي بحرارة، بعد أن استنزفه الألم وحرقته المعاناة حتى جفّ فراته، وإن كان الخيال الشعري ظلّ حريصا على أن يقيم جسرا مع الحقيقة، فلم يقل موريه: جف فيه ماء الفرات، بل قال: جف فيه الماء الفرات، فما يجري في العراق ليس الماء العذب الفرات الذي سقى العراقيين منذ آلاف السنين وجرى في دمائهم، بل هو شيء آخر انعكاس لواقع العراق الأليم بما فيه من دماء وجراحات وحقد وطائفية.
وفي قصيدة (لماذا) يبلغ الحس الإنساني عند موريه أبعد حدوده، وهو حس لا يعترف بفروق العرق أو الدين أو الملة، وأملى عليه أن يرفض أية عصبية، وأن يوحد كل الأديان في روحه ؛ يذكرها بمصدرها الواحد، فما فرق بين أديان كلها تعود إلى رب واحد، وكيف يمكن أن يجد تفسيرا في نفسه لكل الخوف الذي يبثه أتباعها في كل مكان في العراق وغزة وسديروت ودارفور.
قصيدته تلك كانت أشبه بنداء للجميع واستشراف لما يجب أن يكون عليه المستقبل، ترجم هذا الاستشراف من خلال تكراره أفعالا مضارعة استهلها بأداة المستقبل في الأفعال: سأطوف، سأرتدي، سأشتري، سأذهب، وحاول من خلال اللازمة التي تكررت في القصيدة بصور متقاربة: quot;ماذا ذنب أطفال غزة والعراق، لماذا تركتهم جائعين؟quot;، أن يوقظ البعد الإنساني الغائب في أصحاب الديانات السماوية، فالحج والمناجاة والصلب، أعمال هدفت إلى تطهير النفس، وربطها مع السماء برباط روحي، يجعلها تترفع عن حدود الفروق الضيقة.
في هذه القصيدة تبرز المثالية عند موريه، فالدعوة السابقة لا يمكن أن تصدر من نفس عادية، ولا يمكن أن يتجرأ عليها أي فرد آخر، ولكن لهذه الدعوة ما يبررها في أصول الشاعر العراقي، الذي نشأ في وطن يحتضن كل الأعراق، مما مهد له أن تتماهى نفسه مع العراق لتبلغ ذروتها عندما يصبح الشاعر العراق نفسه حاضن كل الملل والأعراق، ولا مانع لديه من أن يصلب نفسه لتخليص البشرية من آلامها في دارفور وغيرها.
ولن ينفك موريه عن البحث عن مخلص للبشرية من عذاباتها، ولو أدى ذلك إلى البحث عنه في ملل أخرى كالمجوس والبراهمة والدلاي، فلعله يجد لديهم نخوة للانتقام من الظلم الذي سكت عنه ذوو الديانات السماوية، في مقابلة تسهم في تجسيد ثنائية جديدة في شعره بين ما هو سماوي وما ليس بسماوي.
وفي قصيدة (الرحيل) تسيطر ثنائيتي الرحيل والعودة، والفراق والحنين على بنية النص الشعري وأجوائه، وينعكس ذلك، أيضا، على مستوى الخطاب الذي يقدمه موريه على شكل حوار قصصي بينه وبين أمه، يبدؤه بمشهد الرحيل ومبرراته، يتخلله الحنين ووصية الأم للابن، إذا دارت الأيام وتحقق حلم العودة إلى العراق بأن quot;يقبل الأعتاب ويسلم على الأحباب ويحيي الدارquot;، في مزج جميل، عندما يستحضر معنى اللقاء بين الحبيب وديار محبوبته بعد طول فراق من التراث الشعري العربي، يقدم موريه في آخره رؤيته ورؤية أمه للحل ؛ الذي يمكن أن ينهي الرحيل والفراق، ويحقق لقاء الشاعر بديار المحبوبة:
إذا ما زرت العراق
بعد طول الفراق
قبل الأعتاب
وسلم على الأحباب
وحي الدار
وانس ما كان منا ومنهم quot;!
عندما يُقلِّب موريه ذكريات الرحيل، يحمل صوت أمه الذي يزروه في أحلامه بعضا من التساؤلات والعتاب، تطل كمرآة تعكس آهات الشاعر من طول الفراق واستحالة العودة:
quot; أما زرت العراق بعد؟
أما قبلت الأعتاب؟ quot;
ويضم الشاعر صوته إلى صوت أمه لكن بنبرة من الحيرة والعجز:
تحطمت الصوراي وهوت القلوع
فكيف الرجوع؟
وقوله:
أماه، كيف أزور العراق؟
أما ترين كيف ينحر
عراقنا الحبيب،
أما الحلم فهو عند موريه بمثابة جسر تمدّ الأمّ فيه لابنها طريق العودة إلى العراق عبر الذكريات والآمال، الذي يصحو الشاعر منه على واقع يحول بينه وبين تحقيق حلمه، فلا العراق هو العراق، ولا هوية الشاعر تغيرت، في زمن يحاسب المرء على هويته وعرقه وملته ؛ فكان إغراق الشاعر لنصه بكم هائل من علامات التعجب والاستفهام معادلا أسلوبيا لأزمة الشاعر وألمه واستحالة عودته، ومعادلا لكثرة الحواجز التي تحول بينه وبين لقاء العراق:
خبريني بالله يا أمي !
كيف أعودُ؟
ولمن أعودُ !
ونحن يهودُ؟؟؟
تتجاوز الثنائيات عند موريه حدود البنية الفكرية إلى البنية الشكلية للنص، ففي قصيدة أهداها إلى أصدقائه العراقيين، يتناوب هوية القصيدة ضمير الشاعر الحاضر وضمير ليلاه بغداد الغائبة عنه، ويحاول من خلال الكثرة المفرطة لياء المتكلم أن يثبت حضوره رغم الغياب، وأن يسجل هويته المفقودة
فالعراق اليوم عندي
قبل رحيل العمر،
كأسي وراحي ومبكى شجوني !
أسلي بها حشاشة روحي وحنيني،
قبيل الرحيل
وهكذا، فإن عالم موريه هو إبحار في سفينة التاريخ الضائع، الذي أرغم الشاعر على الغرق في أعماق تاريخه، في صباه، بحثا عن الزمن الضائع، عن فرصة للقاء، يصنعها الحلم والحضور المجازي في عالم القصيدة بعيدا عن غياب يفرضه واقع الرحيل.
وأخيرا، يمكننا ان نقول إن قصائد الحنين عند موريه تعكس لواعج كل لاجئ ومغترب اجبر قسرا على ترك مسقط رأسه عنوة، في هذا العالم التي شردت الحروب الملايين وجعلتهم يحنون الى لمست لتراب الوطن، الى رشفة ماء من ينابيعه وانهاره، الى رؤية مرابع الطفولة واشجارها وسواحل انهارها وسماع تغريد طيورها، quot;حتى القمر، اجمل في بلادي،quot; ننتظر سطوعه، لينير ليل العراق.